فك تثبيت
→ جميع الحلقات حلقة 45 من 69

رحلة اليقين ٤١: إزالة الشحبار! - د. إياد قنيبي

السَّلام عليكم٠ أيها الكرام، في الحلقة الماضية صحَّحنا نَسَب العلم التجريبي السَّينس"science"، و بيَّنَّا أنّه ثمرةٌ لِمَنهج الإقرار بالخالقية الذي يعتمد في بناء المعرفة على كُلٍّ مِنَ: الفطرة والعقل والحِسّ والخبر. وبيَّنَّا أنّ السَّينس بريءٌ من المادية وأن المادية ما هي إلا إلحادٌ مُقَنَّع لا يقوم بذاته ولا يُقدِّمُ أيّةَ منفعة، بل ما هو إلا فَيروس تَقَرصَنَ على منهج الخالقية. هذا كُلُّهُ يتطلَّب مِنَّا إجراءاتٍ كثيرة لتصويب الأوضاع. الأوضاع التي بُنيَتْ على أكذوبةِ نِسبَة السَّينس إلى المادِّية، وهي الأكذوبة التي تشرَّبَتْها عقول كثيرٍ من الناس وخُدِعوا بها طويلاً . إجراءات تصويب الأوضاع هذه نُورِدُها اليومَ في نقاطٍ مختصرة، يحتاج كُلٌّ منها تفصيلاً كثيراً لا يتَّسِعُ المقامُ له لكن أترُكُها لِتَأمُّلِكم مرَّةً بعد مرة. الإجراء الأول: علينا أن نكُفَّ عن التقليل من شأن السَّينس والحديث عن أمثلة تزويره وكأنَّها جزءٌ أصيلٌ فيه. وكأنَّ السَّينس وليدُ أعدائنا وبضاعة خصمنا، التي تقف في مقابل إيماننا. بل السَّينس هو ابن منهجنا الفِطْريّ المُقِرِّ بالخالقية. الابن المُختَطَف، ما عليه من تزوير وكذب في التفسير. هو الشُّحبار والروائح الكريهة التي وضعها المُختَطِفُ على السَّينس، ليَنسِبَهُ إليه وكذلك تأليه السَّينس، شحبار لا ذَنْبَ للولد فيه وكأنني بالسَّينس يصرخ ويقول:"لماذا تَسُبُّونَني مع المُقَنَّع الذي اختطفني؟" "أما يكفي تقصيركم في حقي؟ وتركي لهذا المُختَطِف؟" "ثم أنتم تنتقصون منِّي معه وكأنَّنا شيءٌ واحد؟" مَهمّتنا هي غسل الشحبار والروائح الكريهة، وأن نعيد للعلم التجريبي نصاعته وأن نسعى أن نكون روَّادَه. هذا كُلُه ُيشْعِرُكَ بأصالتك وأصالة الإيمان الذي تحمله في هذا الكون. الإجراء الثاني: هو أن نَكُفَّ عن استخدام عباراتٍ مثل: "هذه الظاهرة ليس لها تفسير ٌعلمي كدليلٍ على وجود الخالق" فنحن بهذا كأننا نُسَلِّم بأن العلم التجريبي هو وليد المقنع فنريد أن نثبت عجزه ونتطلَّبَ دليلاً من خارجه على وجود الخالق. ماذا تريد أكثر من السَّينس دليلاً على الخالق؟ ماذا تريد أكثر من انتظام الظواهر وإحكامها؟ بل ووجودها أساساً؟ وافتقار ذلك كُلِّهِ إلى خالقٍ حكيمٍ عليمٍ قدير إليه المنتهى، ولا يحتاج إلى غيره في وجوده. هذا كُلُّه خير دليل لِمَنْ سلِمَتْ عقولهم وقلوبهم ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: 101] خوارق العادات والتي ليس لها تفسير علمي، أيَّدَ الخالقُ بها الرُّسل لإثبات أمر ٍزائدٍ على وجود الخالق ألا وهو: أنَّهم بحقٍّ، رُسُلُ هذا الخالق أمَّا وجودُه سبحانه فانتظام الكون، وما يصفه السَّينس من ذلك دليلٌ كافٍ على الخالق لقومٍ يعقلون. الإجراء الثالث: هو أن نبوِّئَ العلم التجريبي السَّينس، مكانه المناسب بين إخوانه بعد ما استرددناه إلى بيتنا الإيماني. الأب في هذا البيت، هو منهج الإقرار بالخالقية ومولِّدات المعرفة فيه. إخوان السَّينس، هم باقي العلوم والمعارف الصحيحة مما لا يحتاج في إثباته إلى دخول المختبر واستخراج الأنابيب وإجراء التفاعلات. فما صحَّ عن الله ورسوله من أخبارٍ غيبية، علم. فمولِّدات المعرفة في منهج الإقرار بالخالقية، دلّتنا على صدق النبي صلى الله عليه وسلم والذي أخبرنا بكثير من الغيبيات فالسَّينس والغيبيات فرعان لأصلٍ واحد وليس شرطاً أن يَدُلَّ أحدُهما على صِحَّة الآخر حتى نُصدِّقَ به، بل يكفي أن يدلّ على صِحَّتهما أصلُهما المشترك. إذا فهِمْتَ هذا، علِمْتَ أنه لا معنى لمعارضة الغيبيات بالعلم التجريبي. علِمْتَ مثلاً لماذا نؤمن بالحديث الصحيح الذي فيه أنَّ لجبريل عليه السلام ستمائة جناح دون أن يكون على ذلك دليلٌ من العلم التجريبي. وعلِمْتَ في الوقت ذاته مدى الجهل في نشر مقالٍ بعنوان: "أول دليل علمي (يقصدون من السَّينس) يثبت وجود حياة أخرى بعد الموت." الإجراء الرابع: هو أن نُلغيَ من قاموسنا قسمة العلم والإيمان، المبنية على وهم إمكان الفصل بينهما. هذه القسمة إخواني تحمل في ثناياها ثلاثَ مشاكل... أولاً: توهُّمُ أن العلم محصورٌ بالعلم التجريبي مع إهمال ما يَثبُتُ بالعقل أو النقل الصحيح يعني الدليل الخبري مع أنَّ هذه أيضاً علوم. ثانياً: توهُّمُ أنَّ العلم التجريبي يقوم مستقلاً عن مولِّدات المعرفة في منهج الإقرار بالخالقية. ثالثاً: توهُّمُ الإيمان وكأنَّه خَيارٌ عاطفي اعتباطِيّ بلا حجة ولا برهان. هذه الأوهام هي التي تُنتِج لنا أقوالاً مثل: "بإمكانك أن تؤمِنَ إيماناً دينياً بما تشاء لكن لا تخلط ذلك بالعلم فالإيمان له منطقته التي يعمل فيها والعلم له منطقته." طبعاً عبارة مليئة بالمغالطات. وكذلك قولهم: "السَّينس لا يتعارض مع الإيمان" فمع أننا نقول هذه العبارة دفاعاً عن إيماننا إلا أنها عبارة تُهَزِّل بِشِدَّة طبيعة العلاقة فكأنك تقول: "فروع الشجرة لا تتعارض مع جذورها" بل ولا يكفي في بيان العلاقة أن تقول: "أن الإيمان يشجع على العلم التجريبي" فالمسألة أعمق من ذلك بكثير. فمنطلقات السَّينس (يعني العلم التجريبي) كلها من منهج الخالقية، والذي هو في أنقى صوره في منظومتنا الإيمانية الإسلامية خالية من تحريف. وكملاحظةٍ مهمّةٍ إخواني... نذكرها سريعا: نحن نستخدم مصطلح منهج الإقرار بالخالقية لأن هناك قدرا مشتركا بيننا وبين أهل الأديان ممن يقرون بالخالقية يفرقنا جميعا عن المنكرين لكن هذا لا يعني أننا وأهل الأديان الأخرى سواءٌ في نصاعة المنهج وسلامته من التحريف بل قد تميَّزنا عنهم بسلامة الأخبار وصدقها بما حفِظَ الله من كتابه وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم كما سنبيّنَ في السلسلة بإذن الله. الإجراء الخامس: هو إعادة تعريف العالِم نحن نقول عن باحِثِي الغرب الملحدين علماء اختصارا وتنزلا وإلا فهم كلما نطقوا بهذيان حُمَّى المادية فإنهم يكونون من أجهل الخلق مهما حملوا من شهاداتٍ ومهما كانت علاماتهم في الآي كيو تيست "IQ-Test" فعندهم جهل جوهري حرمهم من نفع معرفتهم ولو كانوا علماء حقاً فإنما ﴿يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:28] في الحديث الذي حسَّنه الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما تستقِلُّ الشمسُ فيبْقَى شيءٌ مِنَ خلْقِ اللهِ إلَّا سبَّحَ اللهَ بحمدِهِ إلَّا ما كانَ مِنَ الشياطينِ ، وأغبياءِ بني آدَمَ" (أخرجه الطبراني) أقوال هؤلاء العلماء التي نسخر منها غباء. القول بنشوء الكون ذاتياً بلا خالق، بل بمجموعة صدف غباء . القول بالتطور الصُدَفِي غباء . القول بأكوان لا حصر لها كتفسير للضبط الدقيق غباء. كل هذا وغيره غباوات يترفَّع عنها من سلِمَتْ له مصادر المعرفة وإن كانت علامته متدنّية في الآي كيو تيست وعلماء الغرب هؤلاء ما أنتجوا شيئاً نافعاً إلَّا بمقدار ما أخذوا من مولدات المعرفة في منهج الخالقية، وتنكروا لغبائهم المادِّي. في المقابل، العالِم هو صاحب النظرة السوية لمصادر المعرفة، سليم الفطرة، سليم العقل المتَفكِّر في الكون بحسِّه. العالِم بأمارات الخبر الصحيح، المتلقي له بالقَبول...هذا عالِم ولا ينبغي أن نفسِّر مِثلَ قول الله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28] بأنهم العلماء بأسباب نزول الآيات ومعانيها وأسانيد الحديث وأحكامها فقط، بل العالِم هو من سلِمَتْ له مُولِّداتُ المعرفة فهذا ينفعه العلم الخَبَري عن الله ورسوله والعلمُ التجريبي. التأمّلُي بالنظر في الكون ويزيده هدىً إذ مِشكاتُه يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار وعلمه بآيات الله المسطورة يدعو إلى العلم بآيات الله المنظورة. ﴿قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس: 101] وعلمه بآيات الله المنظورة يزيد الإيمان والفهم لآياته المسطورة ويشهد لهذا سياق الآية: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر: 27 - 28] فالحديث في الآيات عن مشاهدات كونية عن سينس نافع فلا ينبغي الفصل بين علماء الشريعة وعلماء الطبيعة إذ أن الاستقلال بأحدهما لا يسمى علما بهذا نكون إخواني قد أتينا على ختام هذه الحلقة التي أسأل الله تعالى، أن تكون مع الحلقة السابقة، علامة منهجية فارقة رتبت الأفكار لدينا، استطردنا فيها عن موضوع أساليب التضليل في خرافة التطور. في الحلقة القادمة... نعود لموضوع خرافة التطور، لَنُطَبِّق عليها ما تعلمناه من فكِّ الارتباط بين تخريفات الإلحاد المُقَنَّع, والانجازات العلمية النافعة. فتابعوا معنا. والسَّلام عليكم ورحمة الله.
التالي ←
رحلة اليقين ٤٢: هل بالفعل "نظرية التطور" مفيدة للبشر؟
حلقة #46 · 30 دفيفة