نتحدث في هذه المحطة عن ستر الله على عباده.. صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنّ اللهَ حيِـيّ سِتِّير)).
قد تبتلى، فَيَتَعاطف الناس معك و يدافعون عنك ويذكرون أفضل صفاتك ويثنون عليك ثناء عطرًا.. حينئـذٍ، إياك أن تغتر بنفسك! بل تذكر أن هذا كله إنما هو من فضل الله الذي أظهر الجميل وستر القبيح. فلو أظهر أقبح ما عندك فلعلهم انفضوا عنك وقالوا عنك: (إنما ابتُلي بسوء أعماله).. وتصور كم سيكون مؤلمًا أن تسمع هذه الكلمة وكم ستزيد همك!
ليس هذا الكلام للعصاة فقط، فليس منا أحد في قلبه حياة إلا ويعلم من نفسه أشياء يحب أن يسترها الله تعالى. فـ((كل بني آدم خطاء)). فتش في نفسك:
إن لم تكن تُسر معصية الآن فقد عصيت الله في ماضيك ولا بد، وكان من الممكن أن يطَّلع عباد الله على ذلك فتهتز صورتك في عيونهم بعد أن أحبوك، ولكن الله سترك.
بل قد تكون تساهلت في تناقل ما ينسب إلى أخيك المسلم من نقيصة مفتراة عليه وتقول: العهدة على الراوي! فتسببت في أن يَشيع عنه ما ليس فيه مع أن الله سترك على ما فيك!
إن لم تكن معصية فتقصير في طاعة، خاصة إن كان الناس ينظرون إليك على أنك قدوة.
أو نقطة ضعف في شخصيتك يمكن أن يفرح بها خصومك، لكن الله سترها عليك.
وكم من مواقف قد لا تكون فيها معصية لكن يمكن أن يساء تفسيرها فيسوء ظن الناس بك، لكن الله سترك.
وكم من مرض قلبٍ عندك وأفكار لا تحب أن يطلع عليها الناس إذ تهز صورتك لديهم، لكن الله سترك.
أعود فأقول: يعرف هذا من نفسه كل من في قلبه حياة. فإن كنت لا ترى ستر الله عليك فهذه دلالة خطيرة أن قلبك قد قسا وما عاد يرى فضل الله بالستر عليك.. دلالة أن المعصية هانت عليك لهوان حق الله عندك.. ومما هونها أن الله لم يفضحك بها. فلو أطلع الناس عليها ورأيت نفورهم عنك وسقوطك من عينهم حينئـذٍ لندمت عليها وعـظـمـت في عـيـنـك. لكن لم يـطّـلع عليها إلا الله، وهان عندك حق الله، فهانت عليك معصيتك!
نــبّــهنا رســـول الله إلى الــســــتر الــذي قد يُكشف من حيث لا نحتسب فقال: ((يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قـلبه! لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم؛ تتبع الله عـــــورته، ومن تتبع الله عـــــورته؛ يـفـضــحه، ولو في جوف رحله)) (صححه الألباني).
فكر وتذكر وتدبر.. كم مرة سترك الله تعالى؟ لتحب ربك السِّتِّير سبحانه.
عندما تكون في جنازة فتسمع ثناء الناس على الميت تصور كم مرة يعصي الإنسان ربه في مدة حياته.. ستين أو سبعين سنة، ثم عند الموت يذكره الناس بخير ويستره الله.
بل انظر إلى تواصل ستر الله على عباده المؤمنين يوم القيامة.. في الحديث الذي رواه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يدني المؤمن-أي: يوم القيامة- فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أيْ رب. حتى إذا قـــــــرّره بــذنــوبــه، ورأى في نــفـــسه أنــــــــه هـلك، قال : سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته...)). تصور !.. معاص سترها الله في الدنيا فلم يعلم بها إلا الله ثم صاحبها والحفظة من الملائكة، ثم سترها الله بعد وفاة صاحبها ثم ســــترها يـــوم الـقــــيامــة فـدفـنت وكأنها ما كانت، ولا يُظهر الله إلا محاسن صاحبها فيعطى كتاب حسناته فينطلق ويقول: {هَآؤُمُ ٱقۡرَءُواْ كِتَٰبِيَهۡ ١٩} [الحاقة: 19].. كيف أيها العبد لو لم يسترها الله؟ أكنت تقول للعالمين هاؤم اقرؤوا كتابيه؟
بل قد تعمل عملًا لله تعالى تُسر به لئلا يدخل قلبك الرياء.. فيقبله ربك عز وجل، ثم يُظهر هذا العمل على يد أعدائك فيزيد محبتك في قلوب الناس ويرفع قدرك عندهم أنك أسررت به، ويعود عدوك خاسئًا مدحورًا.
وإذا أراد الله نـــــــشــــــــر فضــــــيلة لولا اشتعال الـــنــار فيما جـــــاورت طــــــويت أتـــاح لــها لســان حسود ما كان يعرف طيب عرف العود
فاشكر الله الذي فعل هذا بحسناتك ولم يفعله بمعاصيك وسيئاتك! وإن أثنى عليك المثنون.. وأثنَوا على صبرك على بلائك.. فتذكر على الفور أن تشكر الله الذي سترك، وتصور لو أن للمعاصي صغيرها وكبيرها رائحة تفوح أو علامة تظهر على جبهتك كيف سيكون الحال؟!
وتذكر قول أبي محمد الأندلسي القحطاني مخاطبًا رب العزة عز وجل:
أنتَ الــــذي صـوّرتني وخـلـقـــــــتني أنتَ الــــذي آويــتــني وحـــبـــــــوتني وزرعــتَ لي بـين القـــلــوبِ مــــــودةً ونــشــــرتَ لي في العـــالمـين محاسنًا والله لـــو علِموا قــــبــيــح ســـريرتي ولأَعَــــرَضوا عــــــني ومـلّوا صُحبتي لكنْ ســـــترتَ مـــعـــايبي ومــــثالبي فَلَكَ المَـــحامـــدُ والمــــــــدائــحُ كلها وهــــــديتني لــــــشـــرائع الإيــــــمانِ وهــــــديتني من حـــــــــــيرة الخذلانِ والعــطــفَ مـــنك بــــــرحمةٍ وحنانِ وســـــــترتَ عن أبـــصارهم عصياني لأبى الــــــســـــــــــلامَ عليّ من يلقاني ولَــــبُـــؤتُ بـــعــــدَ كرامــةٍ بــــــهوانِ وحَلُمتَ عن ســـقـطي وعن طغياني بـخـــــــواطــــري وجــــوارحي ولساني
ختامًا، عرفانا لله تعالى بالجميل أن سترك، وحتى يستمر ستره عليك.. استر على عباد الله.. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة)) (رواه مسلم)، وقال: ((من غسل ميتًا فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة)) (صححه الألباني وقال ابن حجر: حسن غريب). يعني قد ترى من الميت شيئًا يسوؤه لو كان حيًّا أن يطلع عليه الناس.. علامات سوء خاتمة، مرض، آثار وشم قبل الالتزام، حتى على مــــستوى قــــلــة عــــنـــايــــة بــنــظـــافــة ملابسه أو جسده.. سترك الله فاســـتر على عباد الله. وكلما دعتك نفسك إلى الحديث عن عيوب الناس فتذكر ستر الله عليك.
خلاصة هذه المحطة:
تأمل ستر الله عليك في بلائك وكيف أنه لو أظهر ما ستر لشمت فيك من شمت وانفض عنك بعض من يتعاطف معك. وإن أثنى الناس عليك أو على صبرك، فتوجه بالحمد إلى ربك الستير.