رحلة اليقين ٣٤: أكل زيد لحم الكلب - تشابه الجينات دليل لنظرية التطور أم عليها؟
السلام عليكم
إذا أطلَّ عليك الإعلامُ يومًا بخبرٍ عاجل:
نسبة نجاح رئيس البلاد في دورته
الرئاسيَّة الـ (20) هي (99٪)
وبالتالي فما في البلاد من خيرٍ
وصلاحٍ، وتفوُّقٍ ونجاح،
وتقدُّمٍ وفلاحٍ، في المساء والصباح،
إنَّما هو بفضل سيادة الرئيس
فأظنُّك لن تأخذ وقتًا طويلًا لتُدرِكَ أنَّ
بروباغاندا "Propaganda" الزعيم
تَكْذب في النسبة، وتَكْذب في الاستنتاج كذلك
وهو تمامًا ما تفعلُه بروباغاندا
الخُرافة حين تدَّعي
أنَّ نسبة التشابه بين الإنسان والشمبانزي
في المادَّة الوراثيَّة هي (99٪)
حيث بيَّنَّا في الحلقة الماضية
كيف تمَّت صناعة هذه الكذبة في
مطبخ الخُرافة عبر عِدَّة خطوات
والحلقة كانت صدمةً كبيرةً للكثيرين
صدمة اليوم أكبَر -إخواني-
وهي عندما نرى الاستنتاج الذي
تريدُ بروباغاندا الخُرافة
أن تبنِيَه على هذه النسبة الكاذبة
فصلٌ مُميَّز من فصول احتقار
كهنة الخُرافة لعقول الناس
نرى معه فصولًا من العظَمة
والإبداع والقدرة الإلهيَّة
فتابعوا معنا...
لنفترض أن نسبة التشابه (99٪) بالفعل
ماذا تريدون من الناس أن يستنتجوا
من هذا يا كهنة الخُرافة؟
هل تريدونهم أن يستنتجوا أنَّ الإنسان
هو شمبانزيٌّ أو قردٌ بنسبة (99٪)
كما يوحي عنوان كتابكم الصادر
من متحف التاريخ الطبيعيِّ
في لندن، بالتعاون مع مطبعة
جامعة شيكاغو في أمريكا؟!
هل تريدون أن توهِموا الناس
بأنَّ المسألة سهلةٌ على طفراتكم
العشوائيَّة وانتخابكم الأعمى؟!
حيث ما كان عليهما إلَّا أن يُحدِثا فَرْق الـ (01٪)
فبقي التشابه في المادَّة الوراثيَّة (99٪)
ومن ثمَّ سارت باقي العمليَّات تلقائيًّا،
أوتوماتيكيًّا كأحجار الدومينو
دون حاجةٍ إلى خالقٍ عليم؟!
هل تشابهت البروتينات الناتجة عن المادَّة
الوراثيَّة بنسبة (99٪) أيضًا؟!
وكذلك أجهزة الجسم بنسبة (99٪)؟!
ومن ثمَّ تشابهت القدرات العقليَّة
والمشاعر التي تعزونها لأسبابٍ مادِّيَّة
بنسبة (99٪) بين الإنسان والشمبانزي؟!
وعليه، وحسب مجلَّة نايتشور
"Nature" التطوُّريَّة المعروفة
عندما نرى أنَّ (99٪) من جينات أحد
أنواع الفئران لها شبيهاتٌ في الإنسان
فهل هذا يعني أنَّ البشر -يا كهنة
الخُرافة- فئرانٌ بنسبة (99٪)؟!
وعندما تذكُرُ المؤسَّسة القوميَّة
الأمريكيَّة للصحَّة:
أنَّ (60٪) من جيناتنا وجينات الذباب متشابهة
فهل يعني هذا أنَّ البَشَر ذبابٌ بنسبة (60٪)؟!
وعندما نرى أن كروموسوم إكس "X" -المُمَيِّز
للأنثى- متشابهٌ بنسبة (69٪) مع الشمبانزي
وكروموسوم واي "Y" -المُمَيِّز
للذكَر- مشابهٌ بنسبة (43٪)
فهل يعني هذا أنَّ النساء أقرب للشمبانزي
مرَّةً ونصف من الرجال؟!
