رحلة اليقين ٤٠: المخطوف
أَليسَ مِنَ الإنصافِ أنْ نعترفَ بِأنَّ المنهجَ المادّيِّ
وإنْ كانَ يستثنِي وُجودَ اللهِ
مِن تفسيرِ الكونِ والحياةِ
إلّا أنّهُ حقَّقَ لِلبشريّةِ نفعًا كبيرًا
مِنْ خِلالِ السَّيَنْسْ "العلمُ التجريبيُّ"
والاكتشافاتِ المتنوّعةِ.
إذا كانَ كذلكَ، فَهَلْ حاجتُنا
لِلإقرارِ بوجودِ الخالقِ هيَ إذنْ ببساطةٍ
لإشباعِ حاجاتِنا الروحيّةِ، وتنظيمِ علاقاتِنا
الاجتماعيّةِ، وإصلاحِ آخرتِنا؟
إذا أَثبتْنَا أنَّ أكثرَ العلماءِ
في زمانٍ ما مادّيّونَ في تفسيراتِهِم،
ألا يدلُّ ذلكَ على أنَّ
الإقرارَ بوجودِ خالقٍ للكونِ
لا يَلزَمُنا لتحقيقِ التقدّمِ
في العلومِ والاكتشافاتِ؟
بَلْ ألَمْ يَتقدّمِ الغربيّونَ
بعدَ أنْ حَجَّموا الدِينَ في حياتهِم؟
مما يَدُلُّ على أنَّ الدِينَ بشكلٍ عامٍ
يُعيقُ التقدّمَ في العلومِ.
أمْ أنَّ هُناكَ خَللًا جَوهريًّا في هذِه الأفكارِ
كُلِّها، بِكذبةٍ كبيرةٍ تَشرَّبْناها ونحنُ لا نَشعرُ؟
هذِه الأسئلةُ وغيرُها الكثيرُ،
نُجيبُ عَنها في هذِه الحلقةِ، فتابِعوا مَعَنا.
السّلامُ عليكمْ.
جالسونَ في أمانِ الله، فإذا بِنا نَسمعُ ضَجيجًا،
تَوجَّهنا نحوَ مَصدرِ الضجيجِ، فرأينَا هذا المشهدَ:
ولدٌ جميلٌ اسمُهُ "سَيَنْسْ"، وجهُهُ ملطّخٌ بالسّوادِ.
يُمسِكُ بِهِ شخصٌ مقنَّعٌ يُريدُ أنْ يَهرُبَ بهِ،
ويَدَّعي أنَّهُ أبو الولدِ، وشخصٌ آخرَ
يَتَّهمُ المقنَّعَ بأنَّهُ اِختطفَ الولدَ مِنْه.
إستمعْنَا لكلٍّ منهُما، أَحسَسْنَا أنَّ صوتَ المقنَّعِ
مألوفٌ لَدَينا لكنَّنَا لَمْ نَعرفْ بدايةً مَن هُوَ.
في هذِهِ الحلقةِ نُجري فُحوصاتِنا لتصحيحِ النَّسبِ
لنُسلِّمَ الولدَ إلى أبيهِ الحقيقيِّ،
ونُسقطَ القناعَ عَنِ المقنَّعِ، ونَتعرّفَ على هُويَّتِه.
تعالَوْا نُجري فحصَ (بالإنجليزيّة) الحمضِ النوويِّ
لنَعرفَ الصَّادقَ مِن الكاذبِ.
إذاً هُما مُدَّعيانِ لأبوّةِ السَّيَنْسْ.
الأوّلُ اسمُه (المنهجُ المُقِرُّ بالخالِقيَّة)
المنهجُ الذِي يَعترفُ بأنّهُ لا بُدَّ لِهذا الكونِ
والحياةِ مِن خالقٍ يَحتاجُ إليهِ كُلُّ شيءٍ،
وهوَ غيرُ مُحتاجٍ إلى غيرِهِ.
أَخذْنا عَيِّنةً مِن منهجِ الخالقيِّة
فوَجدْنا المعرفةَ فيهِ مُعتمدةً على أربعِ قواعدٍ
مِثلَ القواعدِ النيتروجينيّةِ
في المادّةِ الوراثيّةِ.
هذِه القواعدُ هي: الفِطرةُ،
والعَقلُ، والخَبرُ، والِحسُّ.
فمنهجُ الخالقيِّة يُفسِّر الكونَ والحياةَ
تفسيراتٍ تَنبني على هذِه القواعدِ الأربعةِ،
وهذِه التفسيراتُ تَشملُ فيما تشملُهُ
غيبيَّاتٍ دَلَّ تفاعلُ هذِه القواعدَ على صحّتِها.
إلتَفتْنا إلى المقنَّع، قَبلَ أنْ نفحصَ
مادّتَه الوراثيّةِ. سألناهُ: مَن أنتَ؟
قالَ: أنا اسمي المنهجُ المادِّيُّ
(بالإنجليزيّة) المنهجُ المادّيُّ،
ويُطلقونَ عليَّ أحيانًا اسمَ المنهجِ الطَبيعانيِّ
(بالإنجليزيّة) المنهجِ الطبيعيِّ.
يَعني ماذا مادّيٌّ أو طَبيعانيٌّ؟
قالَ: يَعني أنا لا أَعترفُ بِغيرِ
المحسوساتِ في تفسيرِ الكونِ والحياةِ.
بَلْ أرُدُّ كُلَّ شيءٍ إلى المادّةِ، وأُفسِّرُ
الكونَ والحياةَ على أساسِهَا دونَ غيرِهَا.
وبفضلِ ذلكَ استطعتُ أنْ أُنجبَ
اِبني هَذا السَّيَنْسْ،
لذلكَ تستطيعُ أَنْ تقولَ أنَّني أبو السَّيَنْسْ أَوْ أُمُّه
كما يقولُ "Manbendra N. Roy" مَانبِندرا رُويْ:
"المفهومُ المادّيُّ عَن منشَأِ وتطوّرِ
الكونِ هوَ أُمُّ السَّيَنْسْ."
لحظة! لا تعترفُ بالغيبيَّاتِ يَعني أنتَ الإلحادُ؟
قالَ: لا، إلحادْ مِين!
أنا لا علاقةَ لِي بالإلحادِ، ولا علاقةَ لِي
بالصّراعِ الدّائرِ بينَ الدِّينِ والإلحادِ،
بَلْ سَأُحاكمُ كُلَّ شيءٍ بموضوعيَّةٍ، الإلحاد مَوقفٌ
عَقَدِيٌّ مٌسبَقٌ، أمَّا أنا فَليسَ عِندي مواقفُ مسبقةٌ.
لكنَّكَ قُلتَ أنَّك تَنطلقُ مِن عَدمِ الاعترافِ
بالغيبِ، أَليسَ هذا مَوقِفًا عَقَدِيًّا؟
قال لَنَا: لا لا، أنا استثنيتُ الغيبَ لأنَّ هذا
ما دَلَّني عليهِ السَّيَنْسْ،
السَّيَنْسْ أَثبتَ لِي أنَّه لا داعيَ للغيبِ.
يا رَجُل! أنتَ قُلتَ أنَّكَ أَنجبتَ السَّيَنْسْ
لَمَّا استثنيتَ الغيبَ مِنْ تفسيرِ الكونِ والحياةِ،
والآنَ تقولُ أنَّكَ استثنيتَ الغيبَ
لأنَّ هذَا ما دَلَّكَ عَليهِ السَّيَنْسْ.
يَعني خَلِّينا نِفْهم، السَّيَنْسْ هو مُقدِّمةٌ أَم نتيجةٌ؟
هو ناتجٌ عنِ استثناءِ الغيبياتِ أَم أَنتَجَ هذا
الاستثناءَ؟ هو الأبُ وأنتَ الابنُ أَمِ العكسُ؟
قالً المقنّعُ: بَلْ أنا والسَّيَنْسْ شيءٌ واحدٌ،
كما في قَناعةِ كثيرٍ مِنَ العلماءِ.
يَبدو أنَّنا أمامَ ثالوثٍ آخرَ..
أنتَ الأبُ، والسَّيَنْسْ الإبنُ،
والعكسُ، وكِلاكُما شيءٌ واحدٌ.
ألا تُلاحظُ أيُّها المقنَّعُ ارتباكَكَ
في تحديدِ علاقتكَ بالسَّيَنْسْ؟
قالَ لنَا المقنَّعُ: بإمكانِكَ أنْ تقولَ
أنِّي والسَّيَنْسْ أُصولُنا مُشترَكة،
أَدورُ معَ السَّيَنْسْ حيثُ دارَ،
وإذا السَّيَنْسْ دَلَّني على شيءٍ
جديدٍ، فسأقبلُه مَهما كانَ
كما في هذِه الورقةِ الحديثةِ في 2018
بعنوانِ (طَبِيعانيّةِ السَّيَنْسْ)
ما عِندَكْش أحكامْ مسبقة؟ قالَ: نَعم!
