رحلة اليقين ٣٩: إله فجوات الملحدين
السَّلام عليكم ورحمة الله.
ما الَّذي أوصل علماءَ متميِّزين في مجالاتهم
إلى أقوالٍ في غاية السَّخافة والكوميدية
فيما يتعلَّق بالكون والحياة؟
سنرى اليوم
ونرى معه مناقشةً للاعتراضات الثَّلاثة التَّالية
الَّتي تعكس أخطاءً في التَّفكير.
1. النَّظرية هي أكثر تفسيرٍ علميٍّ مقبولٍ
في الأوساط العلمية.
2.لا تستطيع أن تَرفُضَ نظريَّة التَّطوُّر،
حتَّى تأتي ببديلٍ عنها.
3.عندما نقول أنَّ الله خَلق الكائنات،
فهذا ليس جوابًا علميًّا،
بل هذه الطَّريقة تسمَّى بإِله الفجوات.
كنَّا قد وعدناكم في مقدمة حلقاتنا عن خرافة
التَّطوُّر، أن تكون حلقاتٍ منهجيَّةٍ تُنظِّمُ التفكير.
حلقتنا اليوم إخواني مثالٌ مميَّزٌ على ذلك
كما ستلاحظون بإذن الله تعالى فتابعوا معنا.
أ: "الشَّمس حارَّة اليوم شُوب شوب.(حار)"
ب: "ما في شمس."
أ: "يا رجل هيها مش قادر اطلع فيها،
وعرقي نازل منها."
ب: "هذي مو شمس،
استثنيلي احتمالية إنها شمس."
أ:"ما عاد إيه؟ (ماذا إذا)"
ب: "هاي إما خداعٌ بصري
أو إنا ماخذين مهلوسات
خلتنا نفكر أنو الشَّمس طالعة.
ما أخذنا مُهلوسات،
ظل احتمالية إنها خداع بصري.
نظريَّتي بتقول: "إن اللي قدامنا هذا خداع
بصري هذا أكثر تفسير علميٍّ مقبول."
هذه هي قصَّة أكثر تفسيرٍ علميٍّ مقبول،
أكثر تفسيرٍ مقبولٍ،
بعدما يتمُّ استثناء التَّفسير الوحيد الصَّحيح؛
فلا يبقى إلا أشكالٌ من الهبل
ثم يُقال لك اختر أحدها.
يُقال: "نظريَّة التَّطوُّر هي أفضل نظريةٍ
لتفسيرِ الأحياء؛ لأنَّها الأكثر قبولًا
في الأوساطِ العلميَّة."
الأكثر قبولًا لدى من؟
لدى العلماء.
أيُّ علماء؟ العلماءُ الذين استَثنَوْا
التَّفسير الوحيد الصَّحيح مقدمًا،
ثم أقبلوا على الكون يبحثونَ
عن أيِّ تفسيرٍ آخر.
كما يظهر بكل وضوح، في كلام بروفيسور
الكيمياء الحيوية التطوري
فرانكلين هارولد "Franklin Harold"
في كتابهِ ذا واي اوف ذا سل
(The Way of the Cell).
يقول هارولد في صفحة [205]:
"يجب علينا أن نرفض كمسألة مبدأٍ خِيارَ
التصميمِ الذَّكي كبديلٍ عن الصُّدفة،
لكن يجب علينا الاعتراف
بأنَّه في الوقت الحاضر لا يوجد أيَّةُ تفسيراتٍ
دارونيَّة مفصَّلة لتطوُّر
أيِّ نظامٍ بيوكيميائي"biochemical" أو خلوي،
وإنَّما مجموعةٌ متنوعةٌ من التَّكهُّنات الحالمة".
مع التَّذْكير إخواني بأنَّنا لا نقول:
التَّصميُم الذَّكي، وإنَّما وجود فاعلٍ
عليمٍ مختارٍ لا تدركه الأبصار.
التَّفسير بمثل هذا مرفوضٌ عندَ هارولد
والتَّطوُّريِّين من حيث المبدأ،
مرفوضٌ مقدَّمًا،
غيرُ مطروحٍ للنقاشِ ابتداءً.