لو قارنَّا كتابين ووجدنا
تشابهًا بنسبة (99٪) مثلًا
في كلمات الكِتابيْن، دون النظر إلى
ترتيب الكلمات وتوظيفها في سياقها
فهل نستطيع أن نقول أن الكتابين يصلان
إلى نفس النتيجة بنسبة (99٪)؟!
هل لو قلتُ لك: "أكَلَ الكلبُ لحمَ زيد" فإنَّها
بنفس معنى "أكَلَ زيدٌ لحمَ الكلب"؟!
نسبة تطابقٍ (100٪) في الكلمات،
ومع ذلك، فالمعنى مختلفٌ تمامًا
لو قلتُ لك: آكُلُ وأشرَبُ وأقومُ وأنامُ
وأذهبُ وأعودُ و... و... إلى آخره
ثم وضعتُ قبلها "لا" النافية، بحيث أصبحَت
نسبة التشابه في كلمات الجملتين (90٪)
فهل الجملتان متشابهتان في
المعنى بنسبة (90٪)؟!
هل هذا ما تعنونه يا كهنة الخُرافة؟
وإلا فماذا تريدون من الناس أن
يستنتجوا من نسبة الـ (99٪) هذه؟
أو لعلَّكم تريدون أن تقولوا: لا!
ما قَصَدْنا أنَّ الإنسان شمبانزيٌّ بنسبة (99٪)
إنَّما نقصِد أنَّ فرق الـ (01٪)
بين الإنسان والشمبانزي
هو الذي سبَّبَ هذا الفَرقَ الكبير جسميًّا
وفكريًّا وحضاريًّا بين الكائنين
وكذلك الاختلافات الكبيرة بين الكائنات
هي نتيجةٌ لهذه الاختلافات
الطفيفة في المادَّة الوراثيَّة
أها!
طيِّب، فسؤالنا لكم حينئذٍ: هل هذا يكون عملَ
العشوائيَّة والانتخاب الطبيعيِّ الأعمى؟
لو أنَّك رأيت على جهاز كمبيوترٍ قصيدةً طويلةً
تصِفُ الإنسان وصفًا كاملًا دقيقًا مُفَصَّلًا
تصِف حياتَهُ، أجزاءَ جسمه، عواطفَهُ، نوازِعَهُ
قصيدةٌ موزونةٌ جميلةٌ لا خلل فيها
ورأيتَ على الجهاز نفسِه أيضًا قصيدةً
كاملةً تَصِفُ الشمبانزي وصفًا كاملًا
قصيدةٌ موزونةٌ، لكن بوزنٍ وترتيب كلماتٍ مختلفٍ
ووجدتَ كذلك قصيدةً تصِفُ الفأر، وأُخرى تصِفُ
الحصان، وأُخرى تصِفُ الحوت، وهكذا...
ووجدتَ أنَّ هناك تشابهًا في عددٍ كبيرٍ
من الكلمات بين هذه القصائد كلِّها
ومع ذلك فقد وُظِّفت الكلمة الواحدة كلَّ مرَّة
توظيفًا مختلفًا متناسبًا مع
السياق ليُنتِج معنًى مختلفًا
ولم يكن على الجهاز أيُّ كلامٍ عبثيٍّ ولا مختلِط
فهل هذا دليل عشوائيَّةٍ عابثةٍ أخرجت
القصائد بعضها من بعض؟!
أم أنَّ التشابه في الكلمات مع
الاختلاف الكبير في المعنى
يكون دليلَ تفنُّنٍ وقدرةٍ وإتقانٍ من المؤلِّف؟!