مُستعدٌّ تُغيِّرَ بحسبِ ما يَدُلُّك عليهِ السَّيَنْسْ؟
قالَ: نَعم!
مُتأكّدٌ؟ قالَ: طبعًا! ولذلك يُسمّونَني:
(بالإنجليزيّة) المادِّيّةُ العِلميَّةُ التجريبيّةُ،
فأنا والسَّيَنْسْ شيءٌ واحدٌ.
قالَ لنا المقنَّعُ ليُظهِرَ حِياديَّتهُ وتَجرُّدَهُ:
ليسَت مَهمّتي إنكارَ أو إثباتَ وجودِ إلَه،
هذا الموضوعُ لا يَعنيني لأنه لا يُسمح للسَّيَنْسْ
أنْ يَأخذَ هذا الموضوعَ بِعينِ الاعتبارِ أصلًا،
كما قالَ الدّكتور تود "Scott C. Todd"
في مجلّةِ نِيتشر "Nature".
المهمُّ أنَّي لا أقرُّ بالخالقيَّةِ،
لا أُقرُّ بأنَّه لا بُدَّ مِن خالقٍ خَلَقَ
الكونَ والحياةَ، قيُّومٍ على خَلقِه يُدبِّر أَمْرَهُم،
بَلْ أنا سَأعطيكُم تفسيرًا
مستقلًّا للكونِ والحياةِ،
كما رَأينا في كلامِ الدّكتور فرانكلين
هارولد "Franklin M. Harold" حينَ قالَ:
"دَعُوني أُبيِّنُ بشكلٍ لا غموضَ فيهِ أنَّني
مِثلَ الغالبيِّة العُظمى مِن العلماءِ المعاصرينَ
أرى العالَم الحيَّ مُنتَجًا بشكلٍ
حَصريٍّ مِن أسبابٍ طبيعيّةٍ".
قالَ المقنَّعُ: سأعطيكم تفسيرًا مُبَرهنًا كما لا
يستطيعُ غيري، وذلكَ مِن خِلالِ وَلدي السَّيَنْسْ،
وبَعد ذلكَ إذا أردتَ أنْ تلجأَ إلى الدّينِ لإشباعِ
حاجاتِكَ النّفسيّةِ وما تُسمّيهِ الرّوحيّةِ، فأنتَ حرٌّ.
علمًا بأنَّني في طريقِ حلِّ
المشاكلِ بِما فيها النفسيّةِ
مِن خلالِ التحكّمِ في
بَيو-كيميائيّةِ الدّماغِ.
ستُعطينا أيُّها المقنَّعُ تفسيرًا مستقلًّا
لا يَحتاجُ إلى وجودِ خالقٍ؟ نعم! أكيدٌ؟ طبعًا!
المقنَّعُ لم يكُن يَعلمُ أنَّنا نسجِّلُ لهُ
هذِه التصريحاتِ والوعودِ.
تذكَّروها جيدًا -إخواني-،
سنأتي عَليها واحدةً واحدةً.
مِثلما فَعلنا معَ منهجِ الخالقيَّةِ حينَ
أَخذنا عيّنةً فوجدناهُ يقومُ على أربعِ قواعدٍ،
أَخذنا عيّنةً مِن المقنَّعِ، فَحَصناها لِنَرى
قُدرتُه على الإنجابِ، وتَفاجأنا بِما رَأينا.
أوّلًا- استثناءُ الغيبِ أدَّى إلى استثناءِ الفطرةِ
عَدَمِ الاعترافِ بِها أو الطّعنِ في موثوقِيَّتِها،
لأنَّ وجودَ فطرةٍ موثوقةٍ يعني وجودَ
خالقٍ كامِلِ الصّفاتِ فَطَرَ النّاسَ عَليها،
كما بيَّنَّا في الحلقةِ الخامسةِ،
وهذا غيبٌ لا يَعترِفُ المقنَّعُ بِه،
وبِهذا فَقدنا في عيِّنةِ المقنَّعِ
-يَعني المنهجِ المادِّيِّ-
العنصرَ الأوّلَ الموجودَ في
منهجِ الخالقيَّةِ، ألا وَهو الفطرةُ.
ثانيًا- الفطرةُ هي الأساسُ للبَدَهيَّاتِ العقليَّةِ
كالتّسليمِ بأنَّ لكلِّ شيءٍ حادثٍ سببًا.
هذه البدهيَّاتُ هيَ التي نَبني مِنها عادةً الدّليلَ
العقليَّ في مُناقشاتِنا حينَ ننطلقُ مِن بَدَهِيَّاتٍ
وصولًا إلى استنتاجاتٍ عقليّةٍ.
مَفِيش فِطرة، إذًا مَفِيش بَدَهِيَّاتٍ عقليَّةٍ كَحقٍّ
مطلقٍ، وهذا يهدمُ الدّليلَ العقليَّ.
كذلكَ وكما رَأينا مِرارًا، عندما حاولَتِ
الماديَّةُ أنْ تَسُدَّ فجوةَ الغيبِ الذي أنكرَتْه،
جاءَتْ بخرافاتٍ مصادِمةٍ لأبسطِ البدهيَّاتِ
والمسلَّماتِ التي يتّفقُ عليها العقلاءُ،
فحاولَتْ إقناعَ النّاسِ أنَّ
العيبَ ليس في خُرافاتِها
بَلْ في عقولهِم وما يَعتبرونَه هُمْ بدهيَّاتٍ
كما فعل ريتشارد دوكينز "Richard Dawkins"
ولورنس كراوس "Lawrence Krauss" في جلستِهما
التي يُبرّرانِ فيها فكرةَ نشوءِ الكونِ
تلقائيًّا مِن لا شيءٍ. يقول دوكينز:
إذن، يُقلّلونَ مِن شأنِ
(بالانجليزية) المنطق السليم
وهوَ مصطلحٌ ليسَ لهُ تعريفٌ منضبطٌ متّفقٌ عليهِ،
لكنَّه يأتي في سياقاتٍ بِمعنى
المسلَّماتِ، ما يَتّفقُ عليهِ العقلاءُ.
فيقولُ لكَ دوكينز عَن نشأةِ الكونِ
تلقائيًّا مِن لا شيءٍ:
هذا يعارضُ بالفعلِ
(بالإنجليزيّة) المنطقَ السليمَ،
لكن كما قُلتُ سابقًا لا يمكنكُ
الاعتمادَ على (بالانجليزيّة) المنطقِ السليمِ،
لو كان بإمكانِك فِعْلُ الأشياءِ (بالانجليزية)
بالمنطقِ السليمِ لَما احتجْنا الفيزيائيّينَ.
نفسُ منطقِ البروفّيسّور
ريتشارد ليونتن "Richard Lewontin"
حين برَّر قَبولَ الإدِّعاءاتِ العِلميَّة المتعارِضةِ
معَ (بالانجليزيّة) المنطقِ السليمِ
مهما بدَت سخيفةً،
وحينَ قالَ: إنَّنا نحنُ مدفوعونَ
بالتزامِنا المسبقِ بالأسبابِ المادّيَّةِ إلى
أنْ نُنشئَ منظومةَ استكشافٍ
ومجموعةَ مفاهيمٍ تُنتِجُ تفسيراتٍ ماديَّةٍ
مهما كانَت هذهِ التفسيراتُ مصادمةً
للبديهةِ (بالإنجليزية) مصادمةً للبديهةِ.
هذا منطقهُم إذن:
المادّيَّةُ والسَّيَنْسْ متلازمان،
السَّيَنْسْ مقدَّس،
السَّيَنْسْ يخالفُ البدهيًّاتِ العقليَّةِ،
كلُّ ما خالفَ السَّيَنْسْ يجبُ أنْ يسقطَ.
إذنْ، فلتسقطِ البدهيَّاتُ العقليةُ.
أيضًا حَسْبَ المنهجِ المادِّيَّ المعتمِدِ على
التطوُّرِ في تفسيرِ نشأةِ الكائناتِ الحيَّةِ،
فإنَّ العقلَ البشريَّ تطوَّر بمجموعِ الصُدفِ
العشوائيَّةِ، فلا ضمانةَ أنْ يهتديَ إلى الحقِّ،
وهو الأمرُ الذي عبَّرَ داروين
عن انزعاجِه منْهُ حينَ قالَ:
"ينتابُني دائمًا شكٌّ فظيعٌ حولَ ما إذا كانت
قناعاتُ عقلِ الإنسانِ، والذي بدورِه
تطوَّرَ مِن عُقولِ كائناتٍ أدنى،
تتمتّعُ بأيّةِ قيمةٍ أو تستحقُّ أدنى ثقةً".