لا تُفسِّر لي وجود الشَّمس بأنَّها شمس.
هذا مع أنّ هارولد يُعبِّر في كتابهِ عن الْحَيْرة
الَّتي لا مَخرج منها قائلًا في صفحة [245]:
"إنّ مكوِّنات الخليَّة كما نعرفها
متكاملة بشكلٍ محكمٍ جدًّا بحيث يَصعبُ تَصوُّر
أن تكون أيَّةُ وظيفةٍ نشأَت بمعزلٍ عن الأُخريات.
فالمعلومات الجينيَّة لا يتمُّ استنساخها
وقراءتها إلا بمساعدة الإنزيمات البروتينيَّة،
والَّتي هي -بدورها- نتاجُ هذه الجينات نفسها،
والطّاقة تَنْتُج من قبل إنزيمات، والإنزيمات
تحتاج هي أصلًا إلى طاقةٍ لإنتاجها".
يعني هارولد ببساطةٍ يشير إلى حماقة فكرة
تَكَوُّنِ الخليَّة شيئًا فشيئًا بشكلٍ تراكمي
على طريقة طائرةِ العميان والانتخاب الطبيعي.
كيف يتمُّ استنساخ الدي إن إيه"DNA" لإنتاج
خلايا عديدةٍ في كائنٍ ما
ولإنتاجِ البروتينات؟
من خلال إنزيمات.
طيب وهذه الإنزيمات كيف جاءت؟
من خلال قراءة الدي إن إيه.
إذًا أيُّهما جاء أوَّلًا؟ كيف يمكن للعشوائيَّة
والصُّدفة أن تستخرج أحدَهما من الآخر؟
لا يمكن.
لا يمكن لأحدهما أن يَتَكَوَّن دون الآخر.
طيب، فلْنتجاوز هذه المعضلة.
هذه الإنزيمات كيف تشكَّلت؟ احتاجت إلى طاقة.
طيب، وهذه الطَّاقة كيف جاءت؟
من خلال إنزيمات.
وهكذا أنظمة الجسم: متداخلةٌ،
معتمدٌ بعضُها على بعض،
لا يظهر لها طرَف خيطٍ ولا حجر أساس،
تعمل عليه العشوائيَّةُ
والعمايا التَّطوُّريَّان البائسان.
يعني تَصوَّرْ تعليماتِ تصنيع جهاز كمبيوتر
موجودة على أسطوانة سي دي "CD".
لكن المشكلة أنَّه بدون جهاز كمبيوتر لا
يمكن قراءة ما في الأسطوانة أصلًا.
ويقول هارولد في خواتيم كتابه:
"سيكون من المرحَّبِ به أن أختم كتابي هذا
بكلماتٍ احتفاليةٍ صاخبة،
مفادها أنَّ العلم يسير بخطواتٍ بطيئةٍ
لكن واثقةٍ مقتربًا من حلِّ اللغز الأكبر.
لكن بصراحة هذا ليس الوقت الأنسب للكلمات
الشَّاعريَّة الورديَّة.
إنَّ أصلَ الحياة يبدو لي غيرَ مفهوم
كما كان منذ القدم
وإنَّما هو أمرٌ يصلح
للتَّعجب منه لا للتَّحليل والتَّفسير."
إذًا فهارولد يؤكد مرةً بعد مرةٍ
أنَّ المسألةَ ليست مسألةَ وقتٍ.
المسألة لا تبدو قابلة للتَّفسير
أصلًا ضمن إطار التَّطوُّر.
لكن مع هذا كلِّه يجب استثناءُ وجودِ خالقٍ
خارج الإطار المادِّيِّ المحسوس. لماذا؟
لأنَّ هارولد ملتزمٌ بالتفسير المادي للكون
كما يقول في صفحة [190]، يقول:
"دعوني أُبيّن بشكلٍ لا غموضَ فيه أنني مثلُ
الغالبيَّة العظمى من العلماء المعاصرين،
أَرى العالم الحيَّ مُنتَجًا بشكلٍ حَصري
من أسبابٍ طبيعيَّةٍ مادِّيَّة."
