في المحطة السابقة تأملنا حكمة الله وتودده لعباده وإعانته لمن استعان به في البلاء. وفي هذه المحطة سنتأمل صفة جديدة من صفات ربنا الحبيب، عندما تتأملها وأنت في رحم المعاناة يزداد حبك لخالقك ومولاك. إنها: رحمة الله. تعالوا نتأمل جمال هذه الرحمة حتى نطمع فيها، ثم نعرف كيف نحصلها.
رحمة الله.. مصدر الفرح الأعــظم!.. أمـــرنا الله أن نــفــرح بها فقال: {قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ ٥٨} [يونس: 58].. {فَبِذَٰلِكَ}: أسلوب حصر لأنه أَولى ما يُفرح به.. لأن هذه الرحمة هي مصدر الفرح الحقيقي الذي لا يَنْضَبُ ولا يتأثر بالظروف، أولى من متاع الدنيا الفاني.
عرَّف المفسرون هذا الفضل والرحمة بأنهما الإيمان والقرآن. هذان مصدر فرح تحمله في صدرك في السراء والضراء والشدة والرخاء. إيمانك بالله وتأملك لأسمائه وصفاته وشوقك إلى لقائه واطمئنانك إلى معيته وانتظار كرامته.. {فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} [يونس: 58]..
هل يملك أحد أن يمسك هذه الرحمة أو يمنعها من الوصول إلى عبد من عباد الله؟ لا والله. قال الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى: {مَّا يَفۡتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحۡمَةٖ فَلَا مُمۡسِكَ لَهَاۖ} [فاطر: 2]..
سيد قطب رحمه الله.. له تأملات جميلة جدًّا في هذه الآية {مَّا يَفۡتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحۡمَةٖ فَلَا مُمۡسِكَ لَهَاۖ} [فاطر: 2].. الجميل أنه كتبها وهو يعاني من المرض والسجن الطويل في ظروف صعبة قبل أن يُعدم.. أنصحكم إخواني بقراءتها وتأملها مرارًا.. اكتب الآية في محرك البحث ثم (في ظلال القرآن).. واقرأ وتدبر. مما جاء في كلماته -بالمعنى-: أن هذه الآية حين تستقر في القلب تُحْدِث تحولًا جذريًّا في مشاعر الإنسان وموازينه، فَتُيَئِّسُه من كل رحمة في الأرض وتعلقه برحمة الله، تلك الرحمة التي يستشعرها قلب المؤمن في كل وضع ولو فقد كل شيء.. فمن أنعم الله عليه بهذه الرحمة ينام على الشوك، فإذا هو مهاد لين، بينما إذا فقد رحمة الله ينام على الحرير فيجده شوكًا، لأنه تعالى قال في الآية نفسها: {وَمَا يُمۡسِكۡ} -يعني من الرحمة- {فَلَا مُرۡسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦۚ}.. فإن أمسك الله رحمته عن عبد فقُوى الأرض كلها لا تعارض مشيئة الله ولا تنزل رحمته بهذا العبد. فمن أنعم الله عليه بالرحمة فإن ينابيع السعادة والطمأنينة تنبع في نفسه وإن كان في غياهب السجن ورحم المعاناة. ثم قال: (ومن رحمة الله أن تحس برحمة الله! فرحمة الله تضمك وتغمرك وتُفيض عليك، ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة، ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة، وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة. والـعــذاب هــو الـعــذاب في احتجابك عنها أو يأسك منها أو شكِّكَ فيها، وهــو عــذاب لا يــصــبّــه الله عــلــى مـــؤمن أبدًا: {إِنَّهُۥ لَا يَاْيۡـَٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٧} [يوسف: 87].. ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال. وجدها إبراهيم عليه السلام في النار، ووجدها يوسف عليه السلام في الـجُبِّ كما وجدها في السجن، ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث. ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة ومن كل حراسة، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له متربص به ويبحث عنه. ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور، فقال بعضهم لبعض: {فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ } [الكهف: 16]، ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار.. ووجدها كل من آوى إليها يأسًا من كل ما سواها. أية طمأنينة؟ وأي قرار؟ وأي وضوح في التصورات والمشاعر والقيم والموازين تقره هذه الآية في الضمير؟! آية واحدة ترسم للحياة صورة جديدة؛ وتنشئ في الشعور قيمًا لهذه الحياة ثابتـةً؛ وموازين لا تهتز ولا تتأرجح ولا تتأثر بالمؤثرات كلها). إذن أخي أيًّا كان بلاؤك، ومهما كانت شدته.. اطلب رحمة الله.. وستجدها.
ثم قال سيد رحمه الله- وهنا أنقل قوله باختصار-: (ويبقى أن أتوجه أنا بالحمد لله على رحمة منه خاصة عرفتها منه في هذه الآية. لقد واجهتني هذه الآية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة. واجهتني في لحظة جفاف روحي، وشقاء نفسي، وضيق بضائقة، وعسر من مشقة.. ويسر الله لي أن أطلع منها على حقيقتها، وأن تسكب حقيقتها في روحي؛ كأنما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني. حقيقة أذوقها لا معنى أدركه، فكانت رحمة بذاتها -أي هذه الآية بحد ذاتها أحسَّها رحمة خاصة له من الله في لحظة عسره تلك- وقد قرأتها من قبلُ كثيرًا، ومررت بها من قبلُ كثيرًا، ولكنها اللحظة تسكب رحيقها وتحقق معناها، وتنزل بحقيقتها المجردة، وتقول: هأنذا.. نموذجًا من رحمة الله حين يفتحها. فانظر كيف تكون! إنه لم يتغير شيء مما حولي. ولكن لقد تغير كل شيء في حسي! إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود، كالحقيقة الكبرى التي تتضمنها هذه الآية. نعمة يتذوقها الإنسان ويعيشها؛ ولكنه قلما يقدر على تصويرها، أو نقلها للآخرين عن طريق الكتابة. وقد عشتها وتذوقتها وعرفتها. وتم هذا كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي. وهأنذا أجد الفرج والفرح والري والاسترواح والانطلاق من كل قيد ومن كل كرب ومن كل ضيق، وأنا في مكاني! إنها رحمة الله يفتح الله بابها ويسكب فيضها في آية من آياته) انتهى من كلامه رحمه الله باختصار.
