ما زلنا نتأمل أسماء ربنا وصفاته لنحبه حبًّا لا يتزعزع.. تعالوا اليوم نتأمل مغفرة الله، وعفو الله، وتوبة الله على عباده.
أحيانًا نمر بظروف صعبة، فنتذكر قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٖ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِيكُمۡ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖ ٣٠} [الشورى: 30].. نفتش في أعمالنا فنرى أننا أخطأنا في حق الله كثيرًا.. نندم حينئـذٍ.. وهذا الندم أمر مطلوب حتى يدفعنا إلى التوبة الجادة. هذا الندم ينبغي أن يكون إحساسًا مؤقتًا يدفعنا فورًا إلى إصلاح أخطائنا بإيجابية وحسن ظن بالله أنه سيعيننا ويقبل منا توبتنا ويعطينا فرصة أخرى لتصويب أوضاعنا..
لكن أحيانًا تسير الأمور مع الواحد منا بطريقة مختلفة! فبدلًا من هذه الإيجابية وحسن الظن بالله يتجمد عند مرحلة الندم واجترار الذكريات وجلد الذات ومقت النفس! فتفسد نفسه وتتكدر. ويبدأ يشعر بأن هذا البلاء عقوبة محضة لا رحمة فيها، قاصمة الظهر التي ليس بعدها قائمة! لأن الله تعالى بعدما أعطاه فُرَصًا في الماضي فلم يستغلها، قد مقته وسخط عليه ولن يعطيه فرصة أخرى! ثم.. يتسرب إليه الشعور بالجفوة بينه وبين ربه سبحانه وتعالى! يحس بأن الباب قد أغلق والدعاء قد رُدَّ والشقاوة قد ضربت عليه ما امتدت به الحياة!
أخي، أختي.. احذر! هذه مكيدة من الشيطان، بل هي من أخطر مكايده! فهو يجعلك تتوهم في البداية أن لوم نفسك بهذا الشكل مطلوب لأنه اعتراف بالذنب.. لكن الشيطان أوقفك عند مرحلة اللوم والندم وجعلك تبالغ فيها ليقودك إلى توهم شيء خطير للغاية! تتوهم قسوة القدر ومن قدَّرَه سبحانه! وفي هذه اللحظة من سوء الظن ستحس بالضياع المخيف!
أنت عندما يشتد بلاؤك تشكو بثك و حزنك إلى الله.. عندما تـنـقـطـع بك السـبل وتـغـلـق دونـك الأبـواب، فإنك لا تـجـد ملجأ ولا منجى إلا إلى الله. فإذا قنَّطك الشيطان من رحمة الله وأوهمك أن بلاءك عقوبة محضة ومقت من الله، فإلى أين تفر؟ و إلى من تلتجئ؟ وإلى من تتضرع؟ ومن ترجو؟ ستحس بالضياع المخيف.. وهذا ما يريده الشيطان لك! طُرِد من رحمة الله فلا يحب أن يرى مرحومين أو طامعين في رحمة الله!
أخي، أختي، لاحظ أن الشيطان لن يأتيك من باب التشكيك في مغفرة الله هكذا مباشرة.. لن يقول لك: الله ليس غفورًا رحيمًا.. فهذه محاولة فاشلة بوضوح. لكنه سيأتيك من باب آخر! سيقول لك: (الله غفور، لكنك لا تستحق مغفرته لأنه أعطاك فرصا في الماضي ولم تستغلها. الله تواب، لكن أنت طبيعتك سيئة غير مؤهلة للإصلاح. الله عفو.. لكن أنت أفشل من أن تفعل ما تستحق به عفوه)!
ماذا يريد الشيطان من هذا؟ يريد أن يوقعك في الاكتئاب! الاكتئابِ الذي يشل إرادتك عن إصلاح وضعك والعودة إلى ربك؟ هناك مصطلحات علمية توصف بها أعراض الاكتئاب الـمَرَضي تجدها مبثوثة حتى في المراجع الأجنبية. منها الشعور العميق بالحزن وشعور مبالغ فيه بالذنب (exaggerated sense of guilt)، وانــــعـــــــــــدامِ القـــــــــيمة (worthlessness)، ونــــــــــــــــــقــــــــــصُ الــــــدافــــــعــــــــــــــية (lack of motivation)..
الشيطان يجمّدك عند مرحلة الإحساس بالذنب ويجعل التفكير بالذنب يسيطر عليك بطريقة وسواسية، ويُشعرك أنك عديم القيمة غير قابل للإصلاح، غير قابل لأن تكون من عباد الله الصالحين.. ليشل إرادتك للطاعة ودافعيتك للتغيير وهجرِ المعصية، ولتفقد السعادة والفرح بربك ومولاك سبحانه وتعالى. فهو لا يريد لك أن تحب ربك! إخواني، إن الولد الذي يعاقبه أبوه يحب أباه إذا علم أن هذه عقوبة دافعُها محبة أبيه له وحرصه على مصلحته، أما إن ظن أن أباه يعاقبه بدافع الكراهية، فإن قلبه سيقسو تجاه أبيه.
ولله المثل الأعلى.. لا تسمح للشعور بأن البلاء عقوبة محضة، لا تسمح له أن يغزو قلبك. بل استحضر صورة الأب الذي يفرك أذن ولده المخطئ فإذا طأطأ الولد رأسه ضمه أبوه إلى صدره وأغدق عليه من حنانه.. ولله المثل الأعلى.