وهو ما يؤكّدُه دوكينز أيضًا إذْ يقول:
إذنْ يقولُ لكَ: طبعًا البداهةُ العقليَّةُ جاءَت
ممّا كانَ ضروريًّا لبقائِنا في إفريقيا،
كانَ عليهِم أنْ يعيشوا، أنْ يعرفوا كيفَ
يصطادونَ جواميسَ البافلو،
كيفَ يجدونَ نَبعَ ماءٍ، كيفَ يتسلّقونَ
شجرةً عندما يواجِههُم أسدٌ أو ما شابه،
وبالتّالي، فالانتخابُ الطبيعيُّ لم يُشكِّلْ عقولَنا
أبدًا لتفهمَ نظريّةَ الكَمِّ أو النّظريّةَ النّسبيّةَ،
وإنَّه حقيقةً لَإنجازٌ مدهشٌ للعقلِ البشريِّ أنْ
يكونَ بعضُ البشرِ على الأقلِّ قادرينَ على الفهمِ.
إذن ببساطةٍ يريدُ أنْ يقولَ لكَ: إذا رأيتَ
كلامَنا عن كَونٍ مِن لا شيءٍ وما شابَه،
يُصادمُ عقلَكَ وبدهيَّاتِه،
فهذا لأنَّ عقلكَ تطوَّرَ فقطْ بالمقدارِ الذي يسمحُ
لكَ بالبقاءِ كباقي البهائمِ، لا لِيُدركَ الحقائقَ
فعَليكَ أنْ تثقَ بِمَن تطوَّرَ عقلُهم أكثرَ
بدرجةٍ سمحتْ لهم أنْ يفهموا ما
لم تفهَمْهُ أنتَ مِن نظريّاتٍ،
وبالتّالي يستنتجُ عنِ الكونِ والحياةِ ما تظنُّه
أنتَ جنونًا أو مصادِمًا لبدهيَّاتِ العقلِ.
ويؤيّده كراوس على ذلكَ. لسانُ حالِهم:
لا تقرَأوا كتابَ الكونِ المقدَّسِ، لستُم مؤهَّلينَ
لفهمِهِ، نحنُ أذكى منكم وسنقرأُه نيابةً عنكُم.
لذلكَ لا تستغربْ عندما نقولُ أنَّ
المادّيَّةَ تُلغي العقلَ والدليلَ العقليَّ،
فلها معَ العقلِ ثلاثةُ مآزق:
ليسَ هناكَ أساسٌ تقومُ عليهِ البدهيَّاتُ
العقليَّةُ ما دامَت المادّيَّةُ تُنكرُ الفطرةَ.
البدهيَّاتُ العقليَّةُ تَمنعُ مِن قَبولِ التفسيراتِ
التي تَسدُّ بها المادّيَّةُ فجوةَ الغيبِ.
والعقلُ لا مصداقيَّةُ له ما دامَ تَطوَّرَ بالصُّدَفِ
والعشوائيَّةِ ولم يُصَمَّمْ لمعرفةِ الحقيقةِ.
وقد بيّنّا تفاصيلَ مهمّةً لهذه النقطةِ
في الحلقةِ الخامسةِ من السلسلةِ
بعنوانِ: "كيفَ يهدمُ الإلحادَ العقلَ والعلمَ"
وننصحُ جدًّا بمراجعةِ الحلقةِ.
وبهذا فَقدْنا في المادّيَّةِ
المولِّدَ الثّاني للمعرفةِ،
والموجودَ في منهجِ الإقرارِ بالخالقيّةِ
ألا وهوَ العقلُ والدليلُ العقليُّ.
ثالثًا، حمَّى التنكّرِ والتشكيكِ المادِّيِّ
وَصلتْ إلى الَخبرِ، المولِّدِ الثالثِ للمعرفةِ
فمشاهداتُ النّاسِ وتجاربُهم لها قيمةٌ
إذا أَقررْنا أنَّ الكونَ والحياةَ هما في حالةٍ مِنَ
الانتظامِ محكومانِ بقوانينَ وسننَ ثابتةٍ.
إذا أقررْنا أنَّ هناكَ انتظامًا
في السّلوكِ (بالانجليزية) تناسق،
وثباتًا في القوانين (بالانجليزية) ثباتية
بما يُمكّنُنا مِن تعميمِ نتائَج
التّجربةِ أو المشاهدةِ الواحدةِ
على كلِّ ما عداها مِن حالاتٍ في
نفسِ سياقِها رغمَ عدمِ معاينتِها بعد،
فَتنبني الخبراتُ البشريّةُ بشكلٍ تراكميٍّ.
بينما صاحبُنا المقنَّعُ لمَّا أنكرَ الغيبَ
اضطُرَّ إلى القَولِ بأنَّ الكونَ جاءَ بالصّدفةِ،
كما في كتابِ: الكونُ الصُّدَفيُّ:
العالَمٌ الذي ظننتَ أنّكَ عرفتَهُ.
حيثُ يقولُ مؤلّفُه الدّكتور
آلن لايتمن "Alan Lightman":
إذن يقولُ لكَ: كَونُنا هذا كُلُّه جاءَ بالصّدفةِ
وبالتّالي فكيفَ للعشوائيَّةِ والصّدفةِ
أنْ يَسُنَّا سننًا ثابتةً أو نظامًا أو قوانينَ.
لذلكَ إذا قمتَ أنتَ بتجربةٍ وخرجتَ
بمشاهدةٍ فمشاهدتُكَ وتجاربُكَ لا تعنيني،
إذْ ما الذي يَضمنُ أنّي لو قمتُ وأعدتُ
تجربتكَ فسأخرجُ بالمشاهداتِ نفسِها؟
هذا الإدِّعاءُ يَفترضُ أنَّ هناكَ
سننًا، قوانينًا، نظامًا...
وصُدفُ المادّيَّةِ لا تُؤدّي إلى شيءٍ مِن هذا كلِّه
وبالتّالي، فأخبارُ الآخرينَ عن
تجاربهِم ومشاهداتِهم لا قيمةَ لها
مهما كانوا موثوقينَ ومهما تكرَّرَتْ مشاهداتُهم،
وبالتّالي، فلا مجالَ لتراكميَّةِ المعرفةِ.
لذلك عندما تسمعُ من الماديِّينَ
مَن يقولُ لا أقتنعُ حتى أرى بِنفسي
فهو يحاولُ أنْ ينسجمَ مع مادّيّتِه.
لكنْ لحظة! توقُّعُ الانتظامِ الكونيِّ هو فطرةٌ
مغروسةٌ في الإنسانِ بلْ وفي الحيوانِ أيضًا،
ويمكنُ ملاحظةُ ذلكَ بوضوحٍ في
تجنّبِ كُلٍّ مِنهما لمواضعِ الأذى بمجرّدِ
وقوعِه في إحداها ولَو مرّةً واحدةً.
فكيفَ يلزمُ مِن المادّيّةِ عدمُ الانتظامِ؟ فطرة؟
ألم نَقُلْ لكَ أنَّ المادّيَّةَ لا
تعترفُ أصلًا بالفطرةِ لأنَّها غيبٌ.
أيضًا المادّيَّة تُعطِبُ عنصرَ الَخبرِ الصّادقِ لأنَّ
القيَم الأخلاقيَّةَ كالصّدقِ والأمانةِ العلميَّةِ
لا يعودُ لها أيَّةُ قيمةٍ في ظلِّ استثناءِ
الخالقِ مِن تفسيرِ الكونِ والحياةِ،
إذْ ليسَت هناكَ تجربةٌ مخبريَّةٌ على أسسٍ مادّيَّةٍ
تُثبتُ أنَّ الأمانةَ خلُقٌ حسنٌ مطلوبٌ
وبالتّالي فليسَ هناكَ دافعٌ
غيرُ مادّيٍّ للباحثينَ الماديِّينَ
حتى يَكونوا صادقينَ فيما يدَّعونَه مِن نتائِج
أبحاثِهم، وهذا يُسمِّمُ آبارَ البحثِ العلميِّ.
وبهذا فَقدْنا في عيِّنةِ المقنَّعِ
يعني المنهجِ المادّيِّ، العنصرَ الثالثَ الموجودَ
في منهجِ الخالقيِّةِ، ألا وهو الدّليلُ الخبريُّ.
لعلَّكَ ستقولُ: إذًا وَجدتُم الحسَّ فقطْ؟ وهذا
يَنسجمُ معَ تسميةِ المقنَّعِ نفسَه بالماديَّةِ.
فأقولُ لكَ: الحسُّ ليسَ مقصورًا على
الإحساسِ بالأشياءِ، بل وبآثارِها أيضًا.
كثيرٌ من علماءِ الفيزياءِ يقولون:
بأنَّ ما نراهُ ونُحسُّه مِن مادّةٍ وطاقةٍ
لا يُشكِّل إلا 4% مِن مادّةِ الكونِ،
وأن 96% مِن الحقيقةِ
الفيزيائيَّةِ للكونِ مجهولةٌ بمعنى الكلمةِ،
ويسمُّونها المادّةَ المظلمةَ والطّاقةَ المظلمةَ.
