فك تثبيت
→ جميع الحلقات حلقة 30 من 69

رحلة_اليقين ٢٦: أجرني عقلك

(مؤثرات صوتية) السَّلام عليكم. رأينا في الحلقة الماضية أنَّ من أساليب أتباع خرافة التَّطوُّر: الخلط بين الحقائق والخرافة. حتَّى يمرَّ عليك هذا الخلط يحتاج بعض (البهار) من الإبهار؛ الإبهار برجالات خرافة التَّطوُّر. لذلك عندما تَسمع من بعض عرَّابي الخرافة من بني جلدتنا من يُمجِّد العلماء التَّطوُّريين: داروين "Darwin" كان وكان! فلانٌ عالمٌ عظيم! الآخر عالمٌ كبيرٌ جدًّا جدًّا! كَتبَ في هذه الظَّاهرة كتابًا من (600) صفحة! بحث في تلك الظَّاهرة (20) سنة! فلانٌ حاز على جائزة نوبل "Nobel"! والآخر على لقب سير "Sir" في العلوم! كذا بالـمئة من علماء الطَّبيعة يؤمنون بنظريَّة التَّطوُّر. عندما تسمع مثل هذه العبارات، فهي كثيرًا ما تكون محاولاتٍ للطَّلب منك أن تؤجِّر عقلك لهم. كأنَّه يقول لك: هم يعرفون أكثر منك، أذكياءٌ يفهمون أكثر منك، جهِّز نفسك، ستسمع كلامًا غريبًا، لكنْ عليك أن تقتنع به؛ لأنَّ القائل به هم هؤلاء العظماء! إذا خالف كلامهم عقلك فلا تتَّهم صِدْقَهم أو صحَّة استنتاجاتهم بل اتَّهم عقلك! لا تحاولْ أن تتأكَّد بالنَّظر في التَّجارب الَّتي منها وصلوا إلى استنتاجاتهم؛ لأنَّك لن تفهم. يعني ماذا؟ يعني تُريدني أن أُلغيَ عقلي وأتَّبِعَهم على عمى؟! تريدني أن أُقلِّدهم في استنتاجاتهم -مهما سَخُفت- لأجل عِلمهم وألقابهم؟! أتعلمون -إخواني- تأجيرُ العقل هذا جريمةٌ ولو مارسْتَها مع مَن هو أعلم منك بالدِّين؛ مطلوبٌ منك اتَّباع العلماء أي نعم، لكن ما تكلّموا بعلم، ولا يَكتسبون يومًا قدسيَّةً تُصحِّح كلامهم دون هذا الشَّرط؛ ألم تر كيف ذمَّ الله -عزَّ وجلَّ- أهل الكتاب بقوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ [التوبة:31] هؤلاء الأحبار والرُّهبان كانوا أعلم بالدِّين ولا شكّ، لكنَّهم لمَّا أحلَّوا الحرام وحرَّموا الحلال وخالفوا المسلَّماتِ المعلومةَ بالضَّرورة الواضحة من نصوص الوحي لكلِّ عاقل كان من الجريمة أن يؤجِّر لهم عامَّة النَّاس عقولهم ويتَّبعوهم على باطلهم اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَـٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:37] كان رجال الكنيسة يقولون للنَّاس: لا تقرؤوا الكتاب المقدَّس وَحْدكم، لأنَّكم لن تفهموه وستضلِّون، فجاء كهنة العلم الزَّائف ليقولوا للنَّاس: لا تقرؤوا الكون وحدكم؛ لأنَّكم لن تفهموه وستَضلِّون، فنَقَلوهم مِن مستأجرٍ لعقولهم إلى مستأجرٍ آخر. جاءت الثَّورات العربية، ثمَّ الثَّورات المضادَّة وفي هذه أو تلك ظهر زيف بعضِ المنتسبين إلى العلم والدَّعوة، فكفرَ بهم الشَّباب، وندموا على اليوم الَّذي وَثِقوا فيه بهم، وطردوهم من عقولهم وقلوبهم، وظنَّوا أنَّهم بذلك حرَّروها. لكنَّهم بدلًا من البحث عن قدُواتٍ صادقةٍ وبذل الجهد في تحرِّي الحقِّ كأنَّ عقولهم اعتادت الكسل، وقلوبهم اعتادت التَّعلُّقَ بالأشخاص لا المبادئ، فبحثوا عن مستأجِرٍ آخر لها، فأجَّروها لكهنة العلم الزَّائف، وبئس البديل! ظنَّوا أنفسهم حرَّروا عقولهم، وإنَّما هو تغييرُ مستأجِر! علماءُ الطَّبيعة أعلم بحقائق علومهم: صحيح. أمَّا الانتفاع بهذه الحقائق: فتوفيقٌ وهداية، ويحتاج سلامة القلب، وحُسن القصد كالعلم الشَّرعيِّ تمامًا؛ مثلما هناك أناسٌ يحفظون القرآن والسُّنَّة وأقوالَ العلماء؛ ولا ينتفعون بها بل ويوظِّفون علومهم في تضليل النَّاس، فهناك علماءُ طبيعةٍ لا ينتفعون بعلومهم بل ويوظِّفونها في تضليل النَّاس. ما السَّبب؟ هل هو خوفٌ من اللُّوبي الدَّارويني؟ هل لأنَّ البديل لديهم دِينٌ محرَّفٌ غير مُقنِع؟ هل لعُقَدٍ نفسيةٍ أصابتهم من تصرُّفات الكنيسة في القرون الوسطى؟ هل هو حرصٌ على المناصب الأكاديميَّة؟ هل هو تربُّحٌ واكتسابٌ وصُعودٌ على ظهر الخرافة؟ هل هم يتظاهرون -كذبًا- أنَّهم مقتنعون بالخرافة؟ أم أنَّهم اتَّّبعوا أهواءهم؛ فعَمِيَت بصائرهم حتَّى اقتنعوا بالخرافة بالفعل؟ لماذا يُظهرون إيمانًا بخرافة التَّطوُّر؟! ليس هذا موضوعنا الحالي، وإن كنَّا سنتعرّض لاحقًا للأسباب -بإذن الله-، لكنْ -مهما كان السَّبب- لا تطلب منِّي أن أؤجِّر عقليَ لهم. أن يكون لدى هؤلاء علمٌ كبيرٌ، ومع ذلك يُحجَبون عن أكبر الحقائق وأوضحها، يتكلَّمون بمهارةٍ مُبهرةٍ عن الحقائق، ثمَّ لمَّا يأتون للاستنتاج يخالفون بدهيَّات العقل هذا كلُّه ليس دليلًا على أنَّ خَلْق الكائنات عن قصدٍ وإرادةٍ مسألةٌ تحتمل الخلاف؛ بل طَمْسُ بصيرتهم مع ذكائهم هو مظهرٌ من مظاهر قدرة الله إذ يَحجُب أتباع الهوى عن الحقّ. تأمَّل معيَ هذا المعنى في الآية الّتي تهزُّ القلوب: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّـهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّـهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23] لذلك فعندما يقول لك عرّابو الخرافة: (داروين) بقي يؤلِّف كتابه (أصل الأنواع) (20) سنة! فبدل أن تنبهر قل: "اللّهمّ إنِّي أعوذ بك من علم لا ينفع" إذا لم يكن من الله عونٌ للفتى فأوَّل ما يقضي عليه اجتهادهُ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [البقرة:217] كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [النور:39] لذلك -إخواني وأخواتي- عمَلُنا في هذه الحلقات ليس أن أحشِد لك أسماء العلماء الَّذين ينكرون خرافة التَّطوُّر، ومقولاتهم في ذلك، لن أقول لك: لا تؤجِّر عقلك لريتشارد دوكينز "Richard Dawkins" وتعال أجِّره لمايكل دانتون "Michael Denton" لأنَّه أعلم، أو أبحاثه أكثر؛ بل هم رجالٌ، ونحن رجال. والعجب ممَّن يستخدمون هذه العبارة مع أئمَّة الإسلام ولا يستخدمونها مع ريتشارد وسام وجون بل