فكيف إذا كتب ملايين القصائد الجميلة
المتناسقة، بكلماتٍ كثيرٌ منها مشترَك؟
تعالوا نتنازل معكم لأبعد
حدٍّ يا كهنة الخُرافة
لو افترضنا بالفعل
أن النسبة: (99٪)
وأنَّ الفرْق الهائل بين الإنسان والشامبانزي
هو نتيجة هذه الـ (01٪) فقط
وأن العشوائيَّة والانتخاب الأعمى هما من
صَنع هذين الكائنين وفرَّق خصائصهما
من خلال هذه الـ (01٪) اختلاف
أجيبونا حينئذٍ:
كيف تفسِّرون الفرْق بين خلايا الجسم الواحد
وليس بينها أيُّ اختلافٍ في المادَّة الوراثيَّة؟
لا (01٪) ولا واحد في الألف!
ألا يعلم طالب المرحلة الإعداديَّة
أنَّ نسبة التشابه في المادَّة الوراثيَّة
بين خلايا الإنسان الواحد
هي (100٪) بالضبط؟!
ومع ذلك، فهل خليَّة العظم
مثل الخليَّة العصبيَّة؟!
وهل خليَّة الدماغ مثل خليَّةٍ في آخر الأمعاء؟!
إن كان الجواب بـ: لا
فماذا تريدون من الناس أن يستنتجوا
من نسبة (99٪) هذه؟
وكيف تبنون عليها صحَّة أن العشوائيَّة والعَماية
هما سبب ما في الكون من دابَّة
كما استنتج إعلام الزعيم أنَّ كلَّ
نجاحٍ في بلاده هو بسببه؟
اِطرَح هذه التساؤلات على كهنة الخُرافة
ثمَّ ذرهم في طغيانهم يعمهون
وتعال معنا لنرى كيف أنَّ أحرف المادَّة
الوراثيَّة ليست إلا بدايةً لقِصَّة
بينما المزيد من تفاصيل الحكمة والقدرة
والإعجاز تكمن في ترجمة هذه الحروف
كيف يتمُّ التنوُّع الكبير في خلايا الجسم
الواحد مع تطابق المادَّة الوراثيَّة؟
وكيف يتمُّ التنويع الكبير بين الكائنات
مع التشابه في المادَّة الوراثيَّة؟
هذا موضوعٌ من أبدع وأجمل ما يكون
وفيه قصصٌ كثيرةٌ من قصص عظَمة الخَلْق،
سنطَّلع معًا الآن على جزءٍ صغيرٍ منه
جسمك مؤلَّف بشكلٍ رئيسٍ من بروتينات
والتي تتجمَّع بأشكالٍ مختلفةٍ
لتُشكِّل جسيماتٍ صغيرة
كلٌّ منها له وظيفته داخل الخليَّة
مجموعة الخلايا تعطي نسيجًا
مجموعة الأنسجة تعطي عضوًا
ومجموعة الأعضاء تعطي جهازًا
كالجهاز الهضميِّ مثلًا
وهكذا تتشكَّل أجهزة الجسم المختلفة
ومن مجموعها يتألَّف جسم الإنسان
طيِّب، ما هو عدد البروتينات التي
يمكن أن تتواجد في جسم الإنسان
بما في ذلك الأجسام المضادَّة
أنتيباديز "Antibodies"
ذات التنوُّع الهائل
والتي ينتجها الجسم ضدَّ الميكروبات الغازية؟
تجيبك هذه الورقة
المنشورة عام (2018)
في مجلَّةٍ من مجموعة "نايتشور" بأنَّ
العدد يصل إلى المليارات
المليارات!
يعني آلاف الملايين من البروتينات المختلفة
هذه البروتينات تَنتُج من قراءة المادَّة الوراثيَّة
التي يتكلَّم كهنة الخُرافة عن
نسبة تَشابُهها بين الكائنات
طيِّب، كم عدد الجينات التي تتمُّ
قراءتها لإنتاج هذه البروتينات؟
حوالي (20) ألف جينٍ فقط،
حسب ورقة الـ (2018) نفسها
وهذه -بالمناسبة- كانت صدمةً عند الانتهاء
من مشروع "الجينوم الإنسانيِّ"
أنَّ عدد الجينات أقلُّ بكثيرٍ من المتوقَّع
كيف يمكن إنتاج مليارات البروتينات
من (20) ألف جينٍ فقط؟
سأعطيكم بدايةً مثالًا توضيحيًّا، نربطه
بعد ذلك بالإجابة عن هذا السؤال
دخلتَ على جهاز كمبيوتر فرأيتَ
فيه (03) ملفَّات مُعَنونة بـ :
قِصَّة الإنسان... قِصَّة الطيور...
