→ جميع المقالات
حسن الظن بالله - الحلقة 16 - الله لطيف بعباده
١٤‏/٧‏/٢٠١٤

لا زلنا نبني محبتنا لله على أسس لا تتأثر بالمتغيرات، أولها تأمل أسماء الله تعالى وصفاته، وقلنا أنك بهذا التأمل تحول البلاء إلى سبب لمحبة الله بدلًا من أن يزعزع البلاء هذه المحبة.
تأملنا حكمة الله وتودده وإعانته ورحمته ومغفرته.. في هذه المحطة نتأمل لطف ربِّنا اللطيف سبحانه.

قال ربنا عز وجل: {ٱللَّهُ لَطِيفُۢ بِعِبَادِهِۦ} [الشورى: 19].. مهما اشتد بلاؤك فلا بد أن ترى من ربك تعالى لطفًا فيه إن أحسنت الظن به تعالى، بل وكلما أحسنت التعامل مع بلائك زادت فيه مظاهر اللطف وتعمق لديك فهم لطفه سبحانه.

تأمل لطف الله بنبيه وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم في أشد لحظات حياته حراجةً وإيلامًا.. عندما عاد من الطائف وقد سخر منه ساداتها ورماه بالحجارة سفهاؤها، وهو الآن في طريق العودة إلى مكة حيث تنتظره الشماتة والتكذيب والتضييق، وقد ماتت الوفية العطوف خديجة رضي الله عنها، وعمه أبو طالب الذي كان يـحـمي النبي ويـفـديـه بـنـفـسـه وأولاده.. وزاد الألمَ أنّ أبا طالب مات كافرًا. لم يعد لرسول الله في مكة مأوى ولا منعة.. وكان هذا كله بعد عشر سنوات من البعثة، أصحابه فيها يعذبون ويشردون ويقتلون، ولا يدري النبي صلى الله عليه وسلم كم ستمتد هذه المعاناة..

كانت ساعات العودة من الطائف هذه أشق محطة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وصفها النبي بقوله لأُمِّنا عائشة في الحديث المتفق عليه: ((فانطلقْتُ وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب)).. قرن الثعالب منطقة تبعد حوالي 35 كيلومترا عن الطائف.. سار النبي هذه المسافة في حر الشمس ووحشة الصحراء دون أن يشعر بها من شدة الهم!

ومع ذلك.. يأتي لطف الله تعالى ليخفف عن رسوله صلى الله عليه وسلم في أشد اللحظات حراجة.. في هذه اللحظة كأن الله تعالى وضع الكفار جميعًا في قفص الاتهام، وأعطى رسوله مطلق الحرية في القضاء لينفذ فيهم الحكم الذي يشاء.. ففي تتمة الحديث المتفق عليه الذي ذكرناه قال عليه الصلاة والسلام: ((فرفعت رأسي وإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك. فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبَيْن)).

سبحان الله! نفس النبي كسيرة بما لقي من أهل مكة والطائف، وقدماه لا زالتا تدميان.. فيجعل الله تعالى حبيبه بهذا العرض في مقام الحاكم نافذ الأمر، بينما الكفار جميعا كأنهم قيدوا بالسلاسل أذلة صاغرين.

ملَكان ينتظران كلمة من شفتي النبي تنهي المعاناة وتشفي الصدر وتذهب غيظ القلب.. انظر كم هو محمد صلى الله عليه وسلم كريم القدر عند ربه سبحانه! أليس هذا لطفًا عظيمًا من الله بحبيبه؟ عندما يرى رسول الله قدره عند ربه ومحبة ربه له وغضبه من أجله.

فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن قـــــــــال للــمــلَكـين -بمنتهى السمو الإنساني والعظمة البشرية-: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا)) (متفق عليه). بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.

