رحلة اليقين ١٧: العظمة في كل مكان
لأنَّه لو مُثِّلتْ أنواعُ الكائنات أمامكَ
على جدار غرفتك في لوحةٍ كبيرةٍ
تحتوي كلُّ نقطةٍ منها على
صورةٍ لكائنٍ أو جزءٍ منه،
ثم أغمضتَ عينيكَ ووضعتَ إصبعكَ
عشوائيًّا على أيَّة نقطةٍ،
فإنَّ بإمكان العِلْم أن يُحدِّثك لساعاتٍ عن
عظَمة الإتقان والإحكام في هذه النُّقطة!
(مؤثرات صوتية)
السَّلام عليكم ورحمة الله
إخوتي الكرام، عندما نتكَّلم عن
الأدلَّة العقليَّة على وجود الله
فإنَّ أكثر دليلين يُذكران عادةً هما:
دليل الإيجاد، ودليل الإتقان
دليل الإيجاد للمخلوقات تكلَّمنا عنه
في حلقة (لماذا لا بدَّ مِن خالقٍ؟)
أمَّا دليل الإتقان فنبدأ بالحديث عنه اليوم
والحقيقة أنِّي أتهيَّبُ مِن الإقبال على الحديث
عن هذا الموضوع: موضوع الإتقان في الخَلْق
أتهيَّب؛ لأنَّه المهمَّة السَّهلة الصَّعبة
نعم، مِن السَّهل أن تتكلَّم عن إتقان الخَلْق؛
لأنَّه لو مُثِّلَتْ أنواعُ الكائنات أمامكَ
على جدار غرفتكَ في لوحةٍ كبيرةٍ
تحتوي كلُّ نقطةٍ منها على
صورةٍ لكائنٍ أو جزءٍ منه،
ثّم أغمضتَ عينيكَ، ووضعت إصبعك
عشوائيًّا على أيَّة نقطةٍ،
فإنَّ بإمكان العِلْم أن يُحدِّثك لساعاتٍ عن
عظَمة الإتقان والإحكام في هذه النُّقطة!
لكنْ في الوقت ذاته هناك صعوبةٌ
في الحديث عن الإتقان
صعوبةٌ؛ لأنَّ الحديث عن نموذجٍ ونموذجين
أو عشرةٍ وعشرين من الإتقان
يهضِم الموضوعَ حقَّه؛
فالإتقان مبثوثٌ في كلِّ تفصيلٍ
من تفاصيل هذا الوجود،
بل الإتقان يساوي الوجود
قال الله تعالى:
﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: 88]
وقال: ﴿ذَٰلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ [السجدة: 6-7].
لذلك فعندما أقول لك: تعال
نر نماذج من الإتقان
فهذا يساوي أن أقول لك: تعال
نر نماذج من الوجود؛
فالإتقان يساوي كلَّ شيءٍ في الوجود
إتقان الخَلْق يظهر في تَهْيِئة
لساني وفكَّيَّ وأسناني
لأستطيع التحدُّث لكم عن الإتقان في الخَلْق
يظهر في إبصاركم لي وسماعِكم صوتي وفهمِكم
كلامي واحتفاظكم في ذاكرتكم بما أقول
يظهر حتَّى في حركات المُنكِر الذي
يتأهَّب ليَسخَر، أو يُكذِّب ما أقول،
مع أنَّ كلَّ العمليَّات التي يقوم مِن خلالها بذلك
تشمل إتقانًا في تفاصيل خَلْقه!
نحن لا نُقدِّر حالة الإتقان والنظام والإحكام
التي نعيش فيها، لأنَّنا لم نجرِّب البديل عنها
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ [فاطر: 44]
آيةٌ عظيمةٌ حقًّا!
أكثر مِن تسعين عنصرًا طبيعيًا
مُكتشَفًا في هذا الوجود،
رُتِّبت نيوترونات كلٍّ منها وبروتوناتُه
في أنْوِيَةٍ محدَّدة الحجم بدقّةٍ،
تجذِب الإلكترونات في مداراتٍ
بالأبعاد اللازمة،
هذه العناصر تفاعلت بقوانين كيميائيةٍ ثابتةٍ
لتعطي مُركَّبات، فتهيَّأت الفرصة للحياة
غلافٌ جويٌ بالارتفاع والكثافة المناسِبَينِ
يحتوي غازاتٍ بالنِّسب اللازمة،
وينقل الموجات الصوتيَّة بسرعةٍ مضبوطةٍ
تربةٌ مهيَّأةٌ لاستقبال البذور
واختزان ماء الأمطار
ماءٌ بِلُزوجةٍ وخواصِّ إذابةٍ محدَّدةٍ،
يتبخَّر عند درجة حرارةٍ معيَّنةٍ ليُشكِّل السُّحب،
ويتكثَّف عند درجةٍ أخرى ليهطل مطرًا،
وكلُّ ذلك بالمقادير المناسبة
لدورته في الطبيعة
ضوءٌ يسيرُ بالسُّرعة المناسبة
جاذبيةٌ أرضيةٌ بالمقدار اللازم، بحيث لا نَسبح
في الهواء، ولا تلتصق أقدامنا في الأرض
أرضٌ تدور بسرعةٍ دقيقةٍ لليلٍ
ونهارٍ يتعاقبان للنَّوم والعمل
فصولٌ أربعةٌ تجدِّد النَّفس وتُحيي الثمار
بُعدٌ دقيقٌ للشَّمس، فلا تحرقنا، ولا نتجمَّد
آلاف المليارات من الكواكب والنجوم
تسير بسرعةٍ مناسبةٍ في مداراتٍ
محدَّدةٍ بدقّةٍ شديدةٍ، فلا تصطدم
نشأنا ونحن نرى الكون هكذا، فاعتدنا عليه
ولا نتصوَّر كم هو مذهلٌ مدهشٌ؛
لأنَّنا لم نرَ حالةً ليس فيها نظامٌ!