وقِصَّة الأسماك
فتحت هذه الملفَّات، فرأيت في بداية كلٍّ
منها سطورًا من حروفٍ مقطَّعة
من بينها السطر التالي...،
نفس السطر تمامًا موجودٌ في هذه الملفَّات كلِّها
في ملفِّ قِصَّة الإنسان، في الصفحة الأولى منه،
رأيتَ النُسَخ التالية من هذا السطر...،
هذه النسخة هي نفس الأصليَّة؛ لكن مع
إزالة الفواصل أو الشرطات "DASHES"
وهذه النسخة هي نفس الأصليَّة؛ لكن مع إزالة
الفواصل بالإضافة لبعض الأحرف في الوسط
وهذه النسخة هي نفس الأصليَّة؛
لكن مع إزالة الفواصل بالإضافة
لبعض الأحرف المختلفة أيضًا
ثمَّ وجدْتَ تحت كلٍّ من هذه النسَخ جملةً مفيدة
هذه الجملة هي عبارةٌ عن ضمِّ الحروف
المقطَّعة في النسخ لبعضها البعض
مع إضافة الحركات اللازمة
الجملة الأولى: يأكل الإنسانُ الطيورَ
والأسماكَ الكبيرةَ والصغيرة
الثانية: يأكل الإنسانُ الطيورَ
الكبيرةَ والصغيرة
الثالثة: يأكل الإنسانُ
الأسماكَ الصغيرة
ثلاث جملٍ مفيدةٍ، صحيحة المعنى، تناسب الإنسان
وفي الصفحات التالية من ملفِّ قِصَّة الإنسان،
رأيت جملًا مؤلَّفةً من سطورٍ أخرى
ثمَّ في الصفحة الأولى من ملفِّ: قِصَّة الطيور،
رأيت النسخة التالية من السطر نفسه
وتحتها الجملة التالية المؤلَّفة من ضمِّ الأحرف
لبعضها مع تعديل حرف الياء إلى تاء
ووضع ضمَّةٍ على الراء
فنتجت الجملة التالية: تأكل
الطيورُ الأسماكَ الصغيرة
جملةٌ مفيدةٌ بمعنًى صحيحٍ مناسبٍ للطيور
في الصفحة الأولى من ملفِّ قِصَّة الأسماك
رأيتَ النسخة التالية من السطر
وتحتها الجملة التالية: تأكل
الأسماكُ الكبيرةُ الصغيرةَ
مع وضع ضمَّةٍ على الكاف والتاء ليصبح
المعنى صحيحًا مناسبًا للأسماك
ولم تجد في الكومبيوتر أيَّة جملةٍ
بلا معنًى من نفس السطر
مثلًا: لم تجد جملةً كهذه... بلا معنًى
تعالوا الآن نطبِّق هذا
المثال على عالَم الأحياء
المادَّة الوراثيَّة للكائنات الحيَّة
تحتوي على جينات
هي عبارة عن سلسلة حروفٍ مثل
حروف السطر الذي تكلَّمنا عنه
ما الذي يحدِّد أيُّ الجينات تتمُّ قراءته
في خليَّةٍ معيَّنةٍ من جسم الإنسان؟
الجواب هو: حاجة هذه الخليَّة
فخليَّة البنكرياس مثلًا تقرأ الجينات
الخاصَّة بهرمون الأنسولين
وخليَّة الأمعاء تقرأ الجينات
الخاصَّة بالإنزيمات الهاضمة
وخليَّة الدماغ تقرأ جينات
النواقل العصبيَّة، وهكذا...