فاعتصم بحبل حسن الظن بالله التواب العفو الغفور.. إنه تعالى أرحم من أن يتربص بذنوب عباده المؤمنين فيبطش بهم ويخرجهم من رحمته ويحرمهم فرصة أخرى.. في الحديث الذي رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: ((أذنب عبدٌ ذنبًا، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: أذنب عـبدي ذنبًا، فعلم أن لــــه ربًّا يغــــــفــر الذنب، ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب. فقال: أيْ رب اغفر لي ذنبي. فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا. فعلم أن لــــه ربًّا يغــــــفــر الذنب، ويأخذ بالذنب. ثم عاد فأذنب فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي . فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا. فعلم أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب .. اعمل ما شئت فقد غفرت لك)). طبعًا لا يوحي الله تعالى إلى عبدٍ أن أذنب وسأغفر لك. بل معنى الحديث أنه قد سبق في مشيئة الله أن العبد مهما عمل، إن كان في كل مرة يتوب بصدق ويعزم على عدم فعل المعصية فإن الله تواب وسيبقى يتوب عليه، غفور، سيغفر له، عفو، سيعفو عنه.. وهو يعلم سبحانه أن هذا العبد التائب سيذنب في المستقبل.
أخي، لا تقنط من رحمة الله أن يعينك على التقرب إليه والتمتع بالحظوة عنده. إذا جاءك الشيطان فقال لك: أنت لا تستحق رحمة الله. فقل: نعم، أنا لا أستحقها لكنه تعالى سيرحمني لأنه أكرم من أن يعامل عباده بما يستحقونه! إن قال لك الشيطان: لن يعطيك الله فرصة أخرى فقد نجاك من قبل ولم تحفظ المعروف.. فقل: بلى، سيعطيني وأطمع أن ينجيني، فهو العفو الغفور. إذا قال لك الشيطان: إن الله يبتليك عقوبة لأنه يكرهك فقل له: بل يبتليني ليطهرني ويربيني. إذا قال لك الشيطان: أنت أحط من أن تستأهل رحمة الله، فقل له: رحمة الله أوسع من تضيق عني ولا تشملني.
العبد الفقير لرحمة الله، والذي يكتب لكم هذه السطور.. تفكر أثناء أسره في ماضيه وأيقن أنه قصر في حق الله كثيرًا.. كان الله سبحانه وتعالى قد أعطاه فرصًا وابتلاه ابتلاءات أخف ليصحو من سهوته، خاصة فيما يتعلق بترتيب الأولويات في حياته وأعمال القلوب.. لكن هذا العبد الضعيف عاد بعد النجاة إلى الأخطاء ذاتها، فجاءه بلاءٌ أشد. ندم وتألم وخاف من أن هذه العقوبة ستطول وتشتد ولربما تتجاوز استطاعته وتحمله، فزاد هذا من ألمه وندمه. وبدأ شعور سلبي يدبُّ إلى قلبه.. ثم شاء الله تعالى أن أقرأ حديثًا عظيمًا قرأته من قبل، لكنه هذه المرة جاء حبل نجاة من الله وبلسما لجراحي! الحديث رواه مسلم، وفيه أن الله عز وجل يُشفِّع بعض خلقه في إخراج أناس من النار الخير فيهم قليل جدًّا. ومع ذلك، رحمة الله ستشمل من هم دونهم أيضاً! فيقول الله عز وجل: ((شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين. فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فيُخْرِجُ مِنْها قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قدْ عادُوا حُمَمًا، فيُلْقِيهِمْ في نَهَرٍ في أفْواهِ الجَنَّةِ يُقالُ له: نَهَرُ الحَياةِ، فَيَخْرُجُونَ كما تَخْرُجُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيْلِ)).. سبحان الله! يخرج ربنا سبحانه وتعالى أناسًا بــعــدما طــهّــرهــم بالــنــار ويدخلهم الجنة برحمته لا بأعمالهم.
هز هذا الموضع من الحديث كياني وأيقظني ونجاني من الاكتئاب الذي كان الشيطان يحاول إيقاعي فيه! قلت لنفسي: (نعم أخطأت.. لكنْ أحسِب أن الله جعلني خيرًا من هؤلاء الذين أخرجهم. فإن كانت رحمة الله شملتهم فستشملني في الدنيا والآخرة). فانقذفت في قلبي دفعة كبيرة من محبة الله والاطمئنان إلى رحمته، وعلمتُ أن الصوت الذي ظننته من النفس اللوامة كان صوت الشيطان! تسرب إلي من هذا الباب: باب محاسبة النفس! فتجاوزَ بي محاسبة النفس المحمودة إلى الإحباط المذموم.
إخواني وأخواتي.. الله تعالى أرحم بكثير مما قد يهيئ لنا الشيطان في لحظات اليأس.. {قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ٥٣} [الزمر: 53]..
وبهذا زاد البلاء من فهمي لأسماء الله تعالى: التواب، العفو، الغفور.. لأبني محبتي لله على فهم مُعَمَّقٍ لأسمائه وصفاته سبحانه.
خلاصة هذه المحطة:
لا تدع الشيطان يوقعك في الاكتئاب.. بل حوّل ندمك إلى قوة إيجابية للتقرب من الله التواب العفو الغفور.