يريدوننا أن نؤجِّر عقولنا لهم! العجب ممَّن يقلِّل من شأن الإجماعات في العقيدة والتَّفسير ويجوِّز أن يكون علماء الأمَّة لـ(14) قرنًا قد أخطؤوا الفهم الصَّحيح! بحُجَّة أنَّهم رجالٌ ونحن رجال، ثمَّ هو طفلٌ مستسلمٌ عالةٌ على علماء الغرب مؤجِّرٌ عقله لهم، وداعٍ غيرَه لتأجير عقولهم معه لهم! عمَلُنا في هذه الحلقات ليس أن نحشد لك الأسماء، لن نكون مثل صاحبنا -الَّذي تكلَّمنا عنه في الحلقة الماضية- الَّذي بهر صديقه بمعلوماته الصَّحيحة عن هولندا وكأنَّه ينوِّمه مغناطيسيًّا؛ ليمرِّر عليه بعدها خرافتَه عن (فيتامين) النَّجاح. عمَلُنا في هذه الحلقات هو أن نبسِّط المفاهيم العلميَّة الَّتي تُذكَرُ لدى الحديث عن التَّطوُّر تبسيطًا يجعلها في متناول عامَّةِ النَّاس، ونرُدَّ إلى العقل اعتباره ليَحكُم بعيدًا عن التَّضليل. فنحن أسعدُ بالعقل، وقضيَّتنا معه رابحة؛ لأنَّنا نؤمن بعقلٍ خَلَقه الله عن علمٍ وإتقان، لنميِّز به الحقائق، لا بعقلٍ جاءت به تراكمات الصُّدف العشوائيَّة فلا ضمانة لأن يعرف حقًّا، أو يهتدي سبيلًا. محاولة الإثباتِ بأنَّ فلانًا وفلانًا من العلماء يقول بالتَّطوُّر تُسمَّى في علم المغالطات المنطقيَّة: (مغالطة الاحتكام إلى سُلطة)؛ يعني شخصيَّاتٌ مشهورةٌ في المجال (بالإنجليزية) الاحتكام إلى سلطة "Appeal to Authority" وكذلك حَشدُ أعداد المُقرِّين بخرافة التَّطوُّر وإعطاءُ نسبٍ مئويَّةٍ لهم من بين علماء الطَّبيعة يُسمَّى (مغالطة الاحتكام إلى الأكثرية). المغالطات المنطقيَّة نتركها لمؤجِّري العقول ومستأجريها. أمَّا نحن؛ فلا تتوقَّع -أبدًا- أن نردَّ على بحثٍ ينصر الخرافة ببحثٍ يعارضها، أو على مقولةٍ لعالمٍ بمقولةٍ لآخر هكذا دون تمحيص، فالمسألة ليست: (جِبنا فيكم جول وجبتو فينا جول) وتعالوا نعدَّ (الأجوال) لن نكون انتقائيِّين؛ ننتقي من الأبحاث ما يخدم عقيدتنا، ونتعامى عمَّا يخالفها، ونُمجِّد مَن يقول بما نريد، ونحطُّ مِن قَدْرِ مَن يُخالفنا هكذا بالمزاج. فهذه طريقةٌ غير منهجيَّةٍ يُتقنها أنصارُ الخرافة، وسنتركها لهم. أمَّا نحن؛ فسنرى ما يدلُّ عليه العقل أوَّلًا، ثمَّ نرى الأبحاثَ والمشاهداتِ المؤيِّدةَ والمعارِضةَ لما يدلُّ عليه العقل ونحلِّل؛ أين مَكْمَن الخلل؟ على هذا ترتكز أدلَّتنا. قد نذكر بعد ذلك أقوالًا لعلماء الطَّبيعة لا على سبيل الاستدلال بها وإنَّما مَزيد طمأنةٍ على أنَّّ الفهم الَّذي نذكره ليس شيئًا غريبًا. إذَن -إخواني- فأوَّل أسلوبين يستخدمهما أنصار الخرافة لترويج باطلهم: أسلوب الخلط بين الخرافة والحقائق، وأسلوب الإبهار لإقناعك بتأجير العقل. في الحلقات القادمة: سنتكلَّم -بإذن الله- عن أساليب أخرى فتابعوا معنا.. والسَّلام عليكم ورحمة الله. (مؤثرات صوتية)
التالي ←
رحلة_اليقين ٢٧: خاطبهم كأطفال - الدكتور إياد قنيبي
حلقة #31 · 13 دفيفة