مع أنَّ هذه الخلايا كلَّها لديها
نفس المادَّة الوراثيَّة تمامًا
مثل السطور المختلفة التي قُرِئت في
صفحات ملفِّ قِصَّة الإنسان في مثالنا
وهذا (أوَّل) أسباب التنوُّع
بين خلايا الجسم الواحد
مع أنَّها متطابقةٌ في مادَّتها الوراثيَّة
أيضًا...
إذا جُرِحْتَ -مثلًا-
فإنَّ عشرات الجسيمات الصغيرة في خلايا جِلدك
تتجمَّع عند السطر الخاصِّ بجين الكولاجين
لتتمَّ قراءتُه ويَنتِج بروتين الكولاجين
الذي يَرْتِق الجرح
هنا تأتي عجيبةٌ أخرى
أتذكرون أجزاء المادَّة الوراثيَّة التي
وصفوها من قبل بأنَّها خردة
من مهامِّ هذه الأجزاء أن ترتبط بجسيماتٍ صغيرة
لتساعد على إنتاج الكولاجين بطريقةٍ بديعة
إذن، فهذا سببٌ (ثانٍ) لتنوُّع البروتينات
تشكُّل البروتين بحَسْب حاجتك في وقتٍ
معيَّنٍ، بمقدار معيَّنٍ، في خلايا معيَّنة
طيِّب، في المحصِّلة تمَّ نسْخ جينٍ ما في خليَّةٍ ما
هذه النسخة تسمَّى (إم آر إن إيه)
"mRNA" أو "المِرْسال"
وهي تُشْبه النسخة من سطر الحروف في مثالنا
هذه الحروف موزَّعةٌ على المناطق المرَقَّمة
من (1) إلى (6) وبينها فواصل
هنا يأتي السبب (الثالث) والبديع جدًّا للتنوُّع
بعض الخلايا تقوم بإزالة الفواصل
وضمِّ الحروف إلى بعضها
فتتألَّف جملةٌ مفيدةٌ طويلةٌ:
يأكل الإنسان الطيورَ
والأسماكَ الكبيرةَ والصغيرة
هذه الجملة هي بروتينٌ
معيَّنٌ مناسبٌ لخليَّةٍ معيَّنةٍ
في خليَّةٍ أخرى تُحذَفُ الفواصل ومعها بعض الأحرف
والموجودة هنا في المنطقة (2)
فيتكوَّن مِرسال ثانٍ
وتتمُّ ترجمة هذا المرسال إلى بروتين
يناسب هذه الخليَّة وليس الخليَّة الأولى
هذا البروتين هو مثل جملة: يأكل
الإنسانُ الطيورَ الكبيرةَ والصغيرة
في خليَّةٍ ثالثةٍ تُحذَف الفواصل ومعها
الأحرف الموجودة في المنطقة (5)
فيتكوَّن مرسالٌ ثالثٌ تتمُّ ترجمته إلى بروتينٍ
يناسب هذه الخليَّة وليس الخليَّتين الأوَّلين
هذا البروتين هو مثل جملة: يأكل
الإنسانُ الأسماكَ الصغيرة
هذه العمليَّة تُسمَّى في عِلْم
الأحياء بــ "الوصل المتبادَل"
"Alternative Splicing"
والأدقُّ أن نسمِّيه: "الوصل المتنوِّع"
بمعنى أنَّه يحصل قَطعٌ وحذفٌ
في أماكنَ مختلفة من المِرسال
قد تقول: طيِّب، وما الذي يحدِّد
أين يحدث هذا القَطْع؟
هذه الفواصل، وهي نُسَخ ما يُعرَف
بـ: الإنترونز "Introns"
والتي كان أتباع الخُرافة
يظنُّون أنَّها على الفاضي
لها وظائف كثيرةٌ جدًّا
كما أصبحت الأبحاث الحديثة تَنشُر
منها: تحديد أين يحصل الوصل تحديدًا
يعني ليس في الخليَّة قُصاصةٌ تذهب هباءً أبدًا
إذن، من خلال عمليَّة "الوصل المتنوِّع"
أصبح بإمكان جسم الإنسان أن يُنتِج
بروتيناتٍ كثيرٍة من جينٍ واحد
كما أمكن إنتاج جُمَلٍ كثيرةٍ من نفس السطر
ومن أبدعِ الأمثلة على ذلك، بروتينات
تُعْرَف بالنيوركسينز "Neurexins"
هذه البروتينات موجودةٌ في دماغ الإنسان
لتساعد على بناء دماغٍ
كَفُءٍ لإنسانٍ مكلَّفٍ
قادرٍ على التفكير
ما عدد هذه البروتينات يا ترى؟
آلاف "Thousands"
طيِّب، هذه الآلاف من الجمل، تمَّ
قراءتها من كم جينٍ يا ترى؟
يعني كم سطر أحرفٍ؟
الإجابة الصادمة هي: (03) فقط!
