قد نختلف أو نتفق مع نموذج هنا أو هناك يقول أنه "يطبق" الشريعة. وليس هدفنا هنا تأييد أي من النماذج البشرية أو التبرؤ منها، إنما أن نبقى محبين لشريعة الله ولا نتصور للحظة أنها لم تعد صالحة لزماننا أو نشك في عدلها ورحمتها. ومن أساء "تطبيقها" فإثمه على نفسه ولا يُحسب على شريعة الله. هدفنا هنا أن نبقى محبين للشريعة، تواقين للتمكين لها، ساعين لذلك، معتزين بها، وأن نلقى الله بقلب سليم للشريعة التي ارتضاها لنا. الشريعة التي نتكلم عنها هي شريعة الرحمن الرحيم الرؤوف الحليم القائل: ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)). هي التي يأمر منزلها سبحانه ((بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي)). هي التي أنزلها الله تعالى تخفيفا على عباده لعلمه بضعفهم فقال: ((يريد الله أن يخفف عنكم وخُلق الإنسان ضعيفا)). الشريعة التي نتكلم عنها ليست شيئا "يطبقه" الحكام على المحكومين، وكأننا غير مخاطبين بها، وكأنها تُلقى علينا من فوق رؤوسنا! بل "يقِيمها" المسلمون في حياتهم، كل بما يستطيع، فهي قضيتهم وروحهم وما يتقربون إلى الله به، ويسعون إلى أن تقام على مستوى الحكم وتكون لها دولة. الشريعة هي التي تأمر الأب برحمة أولاده والأولاد ببر والديهم ولزوم أقدام أمهاتهم، والحاكم بالرفق برعيته وإقامة العدل على نفسه قبل إقامته عليهم. هي التي تصبح فيها الأمة جسداً واحداً وتتحرر من سلاسل النظام العالمي الذي يستعبدها ويذلها وينهب خيراتها... هي التي يعز في دولتها شأن الفرد المسلم كما لا يعز شأن أي فرد في أية دولة أخرى، فتنتصر الدولة الإسلامية للفرد وتحرك الجيوش لأخذ حقه وتحريره من أسره والاقتصاص لدمه كما حرك رسول الله جيش مؤتة وأجلى بني قينقاع وبايع صحابته على الموت في بيعة الرضوان وجهز بعث أسامة...كل ذلك لأجل أفراد. الشريعة التي نتكلم عنها هي التي تمنع المفسدين من نهب أموال المسلمين وتخزينها في سويسرا بينما جيرانهم يأكلون من المزابل! هي التي تسعى لكفاية المرأة والرجل والصغير والكبير والمسلم والنصراني من الطعام والشراب والعلاج والأمان والكرامة والتعليم... هي التي تكرم المرأة وتصونها أن يتخذ جسدها سلعة رخيصة، هي التي تشيع بين الذكور والإناث في المجتمع علاقة الأخوة الإيمانية والتعاون على البر والتقوى وبناء مجد الأمة، لا السعار المنفلت من كل الضوابط... هي التي تُصان فيها العقول وتُشجع فيها المواهب لتنطلق لعمارة الأرض والتميز في مجالات العلوم ونفع البشرية. هي التي يختار فيها المسلمون من يحكمهم بشرع الله، فيرحمهم ويجعل شدته على الكفار المحاربين. هي التي يشيع فيها حسن الظن، ولا يطلق فيها أوصاف الخيانة أو الكفر على أحد دون بينة شرعية معتبرة، ويحاكم فيها المتهم محاكمة عادلة يعطى فيها فرصته للدفاع عن نفسه. هي التي يوفر فيها للناس ما يحتاجون لإشباع غرائزهم بالحلال، فلا يقام فيها حد إلا نادرا، على من كُفُوا بالحلال فأَبَوا إلا أن يفسدوا ويقتحموا أبواب الحرام. هذه هي الشريعة يا سادة! أجواء نظيفة يعيشها الناس وينشأ عليها الأطفال ويساهم الجميع في حمايتها. هذه هي الشريعة...طهر وعفاف وعزة وبر وحلم ورفق وبركة. إن كان المجتمع النبوي الذي بلغ الذروة في إقامة الشريعة قد اتسع لأمثال عبد الله بن أبي ابن سلول رأس النفاق مع أنه آذى النبي وكاد للمسلمين...اتسع له لأنه لم يعلن كفره صراحة بل التزم ظاهراً بحكم الشريعة...ألن تتسع مجتمعاتنا عند إقامة الشريعة للمذنبين من المسلمين الذين مهما أخطأوا فغبار أنوفهم خير من ابن سلول؟! كان السفهاء يقولون لنبينا صلى الله عليه وسلم طمعاً في أكثر من حصتهم: ((اعدل يا محمد فإنك لم تعدل)) ومع ذلك يصبر ويقول: ((ويلك، ومن يعدل بعدي إذا لم أعدل؟!))...في الشريعة التي نتكلم عنها قد يسب السفهاء الحاكم المسلم علانية فيسامحهم ويصبر عليهم لأنه لا ينتقم لنفسه، إنما يغضب إذا انتهكت محارم الله. هذه هي الشريعة التي نتكلم عنها...فإن كان هناك بعد ذلك من يختنق بهذه الأجواء النقية ويزكم أنفه وتحترق عيناه من نور الشريعة ويغيظه التطهر كما أغاظ قوم لوط لأنه لا يستطيع أن يعيش إلا بزنىً علني يسهل أن يؤتى عليه بأربعة شهود، وإلا بشرب الخمر الذي يظهر للمجتمع من رائحة فمه ورعونة تصرفاته والنجاسة على سرواله! وإلا بالسرقة من أرزاق الآخرين مع أن الشريعة سدت رمقه...فهذا حُق له أن يخاف من الشريعة!...لكن ليرحنا من عويله وصراخه وتخويفه من الشريعة، لأنه لا يمثل ولا حتى عصاة المسلمين الذين قد تدمع أعينهم لذكر الله أو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحبون الشريعة التي نتكلم عنها في قرارة أنفسهم بل وسيسهمون في إقامتها.