رأيتمُوها؟ لا. طيّب لماذا
تَعتبرونَ القولَ بوجودِها علمًا؟
قالوا: مِن آثارِها، ما نراهُ مِن سلوكِ
المحسوساتِ يُحتِّم وجودَ هذه المادّة،
فالكونُ يتوسَّعُ بشكلٍ مُتسارعٍ، وهذا لابدَّ
له مِن طاقةٍ سمّيناها الطّاقةَ المظلمةَ.
كما في هذا المقطعِ للفيزيائيّ
هاري كليف "Harry Cliff"
إذًا يقولُ لكَ: عندما تَسمعُ
كلمةَ (مظلم) في الفيزياءِ
فعليكَ أنْ تشكَّ كثيرًا لأنَّها قدْ
تعني أنَّنا لا ندري عن ماذا نتحدّثُ.
لا يدرونَ أيَّ شيءٍ عنها،
ومعَ ذلكَ يؤمنونَ بها مِن آثارِها
بغضِّ النّظرِ عن حقيقةِ وجودِ أو
عدمِ وجودِ هذه المادّةِ أو الطّاقةِ،
لكنْ ما يعنينا هُنا أنَّ الوسطَ العلميَّ يَتقبَّلُ
تمامًا الاقتناعَ بوجودِ شيءٍ مِن آثارِه.
بينما صاحِبُنا المقنَّعُ لمَّا انطلقَ مِن استثناءِ
وجودِ خالقٍ للكونِ، معَ أنَّ كلَّ شيءٍ يدلُّ عليه،
فكأنَّهُ يقولُ لنا: الآثارُ غيرُ مُعتبَرةٍ عِندي،
لا بُدَّ أنْ أرى الشيءَ بذاتِه، أنْ أُحسَّهُ مُباشرةً.
في المُقابلِ عندما جاءَ المقنَّعُ ليسُدَّ فجوةَ
الغيبِ التي أحدثَها، فصارَ يحدِّثُنا عَن
كائناتٍ فضائيّةٍ بَذَرَتِ الحياةَ على الأرضِ، وعن
أكوانٍ متعدّدةٍ تُفسِّرُ الضّبطَ الدّقيقَ، وغيرَ ذلكَ.
فهو قدْ جاءَنا بما لم يُحسَّهُ أحدٌ ولا له أثرٌ،
مخالفًا بذلكَ قواعدَ وتعريفَ الحسِّ السليمِ.
فالماديَّةُ تُخالفُ تعريفَ الحسِّ الذي تعارفَتْ عليهِ
البشريّةُ مِن أنَّه الإحساسُ بالشّيءِ أو آثارِه،
وتأتي في المُقابِلِ بأوهامٍ تصادمُ الحسَّ.
وبِهذا فقدْنا في عيِّنةِ المقنَّعِ المولِّدَ الرّابعَ
والأخيرَ للمعرفةِ، والموجودَ في منهجِ الخالقيَّةِ
ألا وهو الدّليلُ الحسّيُّ.
وبِهذا لم نجدْ في عيِّنةِ المقنَّعِ أيَّ
مولِّدٍ للمعرفةِ، بَل وجدْناه عقيمًا تمامًا
لا يمكنهُ أنْ يُنجِبَ هذا الولدَ الجميلَ:
السَّيَنْسْ، والذي يدَّعي هذا المقنَّعُ أُبوَّته.
إذًا تمَّ فحصُ كُلٍّ مِن منهجِ
الإقرارِ بالخالقيَّةِ، والمقنَّع.
قَبْلَ أنْ نُصدرِ حُكمنَا النّهائيَّ، تعالَوا نأخذُ
عيِّنةَ (بالانجليزيّة) الحمضِ النوويِّ
مِن الولدِ: السَّيَنْسْ
ونَرى أيَّ مَلامَح المدَّعِيَيْنِ موجودةٌ فيهِ.
حتَّى الآن، سمَّيناهُ "سَيَنْسْ" بالاسمِ الأجنبيِّ
اختصارًا، لأنَّ ترجمتَهُ ليسَت في كلمةٍ واحدةٍ،
فهو "العلمُ التجريبيُّ الرَّصديُّ"، وهذا العلمُ
موجودٌ قَبْلَ أنْ يُصَكَّ مُصطلحُ سَيَنْسْ،
وعندَ غيرِ الأمَّةِ التي
صَكَّتْ هذا المصطلحَ،كما سَنرى.
فسواءً قُلنا مِن الآنِ فصاعدًا سَيَنْسْ أو
علمٌ تجريبيٌّ، فنحنُ نتحدّثُ عنِ الشّيءِ نفسِه.
أخذْنا عيِّنةً مِن السَّيَنْسْ، وسألْنا
أنفُسَنا: ما هو السَّيَنْسْ؟
المجلسُ العلميُّ البَريطانيُّ وبعدَ
عامٍ مِن العملِ على صياغةِ تعريفٍ،
خَرَجَ لنا بتعريفٍ قالَ عنه أنَّهُ قدْ يكونُ
أوّلَ تعريفٍ رسميٍّ للسَّيَنْسْ يُنشر في التاريخ.
ما هو هذا التعريفُ؟ قالُوا:
السَّيَنْسْ هو متابعةُ المعرفةِ والفهمِ
للعالَمِ الطّبيعيِّ والاجتماعيِّ
مِن خلالِ اتّباعِ منهجيَّةٍ مُنتظمةٍ
مستندةٍ إلى الدّليلِ.
المعرفةُ، الفهمُ، الدليلُ، كُلُّها
مفاهيمٌ معتمدةٌ على العقلِ،
والعقلُ لا موثوقيَّةَ لهُ حَسْبَ الأُسُسِ المادّيَّةِ.
عالِمُ الأحياءِ البَريطانيّ تُوماس هَكسلي
"Thomas Henry Huxley"
والذي كان يُطلقُ عليهِ اسمُ (بالانجليزية)
كلبُ البولدوغ الخاصّ بداروين،
يَعني كلبُ البولدوغ بِتاع داروين
لشدّةِ حماستِه وتبعيّتِه لداروين.
كيفَ عرَّفَ السَّيَنْسْ؟ قالَ:
السَّيَنْسْ هو ببساطةٍ (بالانجليزية)
المنطق السليم بأفضل أشكالها،
بمعنى أنَّه دقيقٌ بشكلٍ حازمٍ في المشاهدةِ،
وعديمُ الرّحمةِ معَ المُغالطةِ في المنطقِ.
(بالانجليزيّة) المنطقُ السليمُ، والتي رَأَيْنا
كيفَ انتهى بِهمُ الأمرُ إلى إسقاطِها.
أمَّا المغالطاتُ المنطقيَّةُ، فقَدْ رَأَينا
كيفَ أنَّ خرافةَ التّطوّرِ المادّيّةَ
هيَ أفضلُ مثالٍ على خرافةٍ تجمعُ
كلَّ أشكالِ المغالطاتِ المنطقيَّةِ،
عِلمًا بأنَّنا لم ننتهِ بَعْدُ مِن القائمةِ،
والتي وصَلْنا فيها المغالطةَ الثالثةَ عشرة.
العلمُ التجريبيُّ يَقومُ بصياغةِ
فرضيَّاتٍ وتأسيسِ قوانينٍ ونظريّاتٍ،
كما قالَ دومينيك لوكور
"Dominique Lecourt" في فلسفةِ العلومِ.
نظريّات، ما هو تعريفُ النظريّةِ العلميّةِ؟
تعالَوا نرى تعريفَها لدَى الأكاديميَّةِ
الوطنيَّةِ الأمريكيَّةِ للعلومِ.
"في السّيّنْسْ، النظريّةُ هيَ تفسيرٌ مُدَعَّمٌ
بالدليلِ لجانبٍ مِن العالَمِ الطبيعيِّ،
والذي يَدمُج ما بينَ الحقائقِ، والقوانينِ،
والاستنتاجاتِ، والفرضيّاتِ المُختَبرِةِ.