آلاف البروتينات تمَّ إنتاجها
من (03) جيناتٍ فقط!
يعني مثل أن تَنتُجَ آلاف الجمل
الصحيحة من (03) أسطر
والفضل في ذلك يعود بشكلٍ
رئيسٍ لـ "الوصل المتنوِّع"
"Alternative Splicing"
البروتينات الناتجة من "الوصل
المتنوِّع" تحتاج تعديلات
تُشْبِه تغيير بعض الحروف، وتغيير
حركات الكلمات في مثالنا
التعديلات على البروتينات تسمَّى:
"Post Translational Modifications"
واختصارًا "PTMs"
يعني: تعديلات ما بعد الترجمة،
ترجمة المِرسالات إلى بروتينات
هذه هي المحطَّة (الرابعة) للتنوُّع في
البروتينات الناتجة عن المادَّة الوراثيَّة
نفس البروتين الخام يمكن أن توضع عليه حركاتٌ
مختلفةٌ؛ فيَنتُجُ منه جملٌ مختلفةٌ بمعانٍ مختلفةٍ
لماذا وُضعت هذه الحركة
مثلًا هنا؛ وليس هنا؟
مع أنَّه لدينا أمكنةٌ كثيرةٌ واحتماليَّاتٌ كثيرة
بروتين مثل: التيتين "Titin"
يتألَّف من أكثر من (34)
ألف حامضٍ أمينيٍّ
يعني مثل هذه الكريَّات
إش معنى وُضِعت فيه هذه الحركة
مثلًا هنا، وليس في مكانٍ آخر؟
لدينا (34) ألف حرف
كلٌّ منها يمكن أن يُشَكَّل بعددٍ من الحركات
لو تُرِكَت المسألة للصُدْفة والعشوائيَّة،
فلن تكفي مساحة الكون المعروفة
لإنتاج "التيتين" المطلوب تحديدًا
وبتكرارٍ في كلِّ خليَّةٍ عضليَّةٍ
إذن فعملية الـ "PTMs"
هذه تُنتِج لنا جملًا مُشَكَّلة
كلٌّ منها يناسب خليَّةً معيَّنةً في كائنٍ معيَّن
اختلاف الحركة قد يجعل هذا
البروتين يناسب قِصَّة كائنٍ،
وليس قِصَّة كائنٍ آخر
هذه الحركات في الأماكن
المناسبة من البروتينات
هي التي تؤدِّي إلى اتخاذها الأبعاد
الثلاثيَّة المحدَّدة المناسبة
"Three Dimensional Structures"
تأتي هنا الخطوة (الخامسة)،
وهي تجميع هذه البروتينات بطرقٍ مختلفة
لتُشكِّل بروتيناتٍ أكبر وأعقد
وهذا التجمُّع يتَّخذ أشكالًا كثيرة
بحَسْب الخليَّة، أو الكائن، أو الظرف
الذي يتعرَّض له هذا الكائن
وهذا هو السبب (الخامس) للتنوُّع
خمس عمليَّات شرحناها لكم -إخواني-:
1- نسْخ جيناتٍ مختلفةٍ لإنتاج البروتينات
بحَسْب الخليَّة في الكائن الواحد
2- نسْخ جيناتٍ مختلفةٍ في
الوقت والكمِّيَّة المناسبين
بحَسْب الظروف التي يتعرَّض لها الكائن
3- عمليَّة "الوصل المتنوِّع" والتي
تُنتِج جُملًا عديدةً من نفس السطر
4- عمليَّات الـ "PTMs" التي تضع
الحركات المناسبة على كلمات الجملة
5- وتجمُّع البروتينات بأشكالٍ وتواليف
مختلفةٍ لإنتاج بروتيناتٍ أعقد
بهذه العمليَّات وغيرها أصبح بالإمكان
إنتاج مليارات البروتينات المختلفة
من (20) ألف جينٍ فقط!