نحن نعرف معنى الشَّبع، لأنَّنا جرَّبنا الجوع؛
نعرف معنى الرَّاحة، لأنَّنا جرَّبنا التَّعب؛
وبضدِّها تتميَّز الأشياء...
لكنَّنا لا نُقدِّر عظَمة النِّظام والإتقان؛
لأنَّنا لم نر حالةً ليس فيها إتقانٌ
بمعنى آخر، لا نقدِّر عظَمة وجود الله،
لأنّنا لم نجرِّب حالةً ليس فيها الله!
لو أنَّ الأرض لا تدور،
وكنَّا في الجزء المضيء دومًا ولم يحجِب
نورَ الشمس عنَّا في بيوتنا حاجبٌ
لما عرفنا معنى النور، لأنَّنا لا نعرف
معنى الظَّلام؛ إذْ لم نجرِّبه يومًا
ولو حدَّثَنا محدِّثٌ حينئذٍ عن
أهمية النور لما فهمناه؛
لأنَّنا لا نتصوَّر الظلام الذي يبدِّده هذا النُّور
كذلك لم نجرِّب حالةً ليس فيها إتقانٌ،
ولم نجرِّب حالةً ليس فيها الله
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النور: 35]
ونوره لا يغيب؛
لأنَّه ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾
[البقرة: 35].
لذلك فعندما نَذْكر في هذه السلسلة
ما يقوله الإلحاد
فإننا نرسم الظلام حتى نستطيع أن
ندرك قيمة نور الله بالمقارنة به
نرسم الظَّلام الذي لم نشاهده يومًا
ولن نشاهده؛ ظلامَ عدم وجود الله
في حلقة (كيف يهدم الإلحاد العقل والعِلْم)
بيَّنا أن وجود الله هو القاعدة التي
تتأسَّس عليها حقائق الأشياء،
وأنَّ إنكار وجوده يؤدّي إلى إلغاء
قيمة العقل والعِلْم التجريبيّ،
وإلى القول بأنَّ الأشياء لا حقائق لها
وفي الحلقة التي تليها بيَّنا أنَّ وجود
إلهٍ بصفات الكمال المُطْلَق
هو الأساس الوحيد الذي يمكن
أن تقوم عليه الأخلاق
كثيرٌ من الإخوة وجد صعوبةً في فهم هذا الكلام؛
لأنه ببساطةٍ لم يستطِع تصوُّر
حالةٍ ليس فيها نور الله
عندما نتكلم في الحلقات القادمة عن
بعض مظاهر الإتقان في الخَلْق،
ما الذي نفعله بذلك؟
نحن نُعتّم صورة الكون الكليَّة، ونترك
النور في هذا الجزء المحدَّد؛
لنستطيع أن نراه، ونعطيه شيئًا من قَدْره،
بعدما ألِفناه طويلًا ولم نحسَّ
بالعظَمة في إتقانه!
ما ذكرناه وما لم نذكره من قوانين
ضابطةٍ تسمح بالحياة؛
لو اختلَّ شيء منها ولو بمقدارٍ ضئيلٍ
لما بقيتْ حياةٌ
ولزالتْ حالة النِّظام والتناسق في الكون!
مَن يُمسك الجسيمات في الذَّرَّات أن تتناثر؟!
مَن يُمسك طاقة الذرَّات أن تتحرَّر وتتفجَّر
كما تتحرَّر الطاقة في القنابل الذريَّة؟!
مَن يُمسك المخلوقات على الأرض أن تتطاير؟!
مَن يُمسك الكواكب والنجوم أن تصطدم؟!
﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن
زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ﴾ [فاطر:41]
ستقول: تمسكها القوانين
هذه القوانين، هل هي فاعلٌ مُريدٌ حيٌّ؟!
هل قانون الجاذبية -مثلًا- إلهٌ
مُريدٌ مُختارٌ يعلم ما يفعل؟!