وقفاتٌ سريعةٌ معَ التعريفِ: "النظريَّةُ
هيَ تفسيرٌ مُدَعَّمٌ بالدّليلِ"
لا بُدَّ هنا مِن إعمال العقل لمعرفة أنَّه دليل،
"لجانبٍ من العالَمِ الطّبيعيِّ
والذي يَدمُج ما بينَ الحقائقِ"
وقدْ بيَّنا في حلقةِ
(كيف يَهدم الإلحادُ العقلَ والعلمَ)
أنَّهُ لا حقيقةَ مطلقة إلَّا
بالاعترافِ بوجودِ خالقٍ،
وأنَّ إنكارَهُ يُؤدِّي إلى القولِ بنسبيَّةِ
الحقيقةِ وعدمِ وجودِ حقيقةٍ مطلقةٍ،
"والقوانينِ"، والتي تَفترضُ حالةَ
انتظامٍ، وسننًا كونيةً ثابتةً،
لا توجِدُها العشوائيَّةُ والصُدفيَّةُ،
"والاستنتاجاتِ"، والتي تحتاجُ إعمالَ العقلِ،
كما تحتاجُ دلالةَ الأثرِ المحسوسِ
على ما ليسَ بمحسوسٍ،
"والفرضيّاتِ المُخْتبَرَة"، والتي نعلمُ نتائجَها
بالدّليلِ الخَبريِّ مِنَ الباحثينَ الّذينَ اختبروها
تعريفٌ مشحونٌ بالفطرةِ، والعقلِ، والخبرِ،
والحسِّ بتعريفِهِ الشاملِ لأثرِ غيرِ المحسوساتِ.
حتَّى لا يبقى كلامُنا نظريًّا -إخواني- تعالَوا
نتناولُ نموذجًا مِن نماذجِ العلمِ التجريبيِّ،
وأثناءَ استعراضِهِ نتأمَّلُ في وجهِ هذا الولدِ،
هل نَجِدُ فيه ملامَح المنهجِ
المقرِّ بالخالقيَّةِ أَم المنهجِ المادّيِّ؟
عام 2007 بدأتُ معَ زملاءٍ في الأردنِ
رحلةً بحثيّةً في مجالِ اِلتئامِ الجروحِ،
كانَت بدايتُها دراسةُ التركيبِ
الجُزَيْئيِّ لمادّتَيْن، لكنْ لحظة!
هل رَأينا نحنُ أو غيرُنا التركيبَ
الجُزَيْئيَّ لهاتَين المادّتَين بأعينِنَا؟ لا،
وإنَّما يَتمُّ استنتاجُ التركيبِ الجُزَيْئيِّ لمادّةٍ ما
مِن خلالِ آثارِها المحسوسةِ
حتَّى لو لم تُحَسَّ هي نفسُها،
وذلكَ مِن خلالِ فحوصاتِ
الكيمياءِ التحليليَّةِ والعضويَّةِ.
طيّب، أشارَت أبحاثٌ عديدةٌ إلى قدرةِ هاتَين
المادّتينِ على المساعدةِ في اِلتئامِ الجروحِ.
ولضَعفِ الأبحاثِ المنشورةِ عن أحدِهما،
تحقَّقْنا مِن هذهِ الخاصيَّةِ بأنفُسِنا،
وِفْقَ منهجيّةٍ صارمةٍ في نموذجٍ حيوانيٍّ،
ونشَرْنا نتائجَنا في مجلَّةٍ علميَّةٍ عالميَّةٍ.
لاحَظْنا بتفاعلِ الِحسِّ والعقلِ
وجودَ جزءٍ مشتركٍ بينَ المُركَّبَينِ.
فاستنتَجْنا بعقولِنَا، أنَّ هذا الجزءَ قَد يكونُ
هوَ السّببُ في المساعدةِ على التئامِ الجروحِ.
لأنَّنا نُؤمنُ بمبدأِ السببيَّةِ الفطريِّ:
أنَّ الخالقَ جَعَلَ لِكُلِّ حادثٍ سببًا.
استنتَجْنا بعقولِنا أنَّ المُركَّباتِ الأخرى
المحتويةِ على هذا الجزءِ المشتركِ،
سيكونُ لِبَعضِها هيَ الأُخرى خاصِّيةُ
المساعدةِ في التئامِ الجروحِ.
قدْ تكونُ في بعضِها خصائصُ أُخرى، تعملُ
على تعطيلِ أو إضعافِ هذه الخاصّيةِ.
صحيح... لكِنَّ وجودَ هذا الجزءِ يجعلُ
هذهِ المُرَكَّباتِ أحرَى بالتجربةِ.
إستخدَمْنا برنامجًا لتحديدِ
الشّكلِ ثلاثيِّ الأبعادِ للمُرَكَّباتِ،
أدخَلْنا عليهِ حوالي أربعينَ مُرَكَّبًا دوائيًّا،
فرتَّبَها بِحَسْبِ قُربِها مِنَ الجزءِ المُشتَرَكِ
الذي لاحظناهُ في المُركَّبينِ الأوَّلينِ.
وبَدأْنا بتجريبِ المُرَكَّباتِ بحسبِ أولويّتِها
على جُروحٍ أحدَثْناها في الحيواناتِ.
الفحوصاتُ الكيميائيّةُ والمجهريّةُ
والميكانيكيّةُ التي استخدَمْناها في ذلكَ كلِّه،
ما الذي أدْرَانا بفائدتِها؟ تَجَارِبُ مَنْ قَبْلَنا.
وبما أنَّ الكونَ يسيرُ حسبَ سُنَنٍ ثابتةٍ،
فإنَّ بإمكانِنا توقُّعَ نفعِها في حالتِنا،
فنبنيَ عليها وتتراكمُ المعرفةُ.
وبعد رحلةٍ طويلةٍ، أثبَتْنا أنَّ اثنين
مِن هذه المُرَكَّباتِ يُساعدانِ بالفعلِ
على تحسينِ نوعيّةِ الجروحِ الملتئمةِ.
ونشَرْنا هذه النتائَج في مجلّةٍ أميريكيّةٍ،
وحصَلْنا على براَءَتيِّ اختراعٍ فيهِما.
لكنْ لحظة... لماذا تنشرُ
المجلّاتُ نتائجَ تجاربَ كهذهِ؟
ماذا تعني هذهِ النّتائجُ لِسائرِ البشريّةِ؟
لأنَّ جميعَ المجلّاتِ تنطلقُ مِن مبدأِ انتظامِ
سلوكِ الأشياءِ باضّطراد، (بالانجليزيّة) تناسق،
وثباتِ السُننِ، (بالانجليزية) ثبات، بحيثُ يبني
الآخرونَ على نتائَج التّجربةِ، ويستفيدونَ مِنها.
وإلَّا فإنَّ الإحالةَ على الأبحاثِ
السّابقةِ (بالانجليزية) إقتباس،
وقائمةَ المَراجِعَ (بالانجليزية) مراجع،
في أسفلِ كلِّ بحثٍ علميٍّ
لا قيمةَ لها إذا لمْ يكُنْ
هناكَ انتظامٌ في السُّننِ،
وإذا كان الدّليلُ الخبريُّ (مِنْ ثَمَّ)
مطعوناً في فائدتِه كما تستلزمُ المادّيّةُ.
كُلُّ بحثٍ علميٍّ حقيقيٍّ فإنّهُ يقومُ على رصدِ
علاقاتٍ سببيّةٍ بينَ الموجوداتِ أو آثارِها،
مُنْطَلِقاً من قناعةٍ بوجودِ حقائقًا وسُننًا في هذا
الكونِ ومُستَنِداً إلى أخبارِ باحثينَ
آخرينَ بعدَ تصحيحِ ما يلزمُ مِنها،
واستخدامِ العقلِ في ذلكَ كلِّه...
سببيّةٌ، فِطرةٌ، عقلٌ، خبرٌ، تحرِّي صحّةَ الخبرِ،
سُننٌ ثابتةٌ، حِسٌّ، أثرٌ حِسّيٌّ، تجربةٌ.
هل رأيتُم في هذا كلِّه ملامَح المنهجِ
المُقِرِّ بالخالقيّةِ؟ أمْ المنهجِ المادّيِّ؟
إذن، صدرَ الحكمُ باستردادِ الولدِ
المخطوفِ، السَّيّنْسْ، العلمُ التجريبيُّ،
مِنَ المُقَنَّعِ المُسَمَّى بالمادِّيّةِ، ورَدِّهِ إلى أبيهِ
الحقيقيّ، إلى المَنهجِ المُقرِّ بالخالقيّةِ
فَعلْنا ذلكَ بعدَ أربعِ خَطواتٍ: بعدَما بيَّنَّا
مصادرَ المعرفةِ في المَنهجِ المُقرِّ بالخالقيّةِ
ثمّ بيَّنَّا اضطرابَ المادّيّةِ
في بيانِ علاقتِها بالسَّيَنْسْ،
ثم بيَّنَّا عطبَ مصادرَ المعرفةِ في المادّيّةِ،
ثم بيَّنَّا اعتمادَ السَّيَنْسْ بشكلٍ كاملِ
على مصادرِ المعرفةِ في مَنهجِ الخالقيّةِ.
لكنْ لحظة... كيُفَ استطاعَ المُقَنَّعُ أنْ
يخدعَ كثيرًا مِن النّاسِ ويُقْنِعَهم،
-على عُقْمِه- بأنّهُ الأبُ الحقيقيُّ للسَّيَنْسْ؟
ستعرفُ الجوابَ إذا نظرْتَ إلى ما تفعلُه
الكائناتُ شديدةُ الشَّبهِ بِه ألا وهيَ الفيروسات.