أليس هذا لطفًا عظيمًا من الله بنبيه؟!.. أن يسلِّمه زمام الأمر ويجعله صاحب القرار.. ثم النبي من نفسه يختار الصبر على أذاهم، لا عن عجز، بل عن عظمة ورحمة. فبدل أن يشعر النبي بالقهر وانعدام الحيلة تجاه هؤلاء المعاندين، يصبح كالأب الذي اختار هو بنفسه الصبر على هؤلاء الأولاد العاقين.

عندما تبتلى تأمل كيف أن بلاءك كان من الممكن أن يأتي أشد، ثم تأمل وجوه لطف الله تعالى بك.

في بلاء مررتُ به جعلت أتأمل وجوه اللطف.. استخرجت ورقة وقلمًا وكتبت قائمة بعنوان: (أمور خففت البلاء). وصلت فيها إلى 37 أمرًا خفف الله بها هذا البلاء! ثم أضفتُ كثيرًا غيرها بعدها. وأنا أنصح كل مُبتلىً أن يفعل مثل ذلك، ولينظر إلى أثرها في نفسه.

يخفف الله عنك باللقاء برجل ابتُلي قبلك فصبر، ببسمة تراها على وجه أخيك، برعاية الله لعيالك ومن يهمك شأنهم، بمحبة أناس نبلاء ومساندتهم لك، بكتاب تقرأه، بذكرى جميلة، بأمل في الفرج ينبعث في قلبك، بصورة جميلة للمستقبل ترتسم في ذهنك، بتوسيع الله لك في جانب آخر من حياتك غير الجانب الذي ضاق عليك، بتعريضك قبل البلاء الكبير لبلاء أصغر يمرنك ويعودك على الصبر، بكشف الله قبح ظالمك.. وغيرها الكثير.

ومن لطائف اللطف الرباني أنك تكون في بلاء تضيق به ثم يأتيك بلاء آخر جديد ينغص عليك ويزيد همك أكثر فأكثر.. فإذا فرج الله هذا الهم الجديد انشرح صدرك وهان عليك بلاؤك الأصلي!

ومن لطائف اللطف الرباني تلك الرؤى الطيبة المصبرة التي رأيت من نفسي ومن كثيرين حولي مذاقها الجميل وكم صبَّرت من مبتلى وهدَّأت نفسه..

قد تقول في نفسك.. لكن هناك بلايا لا نرى فيها لطفًا.. فأين اللطف فيما يحصل مع مسلمين في بلدان مختلفة يعذبون وتنتهك حرماتهم ويُقتلون بأساليب بشعة؟!

فالجواب: بل أعظم مظاهر اللطف نراها في بلائهم! ألا وهو تثبيتهم على الإيمان في لحظات تعذيبهم وقتلهم، بدلًا من موتهم على معصية. إنسان على وشك مفارقة الدنيا والرحيل إلى ربه.. مثل هذا لا يحتاج تخفيف البلاء، بل مضاعفته ليتضاعف الأجر، لأنه على وشك انقطاع العمل وطي كتاب الحسنات والسيئات. وعامة إخواننا هؤلاء ممن خلط من قبلُ عملًا صالحًا وآخر سيئًا كحالتنا، وممن تراوح إيمانه بين نشاط وفتور.. فأي لطف أعظم من أن يعصمه الله من شؤم سيئاته ويقذف في قلبه إيمانًا ينطقه بالشهادتين وبعبارات التفويض إلى الله (ما لنا غيرك يا الله) بينما كثير غيره يموت في بيته وقصره ميتة سوء ولا يوفق للنطق بهما؟!

روى أبو نعيم في حلية الأولياء أن عمر بن عبد العزيز قال: (مَا أُحِبُّ أَنْ تُهَوَّنَ عَلَيَّ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ لأَنَّهَا آخِرُ مَا يُكَفَّرُ بِهِ عَنِ الْمُسْلِمِ).

خلاصة هذه المحطة:

مهما اشتد البلاء، سترى أشكالا من لطف الله فيه.. فتأملها، وسيتعمق حينئـذٍ فهمك لاسم الله (اللطيف)، فتعيد بناء حبه سبحانه على أسس سليمة.