هذه القوانين ما هي إلا أوصافٌ لما يحصل،
لا أنَّها فاعلٌ مختارٌ يُسبِّب ما يحصل
هي اوصاف لآثار افعال الله تعالى في خلقه
فقناعتنا بأنَّ الله ﴿يمسك السماوات والأرض
أن تزولا﴾ [فاطر: 41]
ليست لأنَّ القرآن يقول ذلك فحسب؛
بل ولأنَّ هذا هو المقتضى العقلي لكون
القوانين خواصَّ غير عاقلة لا تُنشئ نفسها
القوانين ما هي إلا أوصافٌ
لأفعال الله في خَلقِه
القوانين ليست بدائل عن
قيوميَّة الله على خَلقِه
عندما نقول مثلًا: الماء يغلي على درجة
حرارة 100مئوي؛ فهي جملةٌ مختصَرة
لو أردنا أن نُكملها، فأيُّ الجُمل
التالية تراها أولى بالصَّواب:
اللاشيء أوجَد الماء وجعله -صُدفةً-
يغلي على 100 مئوي؟!
أم الماء أوجد نفسه وجعلها تغلي
على هذه الدرجة صُدفةً؟!
أم الله أوجَد الماء وجعله يغلي على
هذه الدرجة عن علمٍ وحكمةٍ
ليؤدِّي وظيفةً في كونٍ مخلوقٍ لغايةٍ؟
القوانين ما هي إلا أوصافٌ
لأفعال الله تعالى في خَلقِه
وجود القوانين ووجود الخواصِّ للأشياء
لا يعني أنَّ حالة الإتقان هذه
أصبحت ذاتيةً تلقائيةً مُستغنيةً عن الخالق
والمسبِّب الأول لكلِّ شيء
لو قلتُ: فلانٌ يكتب بسرعة 100كلمةٍ في
الدَّقيقة، هل هذا قانونٌ حاكمٌ يحكم فلانًا؟!
هل لو قرَّر فلانٌ التوقُّف عن الكتابة فإنَّ
أزرار الكومبيوتر ستنضغط تلقائيًا
بسرعة 100 كلمةٍ في الدقيقة؟!
فالقوانين أوصافٌ لفعل فاعلٍ مختارٍ
نشأنا ونحن نرى الكون بهذا النِّظام
فأصبح هذا النِّظام هو الحالةَ الافتراضيَّة
التي لا نتصوَّر غيرها،
وتعاملنا وكأنَّ خواصَّ الأشياء
ذاتيَّةٌ فيها، تلقائيَّة،
وكأنَّ الجمادات اختارت عن عِلْمٍ
وإرادةٍ أن تكون لها هذه الخواصُّ
ولو تفكَّرنا لشاهدنا تجليَّات
القدرة الإلهيَّة في جميع الموجودات،
ولم نرَ مؤثِّرًا في الوجود سوى الله،
ولعلِمنا أنَّه ليس هناك شيءٌ
ذاتيٌّ على الحقيقة إلَّا الخالق
والسَّبب الأوَّل، والمحرّك الأوَّل لكلِّ الخلائق؛
فهو الَّذي يعطي الجمادات خواصَّها
لذلك ترى القرآن ينسب أفعالًا كثيرةً إلى الله
مع أنَّها مُحدَّدةٌ بقوانين وبقوى الطبيعة؛
﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ [الرعد: 17]
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا﴾ [النور: 43]
﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [يونس: 22]
أنزل من السَّماء ماءً بخاصيَّة
التكاثف التي خَلَقها في الماء
يُزجي سحابًا بالرِّياح التي تنشأ من خواصِّ
التَّضاغُط والتَّخلخُل التي خَلَقها في الهواء
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ
وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَـٰنُ ۚ
إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾ [الملك: 19]
وزِمام الموادِّ كلِّها والقوانينِ كلِّها
والخواصِّ كلِّها بيده -سبحانه-
والموجوداتُ كلُّها -مِن أصغر الجُسَيْمات
إلى أعظم الأجرام- مُفتقرةٌ إليه
ليس لها ذاتيَّةٌ ولا تلقائيَّةٌ ولا غِنى
لها طَرفةَ عينٍ عنه -سبحانه-؛
فهو ﴿اللَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]
الَّذي يقوم على أمر السَّماوات والأرض
﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255]
إذْ لو حصل هذا لزالت السَّماوات والأرض
لكنْ ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
أَن تَزُولَا﴾ [فاطر: 41].
وإذا اتَّضح هذا المعنى لنا فإنَّنا سنُوقِن أنَّه ليس
هناك كائنٌ عاديٌّ في ذاته، وآخر عجيب،
وإنما الاعتيادُ مِن طرفنا نحن
لطول الأُلْفة بمشاهدة كائنٍ ما
وإلَّا فكلُّ ما في الوجود عجيب!
وإذا استقرَّ هذا في نفوسنا فلن نستخدم
عبارةً مثل: "التَّدخُّل الإلهي"؛
إذْ ليس في الكون ذاتيَّةٌ ولا تلقائيَّةٌ
على الحقيقة أصلًا،
حتى يتدخَّل الله في شيءٍ فيه،
بل لا يستغني شيءٌ منه عن
إمساك الله له طَرْفة عينٍ
كانت هذه مقدِّمةً مهمَّةً لا أسمح لنفسي أن
أستعرض نماذج من الإتقان في الخَلْق قبلها،
وعلى ضوئها نُورِد هذه النماذج في الحلقات
القادمة -بإذن الله-
والسلام عليكم
(مؤثرات صوتية)