إذًا فهذه هي القصَّة.
صراعٌ حصل من قرونٍ في العالم الغربي
بين الدِّين المحرَّف والعلم التَّجريبي.
بين الكنيسة وأخبارها الغيبية المُصادِمة
للعقل ونظريَّاتِها الخاطئة،
الَّتي تُريد أن تَفرضها من جِهةٍ،
والعلم الذي يراه النَّاس واقعًا ملموسًا.
وَقَع الغربيُّون بين هذه الثنائيَّة.
كان يمكنهم البحث عن منظومةٍ صحيحةٍ للحياة،
ليس فيها هذا التعارض.
والَّتي ندَّعي نحن أنَّها المنظومة الإسلامية
كما سنثبت بإذن الله تعالى في رحلة اليقين.
كان يمكنهم الإقبالُ بِتَجَرُّدٍ على الإسلام،
والذي بقِيَت مصادره نقيَّة
فلا تعارض فيه بين العقل الصَّحيح
والنَّقل الصَّحيح عن الله ورسوله.
كما لا تعارض فيه بين الحسِّ
بما فيه من تجربةٍ
والنَّقل الصَّحيح، فكلُّها من عند الله.
﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء:82]
فالنَّقل الصَّحيح بما في ذلك الوحي والعقل
والحسُّ مصادر للمعرفة
تتكامل وتَدُور تُرُوسها في نَسَقٍ واحدٍ
يُحقِّقُ معرفةً صحيحة.
وعندما نقول "علم" في المنظومة الإسلاميَّة
فإنَّه يشمل هذه المصادر كلَّها.
لكن الدخول في الإسلام لم يكن خِيارًا أصلًا،
لدى عامَّة الغربيِّين؛
كان في نفوسهم حاجزٌ كبير عن ذلك،
وَصَدَّ عنه كُبَرَاؤُهم.
ومن هنا بدأت رحلة الضلال
والتِّيهِ إلى يومنا هذا.
فكان القرار لديهم أن يُقدِّسوا العلم القائم
على الحسِّ كالملاحظة والتَّجريب،
ويعتبروه المصدرَ الأوحدَ للمعرفة،
ويُطَلِّقوا الدِّينَ جملةً وتفصيلًا
ويكفروا به كمصدرٍ للمعرفة،
أو يَرسُموا له حدودًا كخِيار عاطفي
لكن دون اعتبارِه مصدرًا للعلم.
وعليه فأيُّ تفسيرٍ عندهم لأيَّة ظاهرةٍ كونيَّة،
يجب أن يكون تفسيرًا ماديًّا من الحِسِّ،
كالمشاهدة أو التَّجريب، واعْتَقِدْ بعد ذلك
عن الغيبِ ما تشاء، لكن لا تَخلِطْ بينهما.
بهذه العُقدةِ النَّفسية أقبلَ كثيرٌ من العلماء
الغربيِّين على الكون ليُفسِّروا ما فيه،
بالعُقدةِ المسمَّاة في علم المُغالطات المنطقيَّة
إيذر أور فاليسي "Either or fallacy"،
يعني الحصر بين خِيارين كلاهما خطأ.
لا نقبل الكهنوت النَّصراني في قاعة التَّدريس،
وبالتَّالي فلا خَيار إلا التَّفسير المادي.
(بالإنجليزية) "دع التصميم الذكي يدخل المدارس
اليوم لتمارس الصلوات في المدارس غدًا".
ويتجاهلون تماما التَّفسير الصَّحيح.
أنَّه لا بُدَّ للكائنات من خالقٍ عليم
مُنَزَّهٍ عن تحريفات النَّصارى.
هؤلاء هم العلماء الذين يُعطون خَتم
الموافقة على نظريَّة ثُمَّ يُقال:
"هذه النَّظريَّة هي التَّفسير الأكثر قبولًا
في الأوساط العلميَّة."
