→ جميع المقالات
حسن الظن بالله - الحلقة 27 - ليس ما ينقصك هو أهم شيء
١٤‏/٧‏/٢٠١٤

من طبع النفس البشرية أنها يضعف لديها الشعور بالنعم المستمرة فتصبح فاترة باهتة في الحس. و إذا فقد الإنسان القناعة فإنه لا يفكر إلا فيما ينقصه من نعم حتى يشعر أن هذا الذي ينقصه هو أهم مقومات الحياة البشرية، و أن حياته لا طعم لها بدون هذا الذي ينقصه، تعال نستعرض أمثلة من ذلك:

  • الفقير يقول : ما قيمة الحياة دون مال؟! إن كنت لا أستطيع أن أوفر لأولادي ملابس جـــديـــدة في العـــــيد، فينكسر خــاطــر ابنتي الصغيرة و يرتد بصرها حسيرًا عندما ترى بنات الأقرباء يلبسن الجديد الفاخر ويمسكن بشنطة العيد في أيديهن، وهي بثياب وشنطة قديمة.. فالمال كل شيء.

هذا الفقير معافى في جسده متزوج قد رزقه الله أولادًا لكنه لا يرى هذه النعم لم يعد يفكر إلا فيما ينقصه.

  • المريض يقول ما قيمة الحياة دون صحة سليمة؟ ماذا تنفعني أموالي إن كان الطب قد عجــــز أن يجد لي شفاء لمرضي الذي يزداد حدة بمرور السنوات فيخيم على حياتي كابوس الارتـــماء مــقعدًا لا أستطيع خدمة نفسي يوما من الأيام.. أي طعم للحـــــــــــــياة مع ذلك؟! ليتني أفقد مالي كله وأنعم بالصحة، فالصـحة هي كل شيء.

  • العزباء التي لم ترزق زوجًا تقول ما قيمة الحياة دون إشباع عاطفي؟ ماذا تنفعني شهادتي ومالي وصحتي إن لم أجد من آنس له ويأنس لي؟ إن لم يكن لي شريك روح أملأ عليه حياته ويملأ علي حياتي؟ ليتني أفقد كل شيء وأنعم بزوج يجعل لحياتي معنى.

  • السجين لفترات طويلة يقول : ما قيمة الحياة دون حرية؟! إني أُدفن قبل موتي! ماذا نفعني مالي وصحتي وتعليمي؟ الحرية هي كل شيء.

  • العقيم يقول : ما قيمة الحياة دون أولاد يملؤون البيت صخبًا وبهجة؟ ماذا نفعني مالي صحتي إن كنت أنا وزوجتي لا نجد في بيتنا كل ليلة إلا الصمت والهدوء القاتل؟ ما قيمة الحياة إن كانت ستنتهي بموتي فلا عقب لي يحمل اسمي؟ لمن أعمل وأجمع المال ولمن أتعب؟

  • دميم الخِلقَةِ يقول: ما قيمة الحياة إن كانت الأنظار تزدريني؟ ما قيمتها إن كنت أكره رؤية نفسي في المرآة كل صباح؟! ماذا نفعني مالي وشهادتي وصحتي بعد ذلك؟ ليتني أفقد كل شيء وأنعم بمظهر حسن.

وهكذا؟! يزدري أكثر الناس -إلا من رحم الله- نعمة الله عليهم، ويظن كل مبتلى أن ما ينقصه هو أهم شيء أو كل شيء. فمن أصحهم شكوى؟ الفقير أم المريض أم العزباء أم السجين أم العـقـيم أم الـدمــيم؟ هـل الـمــال هـــو كل شيء؟ أم الصــحـة؟ أم الزواج؟ أم الذرية؟ أم الجمال؟ أم الحرية؟ إما أن يكون أحد هذه الأشياء هو أهم شيء أو كل شيء، أو أنها جميعًا دعاوى باطلة.