الفايروسُ المُمْرِضُ لا يُقَدِّمُ أيّةَ مَنفعةٍ،
وليسَ لديهِ أسبابُ البقاءِ والتوالُدِ،
وهوَ، بعيدًا عن الأجسامِ الحيّةِ،
لا يُصَنَّفُ ضمنَ الكائناتِ الحيّةِ.
ماذا يعملُ حتى يتكاثَرَ؟
يَتقرْصَنُ على الخلايا الحيّةِ
يعني يعملُ (بالانجليزيّة) قَرصنةً
يَبُثُّ مادّتَهُ الوراثيّةَ في الخليّةِ الحيّةِ.
هذهِ المادّةُ يَنتجُ مِنها ما يُشبِهُ نُسخةً
تَحشرُ نفسَها في مادّةِ الخليّةِ الوراثيّةِ.
تأتي قارئاتُ المادّةِ الوراثيّةِ
فتَنخدِعُ بالنّسخةِ الفيروسيّةِ وتَقرؤها
كما تقرأُ مادّةَ الخليّةِ الوراثيّةِ.
وتُنْتِجُ مِنها المزيدَ مِنْ هذا الفيروس
والذي ينطلقُ إلى خلايا أُخرى ليغزوَها
ويُفْسِدَها ولا يُقدِّمُ لها أيّةَ منفعةٍ.
وهكذا المنهجُ المادّيُّ بالضّبطِ!
عندما ألزِمْناهُ بالمُنطلقِ الذي انطلقَ
مِنه، ألا وهوَ إنكارُ الغيبِ،
إنهارَتْ مِن تحتِه مُولِّداتُ المعرفةِ
كُلُّها وبقِيَ مُعلَّقًا في الهواءِ،
وكانَ لابدَّ لهُ مِن أنْ يتقرصَنَ على منهجٍ متكاملٍ.
حقنَ فيروسُ المادّيّةِ مادّتَهُ الوراثيّةَ
المؤذيةَ في نفوسِ البشريّةِ.
هذهِ النّفوسُ هيَ مِثْلُ الخلايا، ومنهجُ الخالقيّةُ
هو المادّةُ الوراثيّةُ الأصليّةُ في هذه الخلايا
معَ ما يَلزمُ من قارئاتٍ تُتَرجِمُ
المادّةَ الوراثيّةَ إلى بروتيناتٍ.
النّفوسُ مُزوَّدةٌ بمنهجِ الخالقيّةِ بفِطرَتِها،
لَدَيها هذا الإقرارُ الفِطريُّ
إبتداءً بطبيعتِها الخَلْقِيّةِ.
فيروسُ المادّيّةِ حشرَ مادّتَهُ الوراثيّةَ
بطريقةٍ مراوغةٍ في هذه النّفوسِ.
جاءِت القارئاتُ فقرأَتْ المادّةَ الوراثيّةَ
المحتويةَ على مُولِّداتِ المعرفةِ في هذه النّفوسِ،
ومعها مادّةُ الفيروسِ، فيروسُ المادّيّةِ.
فخرجَ النّاتُج مُختَلِطًا بينَ بروتيناتٍ نافعةٍ،
ونُسَخٍ جديدةٍ ضارّةٍ من الفيروسِ.
حينَ نظرَ السُّذَّجُ مِن النّاسِ لهذا المُصابِ
بفيروسِ المادّيّةِ فرأَوْه يُنتِجُ علمًا نافعًا
ظنّوهُ من نَتاجِ الفيروسِ، خاصَّةً وأنَّ
علمهُ هذا مُختَلِطٌ بالهذيانِ المادّيِّ
اختلاطَ نتاجِ الفيروساتِ بنتاجِ
المادّةِ الوراثيّةِ الأصليّةِ في الخليّةِ.
بينما عندَ التحقيقِ، ستجدُ أنّهُ ما مِن خيرٍ
أنتجهُ المصابُ بفيروسِ المادّيّةِ،
إلّا بفضلِ منهجِ الخالقيّةِ
الموجودِ أصالةً في نفسِهِ،
بينّما شرُّهُ وفسادُهُ هوَ مِن فيروسِ المادّيّةِ.
أيَّةُ نظريّةٍ أو اكتشافٍ لهُ فائدةٌ
فيستحيلُ أنٍ يكونَ مبنيًّا على المادّيّةِ
بلْ ما كانَ له فائدةً فهو مبنيٌّ على
مخالفةِ المادّيّةِ بالتطبيقِ العمليِّ،
يعني على السّرقةِ من منهجِ الإقرارِ بالخالقيّةِ.
ليسَت طريقةً علميّةً أن تأتيَ لي بأسماءِ علماءَ
مادّيّينَ، فَأرُدَّ عليكَ بأسماءِ العلماءِ المسلمينَ
بلْ وغيرِ المسلمينَ مِمَّن آمنَ بالخالقيّةِ
مثل (بيكون) و(غاليليو)
و(كيبلر) و(نيوتن)
و(ماكسويل) و (ماكس بلانك).
بلِ البحثُ الصحيحُ هوَ أن نبحثَ
عن مُولِّداتِ العلمِ النّافعِ
سواءً في الشّخصِ المادّيِّ، أو المُقِرِّ بالخالقيّةِ.
هاتِ لي بحثًا واحدًا نافعًا انطلقَ مِن
القناعةِ بعشوائيّةِ الكونِ وعدمِ وجودِ سُننٍ فيهِ.
هاتِ ليَ اكتشافًا يعودُ الفضلُ فيه للتنَكُّرِ
للمبادئِ الفطريّةِ والبَدهيّاتِ العقليّةِ.
قدْ تقولُ: "نَعم! الغربيّونَ تقدَّموا لمَّا
تحرَّروا مِن الدِّينِ"، فأقولُ لكَ: أيُّ دِينٍ؟
هم تحرَّروا من غيبيّاتٍ باطلةٍ معارضةٍ للعقلِ
والفطرةِ، ومنقولةٍ بالخبرِ غيرِ الصّادقِ.
تحرّروا من الحَجْرِ على العقلِ بالباطلِ.
تحرّروا من طريقةِ إلَهِ الفجواتِ
التي كانَت تَستخدِمُها الكنيسةُ.
هذا التحرّرُ ساعدَهم بالفعلِ، لكنّهم انطلقوا
بعدَ تحرُّرِهم هذا مِن مُسَلَّماتٍ فطريّةٍ،
ومُقَدِّماتٍ عقليّةٍ هيَ مِن منهجِ
الخالقيّةِ، حتى لو تَنَكَّروا له بألسِنَتِهم،
وبنَوْا على إنجازاتِ مَنْ قبلَهُم مِن علماءِ
القرونِ الّذينَ سَلِموا مِن فيروسِ المادِّيِّة.
الأشخاصُ -يا إخواني- أوعيةٌ، تختلطُ
فيها مُدخلاتٌ كثيرةٌ ويَخرجُ مُنْتَجٌ،
وقدْ تتناقضُ هذهِ المُدْخَلاتُ فيما بينها.
قدْ تجدُ شخصًا يُعلنُ مادِّيّتَه، ومعَ ذلكَ
فكلُّ ممارساتِه في الاستكشافِ العلميِّ
معارضةٌ للمادّيّةِ ولِلوازمِ المادِّيّةِ
مِن إسقاطِ الفطرةِ والعقلِ.
قدْ يكونُ إنسانًا نشيطًا في الرّصدِ والتّجريبِ
فهلْ إذا كانَ المُخْرَجٌ النّهائيِّ
اكتشافًا أو إنجازًا،
يُعْزَى هذا الإنجازُ إلى المادِّيّةِ التي
يَدَّعِيها بلسانِه ويَتَنكَّرُ لها بسلوكِه العلميِّ؟
تصَّورْ لَو أنَّ باحثًا خرجَ علينا ببحثٍ يقولُ:
"بعدَ استقصاءٍ لأشْهَرِ علماءِ الأحياءِ،
وَجدْتُ أنَّ أكثرَهم يكذبونَ في حياتِهمُ اليوميّةِ،
وهذا يدلُّ على أنّ الكذبَ يؤدّي
إلى النّجاحِ والتمُّيزِ العلميِّ."
هل هذا مَنْطِقٌ علميٌّ؟ أمْ مَسْخرةٌ؟
فقطْ عندَ عرَّابي المادّيّةِ تصبحُ المسخرةُ علمًا
حيثُ استغفالُ النّاسِ واغتيالُ
إدراكِهم لِيُفَكِّروا بسطحيّةٍ ساذَجةٍ.