بينما الصَّحيحُ أن نقول في الأوساطِ
الرَّافضة للتَّفسير الوحيد مقدَّمًا،
﴿وحينئذٍ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ﴾
[يونس: 32]
تُريد المزيدَ من معرفةِ نَفْسِيَّتِهم؟
اقرأ كلام البروفيسور ريتشارد لينتون
"Richard Lewontin"
عالم الرياضيات والجينات والبيولوجيا
التَّطورية، وصاحبِ كتاب:
"البيولوجيا كأيدولوجيا عقيدة الدي ان اي"
Biology as ideology the doctrine of DNA
والذي ستُصدَمون من كلامه لشدَّة صراحتِه.
وقد جَهِدْتُ في التَّحققِ من صِحَّةِ نسبة الكلام إليه
ووضعتُ لكم إخواني كالعادة روابط
تُمَكِّنُكم من المراجعة والتَّحقُّق.
يقول ريتشارد ليوتون في مقاله
بليونز اند بليونز أوف ديمونز
(Billions and Billions of Demons)
والمنشور على موقع ذا نيويورك ريفيو أف بوكس
"The New York Review of Books"
بتاريخ [1997]:
"إنَّ عَزْمَنَا على قَبولِ الادِّعاءاتِ العلميَّة
المُتعارضةِ مع البَدَهِيَّات العقليَّة
هو مِفتاح فَهمنا للصِّراع الحقيقي بين العلم
التَّجريبي وما وراءَ الطَّبيعة.
إنَّنا ننحاز إلى العلم التَّجريبي على الرَّغم من
السَّخافة الواضحة
"absurdity" في بعض تراكيبه.
وعلى الرَّغم من فَشلهِ في الوفاء بالكثير مِن
وُعودهِ المُبالَغ فيها حول الصِّحة والحياة.
وعلى الرَّغمِ من تسامُح المجتمعِ العلميِّ مع
قصصٍ لا دليل عليها من نوع "خذها كما هي".
وهذا كُلُّهُ لأنَّ لدينا التزامًا
مسبقًا، التزامًا بالمادِّية.
إنَّ المسألة ليست أنَّ طُرُقَ ومؤسسات العلم
تُجبِرُنا على قبول تفسيرات
مادِّيَّة لعالم الظَّواهر،
بل على العكس، إنَّنا نحن مَدفُوعون
بالتزامنا المسبق بالأسباب المادِّيَّة.
إلى أن نُنشئ منظومة استكشاف ومجموعة مفاهيم
تُنتجُ تفسيرات مادِّيَّة،
مهما كانت هذه التَّفسيرات مصادمةً للبديهة،
ومهما كانت مُحيِّرة لغير المتمرِّس.
كذلك فإنَّ هذه المادِّيَّة مُطْلَقة؛ إذ علينا ألَّا
نسمح لأيِّ قَدَم إلهيَّة بالوُلوج من الباب.
"For we cannot allow a Divine Foot
in the door"
رأيتم معي إخواني نماذجَ من التَّفسيرات
السَّخيفة المتعارِضة مع بدهيَّات العقل
في الحلقات السَّابقة،
وفي الحلقتين الماضيَتين بالذَّات
لكن دعونا نُضِيف نكتة جديدة
من نكت التَّطوُّريِّين.
أراد البروفيسور التَّطوُّري جورج جاموف
"George Gamow"
أن يقترحَ آليَّةً لكيفيَّة ظهور حليب
الرَّضاع في الثَّدييات.
يقول لك في كتابه عن البيولوجيا،
إنَّ بعض صغار الزَّواحف بدأت بالصُّدفة
تلعق عرق أمِّها لتتغذَّى.
وبالتَّالي بدأت بعض الغدد العرقيَّة
تُفرزُ سائلًا أفضلَ فأفضل
إلى أن تَحوَّل هذا السَّائل إلى حليب.
يعني العرق الذي هو للتَّخلُّص من نفايات الجسم
تحوَّل بكثرة لعق غدده إلى حليبٍ كامل الغذاء.
فيه تشكيلةٌ كبيرةٌ من البروتينات والأجسام
المضادَّة والسُّكَّريَّات والفيتامينات وغيرها.