ولولاها لاحتجنا إلى مليارات الجينات
لإنتاج مليارات البروتينات
بهذه العمليَّات تنوَّعت خلايا
الإنسان إلى آلاف الأنواع
مع أنَّها كلَّها لديها نفس المادَّة الوراثيَّة
بالضبط بنسبة تطابقٍ (100٪)
بهذه العمليَّات وغيرها يصبح الإنسان إنسانًا
والقرد قردًا، والشنبانزي شنبانزي
والذباب ذبابًا، والفأر فأرًا
مهما تشابهت مادَّتهم الوراثيَّة
(70)، (80)، (90)، أكثر، أقلُّ، مش مهم
بهذه العمليَّات
تفهم أنَّه لماذا مهما كان التشابه في
المادَّة الوراثيَّة للإنسان والشمبانزي
فإن (80٪) من بروتيناتهما
مختلفةٌ حسب هذا البحث
يعني (20٪) فقط متشابهة
يعني حتَّى لو افترضنا أنَّ نسبة الاختلاف
في المادَّة الوراثيَّة (01٪)؛ فكان ماذا؟
إن عَلِمْنا أنَّ الاختلاف في
البروتين هو (80٪)
بهذه العمليَّات تصبح المادَّة الوراثيَّة
ومدى تشابهها بداية القِصَّة فقط
وتصبح القدرة على التنويع والتخليق والتفريق
آيةً تَخضع لها القلوب وتُسبِّح
لها الألسنة لقومٍ يعقلون
ألا يعلم كبار الدكاترة والـ "Professors"
من كهنة الخرافة هذا كلَّه؟
أنا عن نفسي علمت كثيرًا منه من سنة
أولى جامعة في مساق: الـ "Biology"
فهل لا يعلم كبار دكاترة الخرافة هذا كلَّه
حين يردِّدون رقم الـ (99٪)
تشابه مع الشنبانزي؟
إمَّا أنَّهم كانوا يغشُّون في اختباراتهم
الجامعيَّة فأخذوا شهاداتهم زورًا
أو أنَّهم انشغلوا بالتبشير بالخُرافة
عن تحديث معلوماتهم
منتهية الصلاحيَّة من عشرات السنين
أو أنَّهم يضحكون على الناس
ويستخِفُّون بعقولهم عمدًا
عندما نرى نسبة التشابه بين الكائنات،
على مستوى أحرف المادَّة الوراثيَّة
وكذلك على مستوى المِرسال
ليست (70) ولا (90) ولا (99٪)، بل (100٪)
فكلُّها مؤلَّفةٌ من أربع قواعدٍ نيتروجينيَّةٍ
يعني ما يشبه أربعة أحرف
تتشكَّل منها كلماتٌ تترجَم لأكثر
من (20) حمضًا أمينيًّا
وهذه يتشكَّلُ منها مليارات البروتينات
وهذه يتشكَّلُ منها حسب ورقةٍ
حديثةٍ صادمةٍ: مليارات!
يعني آلاف ملايين أنواع الكائنات
الحيَّة المتقَنة المتكاملة
مليارات... إذا أخذنا البكتيريا
وأنواعَها في الاعتبار
مليارات الكائنات التي بينها
هرمٌ غذائيٌّ وتوازنٌ طبيعيٌّ
ولا مكان بينها للخرابيش، ولا للجُمل عديمة
المعنى، ولا لمحاولات العشوائيَّة الفاشلة
بل كلُّها متقَنة
﴿مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ ۖ﴾ [الملك:3]
هل هذا دليل عبثيَّةٍ ولا قصديَّةٍ؟!