فنحنُ لا نقولُ أنّ العلمَ التّجريبيَّ
نَتاجُ علماءٍ مقرّينَ بالخالقيّةِ
ولا يَعنينا رصدُ نسبةِ المُقِرِّينَ مِن المُنكِرِين،
ولكنّنا نقولُ أنَّ العلمَ النّافعَ في أيّ عالِمٍ،
هو نَتاجُ التزامِه في بحثِه بمولِّداتِ
المعرفةِ في منهجِ الإقرارِ بالخالقيّةِ،
سواءً اعترفَ بهذا الالتزامِ أمْ
أنكرَهُ، لاحظَهُ أمْ لم يلاحِظه.
تصَّورْ لَو أنَّ السَّاذجَ الذي يقولُ:
"أكثرُ العلماءِ مادِّيِّونَ ممّا يدلُّ على أنَّ
المادّيّةَ هيَ سببُ التّقدّمِ في السَّيَنْسْ!"
تصَّورْ لَو أنَّه عاشَ في تلكَ القرونِ
حيثُ كانَ المسلمونَ قادةَ السَّيَنْسْ،
بينَما أوروبا تَغرقُ في الجهلِ والتّخلفِ.
ماذا كانَ صاحبُنا سيقولُ؟
ماذا كانَ سيقولُ لو أنّهُ قرأَ تفنيدَ
روبرت بريفولت "Robert Briffault"
في كتابِه "صناعةُ الإنسانيّةُ"، لإدِّعاءِ أنَّ
بيكون هوَ مَن وضعَ أُسُسَ العلمِ التجريبيِّ؟
يقولُ بريفولت: "إنَّ روجر بيكون درَسَ اللغةَ
العربيّةَ والعلمَ العربيَّ في مدرسةِ اوكسفورد"
"على يدِ خلفاءِ مُعَلِّمِي العربِ
المسلمينَ في إسبانيا"
"وليسَ لروجر بيكون، ولا لسمِيِّهِ الذي جاءَ
بعدَه، الحقَّ في أنْ يُنْسَبَ إليهِما الفضلُ"
"في ابتكارِ المنهجِ التّجريبيِّ."
"فلم يكُنْ روجر بيكون إلّا رسولًا
من رُسُل العلمِ التّجريبيِّ والمنهجيّةِ"
"لدى المسلمينَ إلى أوروبا المسيحيّةِ."
نحنُ في هذِه الحلقةِ لم يكُنْ عملُنا
نِسبةَ السَّيَنْسْ إلى الأشخاصِ،
بلْ إلى منهجِ الخالقيّةِ، الموجودِ
أصالةً في نفوسِ هؤلاءِ الأشخاصِ،
وإنْ أثَّر فيروسُ المادِّيّةِ عليهم
حتى أَنطقَهُم بالهذيانِ.
قدْ تقولُ لي:
"لماذا تجمعُ لي شواذَّ الأقوالِ مِن كلامِ
ليونتن ودوكينز وكراوس وأمثالِهم؟"
"أنتم، كمؤمنينَ، عندكُم أقوالٌ شاذَّةٌ
لشيوخِكُم، وبإمكاني أنْ أجمعَها لكُم!"
فأقولُ لكَ: هذهِ الأقوالُ التي نحشِدُها
للمادِّيِّينَ هي النَّتاجُ الطبيعيُّ لمادِّيّتهِم،
فهيَ ليسَت شذوذًا عَن مادِّيِّتهم بلْ تجسيدٌ لهُ.
بينما ما ستحشدُه لي مِن أقوالِ بعضِ المُنتَسِبينَ
للمنهجِ الإيمانيِّ، هو شذوذٌ عن هذا المنهجِ،
فيُمَثِّلُهم ولا يُمَثِّلُ المنهجَ.
كذلكَ إذا قالَ لنا أحدُ العلماءِ المادِّيِّينَ:
أنا لا أنكرُ البَدَهِّياتِ العقليّةِ
ولا أشكُّ في موثوقيَّةِ العقلِ
فإنَّا نقولُ له: جميلٌ، لكنِ اعترفْ
بأنَّ هذا تناقضٌ مع قواعدِكَ المادّيّةِ
التي تؤدّي حتمًا إلى إنكارِ هذا كلِّه.
عَرَفنا إذن كيفَ استطاعَ المُقنَّعُ أنْ يوهِمَ
النّاسَ بأنّ العلمَ التّجريبيَّ هو ولدُهُ،
تَقرصَنَ كالفيروسِ، وحتّى يزيدَ التّمويهَ،
لطَّخَ وجهَ الولدِ وسوَّدهُ بالشحبارِ
ليُخفِيَ معالِمَهُ وملامِحَهُ الحقيقيّةَ،
فيُصدِّقَ النّاسُ دعوى الأُبوَّةِ المُفتراةِ،
لذلكَ تَراهُم يُكثِرونَ مِنَ استخدامِ عِباراتٍ
تَخلطُ حقائقَ السَّيَنْسْ بتخريفاتٍ
مادِّيّةٍ، كأنّهما شيءٌ واحدٌ.
فتجدُ في هذه الورقةِ مثلًا، تَجِدهُم يَذكرونَ
ضمنَ افتراضاتِ العلمِ التجريبيِّ الغربيِّ
أنَّ الكونَ تَشكَّل بالصُّدفةِ
مِن أصغرِ إلى أكبرِ تركيبٍ فيهِ،
مِن خلالِ قوانينَ طبيعيّةٍ قابلةٍ للاكتشافِ.
جملةٌ يَنقضُ آخرُها أوَّلَها..
فالتَّشكّلُ بالصّدفةِ هو هذيانُ المادّيّةِ.
بينما القوانينَ القابلةِ للاكتشافِ هيَ مِن
العلمِ التَجريبيِّ وليدِ المنهجِ المُقِرِّ بالخالقيّةِ
الذي يؤمنُ بالسُّنَنِيَّةِ والثّباتِ.
لذلكَ كلِّه -إخواني-، فالمنهجُ
المادّيُّ ليسَ إلا كِذبةً كبرى.
وما كنتُ أقولُ عنه "منهج" حتّى الآن إلّا تنزُّلًا
وإلّا فهوَ ليسَ منهجًا ولا له كيانٌ مُستَقِلٌّ،
وإنّما الوصفُ الدّقيقُ لهُ هوَ "فيروسُ المادّيّةِ".
لم يُقدِّمْ فيروسُ المادّيّةِ للسَّيَنْسْ
إلّا كما ُتقدِّمُه الفيروساتُ الضّارَّةُ.
فهوَ قدْ أفسدَ أماناتِ كثيرٍ مِن الباحثينَ
المادِّيِّينَ حتّى خرجوا عَلينا بنتائجَ مُزَوَّرةً،
كَلَّفتْ البشريّةَ أرواحًا وأوقاتًا وجهودًا
وأفسدَ تفسيرَ نتائَج السَّيَنْسْ،
ليُسخِّرَها لخدمةِ هدفِهِ المحدَّدِ مُسبقًا
في إنكارِ الغيبيّاتِ الصّحيحةِ
وقدْ رأينا نماذجَ صارِخةً لذلك في حلقةِ
"تزويرُ العلمِ، الشّذوذُ الجنسيُّ مثالًا"
وفي نماذجِ العلمِ الزّائفِ
(بالانجليزيّة) العلمُ الزّائفُ،
التي استعرضناها حتّى الآنَ في السّلسلةِ،
ثم سخرَّ فيروسُ المادّيّةِ جانبًا
من السَّيَنْسْ للدّمارِ والعُدوانِ،
ولم يسلمْ مِن فيروسِ المادّيّةِ ولا حتّى الحِسَّ
إذْ لم يُحرِّمْ حرامًا ولم يُحِلَّ حلالًا،
فتَعاطى النّاسُ المُسكِراتِ والمُخدِّراتِ
والمُهَلْوِساتِ، فرَأَوْا وسَمعوا أوهامًا وخيالاتٍ،
فلا سلِمَ في ظلِّ المادّيّةِ دِينٌ، ولا فطرةٌ،
ولا عقلٌ، ولا خَبرٌ، ولا حِسٌّ، ولا تجريبٌ
ولا سلِم منهجٌ متناسقٌ يتعاملونَ به معَ
الوجودِ، وانفرطَ عليهِم عِقْدُ كلِّ شيءٍ.
عُدْ بعدَ ذلكَ كلِّه إلى الآيةِ العظيمةِ
ليتشرَّبَها قلبُكَ كلمةً كلمةً:
"وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا" [الكهف : 28]
إذَنْ، فكلُّ دعاوى صاحبِنا المُقنَّعِ كانت كذبًا.
فلا هو أنتَجَ السَّيَنْسْ، ولا
السَّيَنْسْ أنتَجَه ودلَّ عليهِ،
ولا هما شيءٌ واحد، ولا أصولهما مشتركة،
لا هوَ مِن السَّيَنْسْ في شيءٍ،
ولا السَّيَنْسْ منهُ في شيءٍ
ولا بإمكانِهِ أن يُفسِّرَ الكونَ والحياةَ
تفسيرًا مستقلًّا عَنْ أيِّ منهجٍ آخرٍ،
كما ادَّعى لنا في البدايةِ.