وهو ما تؤيِّده ورقةٌ علميَّة منشورة عام [2012]
تقترح أن تكون غُدد الحليب
قد تطوَّرت عن غددٍ شبه عَرَقية
"Apocrine-like glands"
وهي ورقةٌ غير مغمورة بل تُحِيل إليها
أوراقٌ علميَّةٌ كثيرة
لكن أليس هذا تفسيرًا سخيفًا؟ بلى،
وما المشكلة؟ نحن قلنا لك مقدَّمًا:
أنَّنا مستعدُّون للتَّفسيرات السَّخيفة في سبيل
الحِفاظ على المادِّيَّة المُطْلقة المقدَّسة.
تريد أخي نموذجًا آخر؟ اقرأ ما نشرته مجلة
نيتشر "Nature" عام [1999]
للدكتور تود "Todd" حيث قال:
"الأكثر أهمِّيَّةً في الموضوع هو أنَّه يجب
أن يكون واضحًا في الغُرف التَّدريسيَّة،
أن السَّيَنْسْ "العلم التَّجريبي"
-بما فيه التَّطور-
لم يُثبِت بُطلانَ وجود الإله،
لأنّه لا يُسمَح لهذا العلم أن يأخذ هذا
الموضوع بعين الاعتبار أصلًا،
حتَّى لو دلَّت كلُّ البيانات على وجود مُصمِّم ذكي
فإنَّ هذه الفرضيَّة تُستبعد من السَّيَنْسْ،
لأنَّها ليست ضمن الطَّبيعة".
بعد هذا كلِّه،
اقرأ تعريف النَّظريَّة العلميَّة حسب الأكاديِميَّة
الوطنيَّة للعلوم في الولايات المتَّحدة.
النَّظرية: هي التَّفسير الأفضل والأكثر
تماسكًا لمجموعةٍ من الظَّواهرِ الطَّبيعيَّة
الَّتي يمكن مُلاحظتها في الطَّبيعة،
والَّتي يمكن أن تَدمِجَ ما بين الحقائقِ
والاستنتاجات والقوانين
والفرضيَّات الْمُخْتَبَرة.
أضف على هذا التَّعريف.
(ضمن الإطار المادِّي المطلق -يعني المقدَّس-
مع الِحرْص على استثناء وجود خالق،
مهما حملت هذه الطَّريقة من
سخافة ومصادمة للعقل وبدهيَّاته.)
هنا قد يحصل لديك خَلْطٌ فتقول:
أليس تفسير الظَّواهر العلميَّة بوجود الخالق
هو نفسه فكرة إله الفجوات؟
طبعا لا.
ما فكرة إله الفجوات؟
هي أيضًا إحدى مُخلَّفات الأديان
المحرَّفة من العصور الوسطى.
فلان مَرِض. لماذا مَرِض؟
الإله أمْرَضه.
قد يكون الإله سخط عليه لأنه سَخِر من الكنيسة.
ثمَّ اختُرِعَ المجهرُ ورأينا الميكروبات،
وعلمنا أنها سببُ المرض، أهاه.
إذًا أنتم كانت لديكم فجوةٌ معرفيَّة في معرفة
سبب المرض فسَدَدْتُموها بقولكم الإله فَعل كذا.
وحصل الصِّدام بين التَّفسير بوجود
إله والتَّفسيرات من العلم التَّجريبي.
عندنا في الإسلام لا فِصَامَ؛
يُقدِّرُ اللهُ على أحدنا المرض. هل يعني هذا أَنَّه
ليس للمرض أسبابٌ مادِّيَّة؟ بلى،
وقد قرَّرها الشَّرع، وأمر بأخذ الأسباب للوقاية
منها مثل قول النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-:
"غطُّوا الإناء وأَوْكوا السقاء"
يعني لمنع إصابة الطَّعام والشَّراب بالأوبئة.
صُنِعت المجاهر واكتُشِفت الميكروبات.
ما الجديد بالنِّسبة لإيماننا؟ لا جديد إلَّا
زيادة الإيمان؛
لمَّا رأينا هذه الميكروبات،
فعلمنا أنَّها بتركيبتها الدَّقيقة
المُتقَنَة لا بدَّ لها من خالق.