والحق أنها دعاوى باطلة! منشؤها نقص القناعة، والذي يضخم حجم ما ينقص الإنسان بينما يجعل النعم العظيمة التي يتمتع بها فاترةً باهتةً في حسه. و لذا قال الله تعالى : {وَلَا تَتَمَنَّوۡاْ مَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بِهِۦ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ} [النساء: 22] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((انظروا إلى من هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم)).. فإنه لنُكران جميلٍ أن ترى نـعـم الله الكثيرة عـلـيك لا شيء بـيـنـما تـرى ما ابــتلاك بفقده هو كل شيء! {يَعۡرِفُونَ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل: 83] لذا فإنك ترى آيات كثيرة في القرآن تذكر بنعمة الله وتستحث الشكر عليها.. {وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ ٣٨} [يوسف: 38] وإن أقبح الأوصاف في القرآن لمن لا يقدر النعمة، لفظة الكفر {فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ} [النحل: 112].. إن هناك نــعــمًا عـظـيمة لا نلاحظ وجــودها أصــلًا ولا تحظى ببيان أهميتها في الدروس والمــواعظ والخـطب، مع أنها لا تقل أهمية عما ذكر أعلاه من نعم. مثال ذلك نعمة "الدافعية". أيُّنا سمع درسًا أو خطبةً أو قرأ في كتاب عن نعمة الدافعية؟ إذا أردت أن تعرف أهميتها فانظر إلى مريض الاكتئاب، ذلك الـمـرض الذي كثيرًا ما يكون غير معروف السبب ويتطلب معالجات مكلفة قد يتأخر مفعولها.. وهو يختلف عن الحزن الذي يعتري أي إنسان بشكل عارض.

سل مريض الاكتئاب كيف فقد الدافعية للحياة، فلا دافعية للأكل والشرب، ولا للتعلم والعمل، ولا لعلاج نفسه ولا من هو مسؤول عنهم، ولا لمؤانسه زوجه وملاعبة أطفاله.. الحياة كلها بلا طعم و لا لون و لا رائحة ! لا يشتهي ولا يتمنى شيئًا إلا الموت!

فيا من ترى المال كل شيء، أتتمنى أن تؤتى المال وتفقد الدافعية؟ يا من تتمنين أن تفقدي كل شيء مقابل أن تعيشي في عش الزوجــــية، هـــل ستكونـــين ســعـيـدة إن رزقت خير زوج وفقدت –لا أقول كل شيء- بل فقدت الدافعية فقط؟

لذا أخي وأختي، علينا الحذر من ازدراء نعم الله علينا، علينا أن نستشعر هذه النعم و نجدد الابتهاج بها في نفوسنا ونحن نتلوا مثل قوله تعالى : {أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَةٗۗ} [لقمان: 20]. يبقى السؤال المهم: هل هناك نعمة غير ما ذكر يمكن اعتبارها كل شيء في هذه الحياة؟ نعم! إنها نعمة الإيمان.. فبالإيمان تصبر على ما ابتليت به من فقد بعض النعم، فقد يكون صبرك نعمةً أكبر مما فقدت! مصداقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له) (رواه مسلم).. بينما بانعدام الإيمان تصبح النعم بلاءً و استدراجًـــا وســـببًا في طـــــول الحـــساب وشدة العذاب: {وَلَا يَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ خَيۡرٞ لِّأَنفُسِهِمۡۚ إِنَّمَا نُمۡلِي لَهُمۡ لِيَزۡدَادُوٓاْ إِثۡمٗاۖ وَلَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ ١٧٨} [آل عمران: 178] .

لقد نجّى الله يوسف عليه السلام من فتنة الدين، وهي محاولة النسوة إغواءه، وابتلاه تعالى بالسجن، وهو بلاء دنيوي. واعتبر الله ذلك فضلًا على يوسف و استجابةً لدعائه: {فَٱسۡتَجَابَ لَهُۥ رَبُّهُۥ فَصَرَفَ عَنۡهُ كَيۡدَهُنَّۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ٣٤} [يوسف: 34] ، مع أنه قدّر عليه سجنًا طويلًا.. نعم! فإذا سَلِمَ الدين فإن بلايا الدنيا تنقلب مِنحًا للدنيا و الآخرة، كما حصل مع يوسف عليه السلام.

فاللهم ارزقنا الإيمان و القناعة و الصبر.