كلام جميل جدًّا من إنسان أحس فجأة برحمة الله فأغنته عن الدنيا كلها وهونت عليه المصاعب كلها.
أخي/أختي، أنت في الأوضاع الاعتيادية عندما تحس بالفرح فإنك قد تعزو هذا الفرح إلى الأسباب المادية.. صحتك، مالك، مكانتك، زوجتك، أولادك، ما تتلذذ به من طعام وشراب.. لكن عندما تكون في بلاء شديد وتفقد كثيرًا من الأسباب المادية ومع ذلك تحس فجأة بالفرح، فإنك تدرك حينئذ أن هذه الفرحة ما هي إلا من رحمة الله وبرحمة الله.. واحة تجدها وسط صحراء العناء.
هذه رحمة الله يا إخواني وأخواتي. أرجو أن تكونوا قد طمعتم فيها.. طيب، ماذا نفعل حتى نحصلها؟ قال ربي سبحانه: {إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٥٦} [الأعراف: 56].. كن من المحســـنين.. الـــواحـــد منا عادةً إذا وقع في مشكلة ينشغل بنفسه وبمشكلته وكيفية التخلص منها، ويتحسر على ما فاته ويخاف من المستقبل.. ننسى في هذه اللحظات الحرجة أن نكون من المحسنين لنستأهل رحمة الله.. {إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٥٦} [الأعراف: 56]..
ما أجمل أن يصبح الخير فيك سجيّةً وطبعًا، فتجد نفسك تحسن وتفعل الخير تلقائيًّا وأنت في أحرج الظروف، لأنك تعودت ألا تعيش لنفسك بل تعيش للناس ولخدمة دينك.
ماذا عليك أن تفعل حتى تستأهل رحمة الله؟ ارحم..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحــمـوا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) (أخرجه أبو داود والترمذي وأحمد، وقال الترمذي: حسن صحيح).
عاشرتُ أناسًا فرأيت منهم عجائب!.. أحدهم قد تعود على بذل الخير وعلى أن يعيش للناس ويسعى في تفريج كرباتهم، وهو في منطقته معروف بذلك. تعرفَ أثناء حبسه على شابٍّ قتل رجلًا فحكم عليه بالسجن المؤبد، ثم إن هذا الشاب استقام وصلح أمره في السجن، فنُقل إلى القسم الذي فيه متدينون. الأخ المحسن الرحيم تعرف على هذا الشاب من وراء الجدران.. لم يلتق به ولم ير وجهه، لكنه عرف أن الأخ القاتل يمكن الإفراج عنه إذا تصالح أهله مع أهل القتيل على مبلغ من المال.. فبدأ أخونا بالتنسيق مع زواره من أشقائه لجمع المال لهذا الشاب ليفرج كربته. لم يلهه السجن عن فعل الخير، بل هو يسعى-وهو أسير- في تفريج كرب الشاب. كان يوصي -من الأسر- بإعطاء مال من ماله لأرامل ومحتاجين. مثل هذا نحسبه يحس برحمة الله أينما كان وفي كل ظرف.. فالراحمون يرحمهم الرحمن.
أخ آخر كان قد مرَّ بظروف صعبة للغاية، لكنه مع ذلك كان رحيمًا بإخوانه.. مرضت مرة فوضع رأسي في حجره وقرأ عليَّ قرآنًا ورقَاني وعيناه تدمعان لرقة قلبه.. وهو ذاته الذي قال لي: (أريدك أن تستمتع بنعمة البلاء)! رضًا وطمأنينة.. فالراحمون يرحمهم الرحمن. ورأيت من كانوا يعبرون عن رحمتهم بوضع قطع من الطعام المقدم لهم في صرر ورميها للقطط المارة من فوق شبك غرف السجن!
تريد رحمة الله التي لا يمسكها أحد من الجن أو الإنس؟ تريد رحمة الله التي بها الفرح الحقيقي؟ عود نفسك على الرحمة والإحسان في كل الظروف. ألم تر أن الله تعالى امتدح من يؤثِر إخوانه على الرغم من فقره فقال في الأنصار: {وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ}[الحشر: 9] ؟ يعانون من بلاء الفقر ومع ذلك يحسنون.
ألم تر إلى قول النبي: ((مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ)) (رواه مسلم).
لقد زاد البلاء من فهمي لأسماء الله تعالى: الرحمن، الرحيم.. لأبني محبتي لله على فهم مُعَمَّقٍ لأسمائه وصفاته سبحانه.
خلاصة هذه المحطة:
ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء.. وحينئـذٍ: {مَّا يَفۡتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحۡمَةٖ فَلَا مُمۡسِكَ لَهَاۖ} [فاطر: 2]..