العقل الصَّحيح الذي هو مصدرٌ للمعرفة يُحَتِّم ذلك
ولم يَحُلَّ اكتشافُ الميكروبات محلَّ الإيمان
بوجود الخالق كما يَفترضُ غباء الإلحاد.
طيب حصل المرضُ، الله يشفي.
﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾[الشعراء :80]
هل يعني هذا أنَّه ليس للشِّفاء أسبابٌ آخذ بها؟
بلى؛
﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ
فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ﴾ [النحل .69]
وقيل للنبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-:
«يا رسول الله أنتداوى؟
فقال تَدَاوُوا فإن الله -عز وجل-
لم يَضَع داء إلا وضع له دواءً،
غير داءٍ واحد: الهرم». [إسناده صحيح]
المطر يَنزل بفعل الشَّمس الَّتي تُبَخِّر الماء،
ثمَّ يتكاثف حول أنويةٍ على درجات حرارةٍ
متدنِّيةٍ في الطَّبقات العليا من الجو،
وتسوقُه الرِّياح فينزلُ مطرًا.
هذا كلُّه علمٌ تجريبيٌّ محسوس.
في الوقت ذاته لا بدَّ للشَّمس والبحر من خالق
لا بدَّ لقوانين التَّبخُّر والتَّكاثف على حراراتٍ
معيَّنة والتَّضاغط والتَّخلخل الَّتي تُحركُّ الرِّياح،
لا بدَّ لهذا كلِّه من خالقٍ لهذه القوانين؛
فالقوانين لا تُنشئُ أفعالًا بنفسها
إنَّما هي أوصافٌ لأفعالِ فاعلٍ مختار،
جعل الأمور تجري بهذا الشكل.
هذه كلُّها ضروراتٌ عقليَّةٌ والعقل مصدرٌ للمعرفة،
فتكتمل القصَّة بلا تعارض
بين العقل والحسِّ والتجريب.
إذا 1. لا بدَّ للظَّواهر العلميَّة من خالق
2. هذا الخالق جعل للظَّواهر أسبابًا.
حقيقتان تنتُجان من إعمال العقل والفطرة
فيما يقع تحت الحسِّ والتَّجريب،
وإنْ كان هذا الخالق ذاته لا تدركه الأبصار.
وإنْ كان هناك مَن أحدث صِدامًا
بين الحقيقتين فمشكلته هوَ.
فليست هذه المشكلة في ديننا، ولله الحمد.
وإذا أخبرَنا الخالقُ أنَّه أنزل الماء رحمةً أو
عذابًا فهذا لا يعني إلغاء الأسباب المادِّيَّة،
بل أنْزلها بهذه الأسباب رحمةً أو عذابًا.
الكائنات الحيَّة لدينا معها سؤالان،
أوَّلًا: هل لا بدَّ لها من خالق؟
ثانيًا: كيف خلقها الخالق؟
أمَّا السُّؤال الأول فقد أثبتنا بدءًا من
الحلقة [13] من رحلة اليقين،
أنَّ جوابه: نعم
لا بدّ لها من خالقٍ أوجدها عن قصدٍ وإرادة،
ولم تأت لا بصُدَفٍ ولا عشوائيَّة.
هذه ضرورة عقليَّة.
السُّؤال الثَّاني: كيف أوجدها الخالق؟
هل أوجدها دفعةً واحدةً كما هي؟
أم حوَّل بعضها إلى بعض؟
هنا قد تستأنس بالحسِّ والملاحظة
ورسم سيناريوهات مفترضة
لما كانَ في الزَّمانِ الأوَّل.
دون أن يستطيع أحدٌ أن يَجْزم من ذلك بشيء،
ودون أن نخوض الآن فيما إذا كان
هذا البحث مفيدًا أم لا.
هذه النِّقاط سنستعرضها لاحقًا بإذن الله.
لكن ما يهمُّني تبيانه الآن إخواني هو أنَّ
الاحتمالات تصبح مفتوحةً هنا
والافتراضات ممكنةً ما دامت لا تُعارض
مصادر المعرفة الصَّحيحة،
من حسٍّ وعقلٍ ونقلٍ والوحي
الذي دلَّت الأدلَّة على صدقه.