وبإمكانكَ -أخي- أن تقومَ بهذهِ التّجربةِ بنفسِك
إسألْ أيَّ "مادِّيٍّ" عَن طبيعةِ العلاقةِ
بينَ المادِّيّةِ والعلمِ التّجريبيِّ،
وانظُرِ الكذبَ أوِ التخبُّطَ وكيفَ أنّ هؤلاءِ يفشلونَ
في التفريقِ بينَ فيروسِ المادّيّةِ الذي أصابَهم
والمادّةِ الوراثيّةِ لمنهجِ الخالقيّةِ
المركوزةِ في نفوسِهِم.
بعدَ أن فَصَلْنا العلمَ التّجريبيَّ عنِ المادِّيّةِ،
بعدَ أنِ استردَدْنا الولدَ
الجميلَ مِن خاطِفِه المُقنَّعِ،
بقي علينا أنْ نُزيَح القناعَ عنِ المُقنَّعِ.
أنتَ أيّها المُقنَّعُ ادَّعيتَ أنَّكَ
انطلقْتَ من إنكارِ الغيبِ،
ما بالُنا نراكَ إذَن وصلْتَ إلى غيبيّاتٍ
مُفْتَرَضَةٍ غبيّةٍ تسدُّ بها فجوةَ الغيبِ الحقيقيِّ!
ما بالُنا نراكَ تحدّثُنا عَن كائناتٍ
فضائيّةٍ بذَرَتْ بذرةَ الحياةِ،
وعن وجودِ العقلِ والإرادةِ للميكروباتِ،
وعن أكوانٍ صُدَفيّةٍ لا حصرَ لها،
تفسِّرُ الضّبطَ الدّقيقَ لكونِنا،
وعن أنَّ الكونَ أوجدَ نفسَه بنفسِه
بلْ ونُكتةٌ أخرى:
[البدايةُ لا تدلُّ على وجودِ إلَهٍ]
[هيَ كذلكَ، إنْ كانتِ المقدّمةُ الأولى صحيحةً]
[ما لهُ وجودٌ فلا بدَّ من سببٍ لوجودِه]
[ولكن لا يجبُ أن يكونَ السّببُ هو الإلَه]
[تذكّر أنّي ذكرتُ حجَّة بأنَّ ذلكَ السّببَ غيرُ وقتيٍّ،
ولا مكانيٍّ وغيرُ مادِّيٍّ،
وذو قوّةٍ ضخمةٍ، وغيرُ شخصيٍّ]
[أعتقدُ أنّ السّببَ هو كمبيوتَر]
[حسناً، الكمبيوترات يصمِّمُها النّاسُ]
[كلّا،كلّا، هذا كمبيوتر ذاتيُّ التصميِم]
إذنْ، يقولُ لكَ هذا المادِّيّ أنَّ الذي
خلقَ الكونَ هوَ كومبيوتر ذاتيُّ التّصميمِ.
هذهِ كلُّها أمورٌ مُدَّعَاةٌ غيبيّةٌ لكنَّها غبيّةٌ.
لابدّ من الوصولَ إلى الغيبَ إذنْ
لأنَّ القصّةَ لا تكتملُ إلّا بالغيبِ،
والقولُ بأنَّ المادِّيّةِ لا تعترفُ
بالغيبيّاتِ قولٌ باطلٌ.
إذن فقدْ كذبْتَ علينا أيّها المُقنَّعُ حتّى في هذهِ،
وأنتَ في الحقيقةِ مستعِدٌّ للإيمانِ بالغيبِ،
فما رأيُكَ أنٍ تُسَلِّمَ بالغيبِ الذي
دلَّتْ عليهِ مُولِّداتُ المعرفةِ كلُّها؟
ما رأيُكَ أنٍ تُسَلِّمَ بالغيبِ الذي نتَوصَّلُ إليهِ
من خلالِ منهجٍ مُحكَمٍ مُنضَبطٍ
بدلًا من غيبيَّاتٍ غبيّةٍ متفلّتةٍ
لا ضابطَ لها ولا رابطَ؟
أنتَ ادَّعيتَ لنا في البدايةِ أنّكَ موضوعيٌّ
محايدٌ، ليسَت لديكَ مقرَّراتٌ مُسبقةٌ،
بلْ تدورُ معَ السَّيَنْسْ حيثُ دارَ،
ما رأيُكَ إذنْ أنْ تُسَلِّمَ بوجودِ الخالقِ
الّذي دلَّ عليه السَّيَنْسْ ومُولِّداتُ السَّيَنْسْ؟
هنا، إرتعدَ المُقنَّعُ واهتزَّ هزَّةً أسقطَتِ
القناعَ، وكشفَتِ الوجهَ الحقيقيَّ،
وقالَ على لسانِ ليونتن: "علينا ألّا نسمحَ
لأيّ قَدمٍ إلهيّةٍ بالولوجِ منَ البابِ"
وقالَ على لسانِ هارولد: "يجبُ علينا
أنْ نرفضَ كمسألةِ مبدأ
خيارَ التصميمِ الذّكيِّ كبديلٍ عن الصُّدفةِ".
وقالَ على لسانِ تود: "حتى لو دلَّتْ كلُّ الأدلّةِ
على وجودِ مُصَمِّمٍ ذكيٍّ، فإنَّ هذهِ الفرضيّةَ
تُستَبْعَدُ من السَّيَنْسْ لأنّها ليست ضمن الطّبيعةِ".
وقالَ على لسانِ دانيال دِنيت "Daniel Dennett"
"إنّي أتبنَّى ما يظهرُ كموقفٍ عَقَديٍّ أنَّ علينا
تجنُّبَ الاعترافِ (بالانجليزية) بالثُّنائيّةِ
يعني وجودَ حقائقَ غيرِ المادّةِ بأيِّ ثَمَنٍ كان!"
بالحرفِ، بأيِّ ثَمَنٍ كان! آها!
ظهرَ الوجهُ الحقيقيُّ أخيرًا..
إذنْ أنتَ أيّها المُقنَّعُ ما أنتَ إلّا الإلحادُ
طرَدناكَ منَ البابِ فعُدتَ إلينا منَ الشبّاكِ مُقنَّعًا
وواضعًا الولدَ المُختَطفَ في واجِهَتِكَ،
لتُجَمِّلَ بهِ قُبحَكَ.
وعودُ الحياديّةِ وعدمُ الدّخولِ في صراعِ
الدِّينِ والإلحادِ، هذهِ كلُّها كانت كذبًا
تغطِّي بهِ حقيقتَك.
آمنْتَ أيُّها المُقنَّعُ بالغيبِ الباطلِ، وكفرْتَ
بالغيبِ الحقِّ، فكنتَ ممّن قالَ اللهُ فيهِم:
"وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا
بِاللَّهِ أُولَئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ" [العنكبوت:52]
تَنكَّرْتَ أيها المُقنَّعُ للفطرةِ، طعنْتَ في العقلِ،
أنكرْتَ البَدَهيِّاتِ، كذَّبْتَ بالسُّنَنِ،
عطَّلتَ دلالةَ الأثرِ المحسوسِ،
كلّ هذا، في سبيلِ أنْ تُنكرَ الخالقَ.
عرَفناكَ منَ البدايةِ مِن صوتِك،
لكنْ أمهلْناكَ واستدرجْناكَ، حتى شهِدتَ على نفسِك
{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْل} [محمد:30]
نَعم، المادّيّةُ ما هيَ إلّا إعادةُ تدويرٍ للإلحادِ
إذن في هذه الحلقةِ -إخواني-
بيَّنَّا حقائقَ في غايةِ الأهميّةِ:
صحَّحْنا نَسَبَ السَّيَنْسْ وحكَمنا بهِ لوالدهِ
الحقيقيِّ، لمنهجِ الإقرارِ بالخالقيّةِ
الذي يعتمدُ في بناءِ المعرفةِ على كُلٍّ
من الفطرةِ والعقلِ والخبرِ والحِسِّ.
واكتشفنا أنّ نسبةَ العلمِ التّجريبيِّ
إلى المنهجِ المادّيِّ أُكذوبةٌ كبرى.
بل، والمنهجُ المادّيُّ نفسُه أُكذوبةٌ كبرى.
إلحادٌ مُقنَّعٌ لايقومُ بذاتِه ولا يُقدِّمُ أيّةَ منفعةً
بل هو فيروسٌ تقرصنَ على منهجِ الخالقيّةِ.
أما وقد اكتشفنا هذا كلّهُ،
فإن هناكَ إجراءاتٍ كثيرةٍ،
ينبغي اتخاذُها تصويبًا للأوضاعِ.
إجراءاتُ تصويبِ الأوضاعِ هذهِ
سنتركُها للحلقةِ القادمةِ والمُهِمّةِ أيضًا.
فتابِعوا معنا، والسّلامُ عليكُم.