أم إتقانٍ وإبداعٍ يَعْقِد اللسان؟
قال الله تعالى:
﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ
وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ
يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ﴾
لاحظ!
﴿يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ
بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ
إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الرعد:4]
لقومٍ... مين؟ كمان مرَّة
لقومٍ يعقلون
رأينا في حلقةٍ سابقةٍ كيف أنَّ
نباتاتٍ تَشْتبه في الشكل
وهي في حقيقتها مختلفةٌ في
مادَّتها الوراثيَّة بشكلٍ كبير
الزيتون والرمَّان مثلًا
واليوم نرى العكس:
تطابقٌ في أحرف المادَّة الوراثيَّة
وتنوُّعٌ كبيرٌ في الشكل
عظَمةٌ وإبداعٌ لقومٍ يعقلون
لو لم يكن هناك تشابهٌ في المادَّة
الوراثيَّة بين الكائنات،
لقال أنصار الخُرافة:
إن كان هناك خالقٌ خلَق هذه الكائنات عن إرادة
فلماذا يجعل مادَّتها الوراثيَّة مختلفةً تمامًا،
مع أنَّ بينها تشابهًا كبيرًا في العمليَّات
الأساسيَّة على مستوى الخلايا؟!
فكلُّ الخلايا... كلُّ الكائنات تحتاج خلاياها
إلى تصنيع البروتينات وإلى الانقسام
وإنتاج الطاقة وهكذا...
أليس لو كان لها خالقٌ واحدٌ، لوحَّد بينها
في هذه العناصر الأساسيَّة المشترَكة
كما يُوحِّد المصمِّم المكوِّنات الأساسيَّة
لمجموعة الأجهزة المختلفة؟!
نعم... كانوا سيقولون ذلك
لكنَّها في الواقع متشابهة
وهذا التشابه
يجعلها تتشابه في وحدات
بناء أجسامها: البروتينات
بما سمح لبعضها أن تتغذَّى على بعض
لتكتمل دورة الحياة باكتمال
سلسلة الغذاء، ويحْصُل التوازن
ولو كانت المادَّة الوراثيَّة -وبالتالي
وحدات البناء- مختلفةً تمامًا
لأصبحت الكائنات بعضها سمًّا لبعض
إذ لا تستطيع أن تستفيد من
عناصر بعضها البعض
ولقيل حينئذٍ: لو كان هناك خالقٌ فلماذا
لم يجعلها متشابهةً لتستفيد من بعضها؟
فسبحان من وحَّد بمقدار! ونوَّع بمقدار!
﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [الرعد: 8]
بهذا -إخواني- أتممنا قِصَّة الـ (99٪)
التي يتغنَّى بها كهنة الخُرافة
عَلِمنا كيف يَكْذِبون في الرقم،
وفي تفسير الرقم،
وفي تكريس السطحيَّة والسذاجة
العِلميَّة في عقول الناس
ويُعَمُّون الناس عن الحقائق
المذهلة الرائعة في هذا الكون
كل هذا في سبيل الخُرافة
ليأتي بعدها مساطيل آخر الليل قائلين لك:
"الوراثة الجزيئيَّة" أقوى أدلَّة التطوُّر
حسمت الملفَّ، وانتهى الموضوع
مُعوِّلين على أنَّ الناس يصعب عليهم تتبُّع
تهريجاتهم هذه، والتحقُّق من خباياها
نسأل الله أن نكون قد وُفِّقنا في هذه
الحلقة لكشف جانبٍ من عظَمة الخَلْق
يحثُّكم على مزيدٍ من التأمُّل
استجابةً لأمر الخلَّاق العليم القائل:
﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّـهُ مِن شَيْءٍ
وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ۖ
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 185]
والسلام عليكم ورحمة الله