كلُّ هذا بعد أن اتَّفقنا على المقدِّمة
الَّتي لا بدَّ منها لكلِّ عاقل
أنَّه لا بدَّ للكائنات من خالق،
بعد أن لم نُنْكِر أنَّ الشَّمس موجودة.
إذا أتيتَ لنا بجهازٍ نراه لأوَّل مرة،
جهازٌ متكاملٌ له وظيفة فكلُّنا يتيقَّن
بأنَّ له صانعًا أحكَمهُ وأتقَنَهُ
ووضعَ وظيفتَهُ قبلَ صُنعه.
قد نختلف بعد ذلك في كيف صَنعه؟
بِيَده أم بآلة في مصنع؟ وأين ومتى؟
كل هذا قد نختلف فيه.
لكن يبقى المُسلَّم به لدى كل عاقل
أنَّ لهذا الجهاز صانعًا.
أمَّا أن يُقال: "إذا لم تخبرني كيف صُنع بالضَّبط
فعليكَ أن تُسَلِّم لي بأنَّه غيرُ مصنوعٍ أصلًا"
فهذا جهلٌ مُضحك.
فليست المسألة أنَّنا سددنا فجوة جهلٍ
بالقول بوجود الخالق،
بل نحن نعلم يقينًا من مصادر المعرفة الصَّحيحة
أنّه لا بدَّ من خالق
لكن أنا أخبركم أين آلهة الفجَوات
في الموضوع؟
آلهة الفجوات عندما يتمُّ استبعاد هذه الحقيقة
ثُمَّ يُقال: فمن خلق الكائنات؟
فيسارعون قائلين: التَّطور، طفراتٌ
عشوائيةٌ وانتخابٌ أعمى.
لكن ما قولكم في هذه الظَّاهرة؟
فيُجيبون: لا بدَّ أن يكون التَّطور أيضًا،
سنُجري تعديلًا ليستوعبَ هذه الظَّاهرة.
إلى أن وصلوا إلى الآلهات متعدِّدة الأسماء
الَّتي تكلَّمنا عنها في الحلقتين الماضيَسلمتين.
أصبح كُلُّ شيءٍ فجوة فلا بدَّ أن يسدُّوها
بلونٍ من ألوان آلهة التَّطور.
آلهة الفجوات عندما يُقال: ما بالُ الـ[95]
بالمئة من المادَّة الوراثيَّة لا تحوي جينات.
فيأتيك الرَّد: فعَلَتها آلهة التَّطوُّر
"Evolution".
إنَّها الصُّدَف والعشوائيَّة.
ما وظيفة هذا التَّركيب في جسم الإنسان؟
ليس شرطًا أن يكون له وظيفة لا تُتْعِب
نفسك بالبحث عن وظيفته.
ما دام كلُّ شيءٍ بالصُّدَف فلا عجب أن ترى
في كلِّ زاويةٍ كائناتٍ وأجزاءٍ بلا فائدة،
ويُغلَقُ باب الاستكشاف على ذلك.
فعَلامَ الاستكشاف وليسَ في الكونِ
حكمةٌ تُسيِّره حتى نبحث عنها؟
ولا قَصَد أحدٌ أن تكون الأمور على ما هي عليه
حتَّى نبحثَ عن قصده ونستفيد لصالحنا.
مَرِضْنَا، هل نبحث عن دواءٍ؟ أَمْرَضَتْكَ آلهةُ
التَّطوُّر فالكائنات جاءت بالصُّدف والعشوائيَّة.
ولا ضمان أن تكون هذه العشوائيَّةُ والصَّدفيَّة
قد أوجدت للدَّاء دواءً، فعَلامَ تبحث؟
وبهذا فالتَّطوُّر يمنع التَّطوُّر، لأنّه يُجيب عن
أيِّ سؤالٍ بأنَّه نتاج العشوائيَّة.
وما تقدَّم الغربيُّون إلا حين داسوا على هذا
الهراء عمليًّا وإن نطقت به ألسنتهم.
وإلَّا حين استفادوا من علوم من قبلهم
ممَّن لم يتلوَّثوا بهذا الهراء.
