→ جميع المقالات
حسن الظن بالله - الحلقة 13 - لن ينبع الصبر من حنايا نفسك
١٤‏/٧‏/٢٠١٤

لا زلنا نبني حبنا لله على أسس سليمة، أولها تأمُّل أسماء الله وصفاته. قلنا أنك إن أتقنت التعامل مع البلاء فإنك ستفهم أسماء الله تعالى وصفاته أكثر وأكثر من خلال البلاء، وهذا سيفضي في المحصلة إلى تحويل البلاء إلى سبب لزيادة محبة الله تعالى. في المحطات الماضية تأملنا حكمة الله في البلاء ثم تودده لعباده بالبلاء. اليوم نتأمل صفة أخرى من صفات الله تعالى.. ما هي هذه الصفة؟ أحيانًا نعاني من مشكلة، لا نعلم كم تستمر وإلى أي مدىً ستتفاقم.. يشرق في نفوسنا الأمل بزوالها.. تلهج ألسنتنا بالدعاء.. لكن ما نلبث أن يعتريَنا الخوف ويتراءى لنا شبح اليأس عندما نفكر في أن بلاءنا سيطول ويشتد..

نخاف حينئـذٍ، لأننا ننظر في جوانب أنفسنا وحناياها فلا نجد فيها ما يُعَوَّل عليه أن يصبرنا إذا وصل البلاء إلى الدرجة المخوفة. نتعامل مع المسألة بطريقة رياضية: فإن كانت المصيبة مرضًا يُخشى أن يؤدي إلى العمى مثلًا، فإنا نعقد المعادلة التالية لتخيل المستقبل : أنا- بصر= إنسان تعيس. وإن كان ابنك في غرفة العناية المركزة بين الحياة والموت فالمعادلة: الحياة - ابني = حزن مستمر .. وهكذا

إننا ننسى في معادلتنا هذه عنصرًا مهمًا جدًّا وهو أن الصبر لن يــنــبــع مـــن جــوانـب نــفــســك الـضـعــيــفــة عند حلول المصيبة أو اشتدادها.. إنما هو ينزل من عند الله تعالى! المعين لمن استعان به. اختلف العلماء في اعتبار المعين من أسماء الله، لكنه بلا شك من صفاته تعالى.

إذن فالصبر ينزل من عند ربنا المعين تمامًا كما ينزل النصر.. ينزل الصبر من عند الله لينصرك في معركتك ضد اليأس والحزن.. و{إِن يَنصُرۡكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۡۖ} [آل عمران: 160].. لاحــــظ: كــما أن الله تعالى قال: {وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ} [آل عمران: 126]..فقد قال: {وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ} [النحل: 127].. فتركيب الآيتين متشابه. إنها حقيقة مهمة جدًّا! الصبر ينزل من عند الله وكذلك الأمان و السكينة.. والشواهد لذلك كثيرة كقوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ} [آل عمران: 154] ، وقوله تعالى: {فَأَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيۡهِمۡ} [الفتح: 18] ، وقوله تعالى حكاية عن السحرة الذين آمنوا بموسى عليه السلام وهم على وشك أن تقطع أيديهم وأرجــلــهم من خلاف ويُصَلَّبوا: {رَبَّنَآ أَفۡرِغۡ عَلَيۡنَا صَبۡرٗا وَتَوَفَّنَا مُسۡلِمِينَ ١٢٦} [الأعراف: 126].. تصوَّر دلوًا يفرَغ بصبِّ ما فيه.. هم يطلبون من ربهم أن يصب عليهم الصبر صبًّا.. ينزل الصبر كالمطر على القلوب المرتجفة الحرَّى فيسكنها ويبردها.. إنها ليست نفسك البشرية الضعيفة التي يعول عليها أن تختلق الصبر وتخوض المعركة!.. إنه الله الـمُعين الذي يثبت: {يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ} [إبراهيم: 27].. وبــمــا أنــه الله الــذي يـثـبـت فليس هناك بلاء أكبر من تثبيت الله الـمُعين.. إنه الله تعالى الذي يربط على القلوب المرتجفة التي كادت تنخلع من الصدر حزنًا أو خوفًا من المجهول.. {وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ} [الكهف: 14].. وحينئـذٍ فلا شيء يخيف إن كان الله هو المعين.

أم موسى عليه السلام.. ألقت ابنها في اليم، فترك وراءه قلبًا فارغًا؛ قلبَ أُمٍّ فقدت فلذة كبدها.. فنزل التثبيت من الله: {وَأَصۡبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَٰرِغًاۖ إِن كَادَتۡ لَتُبۡدِي بِهِۦ لَوۡلَآ أَن رَّبَطۡنَا عَلَىٰ قَلۡبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ١٠} [القصص: 10].. إذن فالصبر ينزل نزولًا من عند الله الـمُعين. وبالتالي، فالمعادلة لم تعد بالجمود الذي كنا نظنه، بل أصبحت: أنا – بصر+ صبر من الله = إنسان راضٍ. الحياة- ابني+ سكينة من الله = رضا واحتساب وانطلاقة جديدة.

  • أخي! لسنا من الملاحدة الذين لا يؤمنون إلا بالظواهر المادية، بل نحن نؤمن أن الله معنا. ألسنا نقرأ في صلاتنا يوميا 17 مرة على الأقل: {إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ ٥} [الفاتحة: 5]..؟ هل خطر ببالك وأنت مبتلى أن تتأمل هذه الآية عند قراءتها وتتصور قُوَّتَك وأنت تستمد العون من الله تعالى أمام البلاء؟

  • لا تــقــل (لــن أصــبر)! بل إن استعنت بالله أعانك. انظر إلى قوله تــعــالى: {قَٰلَ رَبِّ ٱحۡكُم بِٱلۡحَقِّۗ وَرَبُّنَا ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ١١٢} [الأنبياء: 122] ، وإلى ما حكاه عن يعقوب عليه السلام أنه قال: {وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ١٨} [يوسف: 18].. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإذا استعنت فاستعن بالله)).

  • لا تقل (لن أصبر)! لا بلاء أكبر من إعانة الـمُعين إن استعنت به بصدق. تذكر أهل الأخدود وسحرة فرعون وماشطة ابنته.. كيف نزل عليهم صبر عظيم مقابل بلائهم الشديد بمجرد أن خالط الإيمان قلوبهم فطابت نفوسهم بالتضحية في سبيل الله مع أنهم عاشوا حياتهم قبل ذلك مشركين. فالذي صبَّرهم قادر على أن يصبرك إذا لجأت إليه..

  • لا تقل (لن أصبر)! فكل ما عليك فعله هو أن تستعين بربك الرحمن المستعان.. قال نبينا عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم: ((ومن يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ الله)).

  • لا تقل (لن أصبر)! بل إن استعنت بالله فسينزل عليك الصبر بالمقدار المناسب ليُطَمْئِن قلبك، مهما كان حجم البلاء، قال الله تعالى: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ يَهۡدِ قَلۡبَهُۥۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ ١١} [التغابن: 11].. أي: يهد قلبه للخير والصبر والرضا عند المصيبة.

  • لا تقل (لن أصبر)! بل انظر إلى هذا الحديث العظيم الذي يلخص محطتنا هذه:

قال رسول الله عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي صححه الألباني: ((إن المعونة تأتي من الله على قدر المؤونة، وإن الصبر يأتي من الله على قدر المصيبة)). لاحظ ألفاظ الحديث: ((إن المعونة تأتي من الله على قدر المؤونة)).. على قدر التكليف، ((وإن الصبر يأتي من الله على قدر المصيبة)).. الصبر يأتي من الله تعالى المعين، ليس من جوانب نفسك الضعيفة. بل من الله، وبأي مقدار؟ ((على قدر المصيبة)).. بالمقدار المناسب.

خلاصة هذه المحطة:

كل ما عليك فعله هو أن تتبرأ من حولك وقوتك، وتوقن أنه ما لك إلا الله، فتستعين بالمعين، وتصلح علاقتك به تعالى لتكسب معيته، وحينئذ فلا بلاء أكبر من إعانة الله المعين.