بينما في ديننا ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾
[القمر:49]
فنعلم يقينًا أنَّ لكلِّ شيءٍ في هذا الكون دورًا،
فما وُجِدَ إلَّا لحكمةٍ فنبحث وننتفع.
فانظر إلى الفرق بين أَوْجدَه التَّطوُّر،
أعضاءٌ بلا فائدةٍ، أخطاءٌ في التصميم.
ألم نقل لكم إنَّها العشوائيَّة والصَّدفيَّة؟
وفي المقابل لا بدَّ من خالقٍ
أَوْجدَها بحكمةٍ لتؤدِّي وظيفة،
وإنَّا عن هذه الوظيفة والفوائد لباحثون.
قارن بينهما ثمَّ انظر من أصحاب
آلهة الفجوات حقًّا؟
مما تقدَّم إخواني ندرك بطلان مقولة:
أنَّك لا تستطيع أن تُبطل نظريَّة التَّطوُّر
حتَّى تأتي بنظرِّيَّةٍ بديلةٍ عنها
وهو من أكثر الاعتراضات الَّتي وردت
على الحلقات السَّابقة،
اعتراضٌ خلاصته تقديس الجهل،
خرافةٌ جاءت وليدة منهجٍ مادِّيٍّ
يرفض التَّفسير الوحيد الصَّحيح،
ثمَّ استفردت بعرش الأوهام وقيل:
لن تُطيحَ بها حتى تأتيَ ببديلٍ عنها،
شَريطةَ ألَّا يكون التَّفسير الوحيد الصَّحيح.
خرافة التَّطوُّر باطلةٌ ابتداءً لأنَّها تُجيبُ
الإجابة الباطلة عقلًا عن السُّؤال الأوَّل،
هل لا بدَّ للكائنات من خالق؟
فالجواب الوحيد الصَّحيح عن هذا السُّؤال:
نعم، لا بدَّ لها من خالق.
بعد أن نتَّفق على هذه الإجابة يأتي
السُّؤال الثَّاني: كيف خلقها الخالق؟
قد نقترح افتراضاتٍ معيَّنة خلقها
كما هي، حَوَّل بعضَها إلى بعض،
ثمَّ نناقش مُؤيِّدات ومعارضات كلِّ اقتراح.
لكن سواءً اقترحنا فرضيَّةً أم لم نقترح،
فهذا لا علاقة له بإبطال خرافة التَّطوُّر
لبطلان إجابتها عن السُّؤال الأول.
إذن إخواني من قبيل ترتيب الأفكار يمكن
أن نَضمَّ إلى قائمة المغالطات المنطقيَّة،
الَّتي تُسْتَخدم لترويج الخرافات، المُغالَطة [13]
(either or fallacy)
مغالطة الحصر بين خِيارين كلاهما باطل،
إمَّا دينٌ مُحرَّف مُصادِمٌ للعقل والعلم أو
تفسيراتٌ سخيفةٌ مصادِمةٌ للعقل والعلم،
مع تجاهل التَّفسير الصَّحيح الوحيد:
أنَّ لهذا الكون خالقًا موصوفًا
بما يليق به في دينٍ صحيحٍ،
وأنَّه خلق كلَّ شيءٍ عن حكمةٍ وإرادة.
يبقى السُّؤال المهم: هؤلاء العلماء الغربيُّون
الذين يعلنون التزامهم بالمنهج المادِّي،
هل التزموا به بالفعل؟ هل التزموا بالفعل
باستثناء الغيبيَّات من تفسيراتهم؟
بل هل هناك شيءٌ حقيقيٌّ اسمه المنهج المادِّي
يمكن أن يُعمَل به في الحقول العلميَّة؟
أم سنجِدُ من سُنَّةِ الله أنَّ مَن أنكرَ الحقَّ
انفرط عليه عِقدُ كُلِّ شيء،
فلا يَسْلَم له عقلٌ ولا خَبرٌ ولا فطرةٌ ولا تجريب
﴿وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف:28]
هذا ما سَنُجيبُ عنه في الحلقة القادمة
بإذن الله، فتابعونا.
والسَّلام عليكم ورحمة الله.