تمر سنوات من حياتنا تجتمع لنا فيها أسباب كثيرة للسعادة، لكننا إن سألنا أنفسنا: هل نحن سعداء؟ فقد يأتي الجواب من أعماقنا: لستُ متأكدًا!
هناك طموحات وتطلعات تشغل بالك لم تتحقق بعد. تصبح هي محط تركيزك. أما ما اجتمع لديك من أسباب السعادة فقد فَتَرَ في حسّك وبهتت ألوانه وأصبح كالخلفية الجامدة غير المهمة في الصورة التي ينقصها محط تركيز العدسة، وهو هذه الطموحات التي لم تتحقق بعد.
كما يصدأ الحديد فإن أدوات تذوق النعم المركوزة في نفوسنا تصدأ.. لذا فإن الله تعالى يذكرنا في مواضع كثيرة بهذه النعم التي فــتــرت في حسنا ولم تعد تعني لنا شيئًا: {أَلَمۡ تَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَيۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَٰهِرَةٗ وَبَاطِنَةٗۗ} [لقمان: 20].. {ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَٰرَ ٣٢ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ دَآئِبَيۡنِۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ٣٣ وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ ٣٤} [إبراهيم: 32-34]، وآيات كثيرة عن السمع والبصر والمسكن والملبس والطعام والشراب والنار والمعادن والنوم والبعثِ بَعْدَهُ والأزواج والأولاد وغيرها.
آيات كثيرة، حتى لا نزدري نعمة الله وننساها. لكننا مع هذا التذكير الإلهي قد لا نستمتع بهذه النعم. ليس الحديث هنا عن التفكير بمشاكل المسلمين والتألم لألمهم، فهذا مطلوب بالقدر الذي يدفع إلى العمل بإيجابية لمساعدتهم ونصرتهم. وليس الحديث عن تنغص العيش بظلم الظالمين الذين يفسدون علينا حياتنا ويسعون في الأرض فسادًا، فهذا التنغص لا بد منه، وينبغي أن يدفعنا إلى إصلاح أوضاعنا بعملٍ دؤوب، والقضاء الواحد تسخط على الظالم فيه وترضى عن الله وتستعين به على مدافعة هذا الظلم..
لكن الحديث هنا عن فقدان القدرة على تذوق النعم والشعور بمنة الله علينا فيها، وهذا داء يصيب النفس بغض النظر عن الاهتمام للمسلمين والتكدر بإفساد الظالمين.
هذا الداء جزء من ظـــواهر نفسية يعرفها المعالجون النفـــســيـــون بالــ (Cognitive Distortion)، أي: التشوُّه المعرفي، ويسمون هذه الظاهرة بالذات: (Mental Filter)، أي: الفلترة الذهنية، وهي عدم قدرة الفرد على ملاحظة النواحي الإيجابية في حياته بسبب انشغال ذهنه بمعكر بسيط نسبيًّا، كمن لا يرى إلا خللًا بسيطًا في ثوب جميل نافع. هذه إخواني ظاهرة غير صحية تحتاج علاجًا، لكنها في الواقع قد تكون موجودة لدى أكثرنا.
إذا لم يفلح أحدنا في تذوق نعم الله عليه وقدْرِها حق قدرها فقد يبتليه الله تعالى بفقدان أحد هذه النعم. والسعيد حينئذ من اتعظ ونَبَّهه فقدان هذه النعمة إلى أن هناك أشياء كثيرة في حياته لا زال يمتلكها تستوجب شكر الله وتستحق أن نكون بها سعداء. يأتي البلاء ليزيل الصدأ عن أدوات استشعار النعم المركوزة في فطرتك وينظفها ويعيد للحياة رونقها ويضفي عليها ألوانًا بهيجة من جديد، بعد أن كانت خلفية باهتة رتيبة لا لون فيها! بعد أن كانت الفلترة الذهنية تشغلك عنها وتغض من قيمتها وتعكر رونقها بالتطلع إلى ما لم يتحقق بعد من طموحات.. يأتي البلاء ليعلم الإنسان فن تذوُّق النعم!
كانت النعم لديك وفيرة، لكن قدرتك على تذوقها ضعيفة، فلم تحفل بها وتسعد كما يجب. قد تقل النعم بالبلاء الذي أفقدك مالًا أو جاهًا أو صحةً أو غيرها، لكن إن كنت من أهل الرضا وحسن الظن بالله وتأمُّلِ حكمته فإنك ستَتَنَّبَهُ بالبلاء إلى الكثير الذي بقي لديك وتستحي من الله أنك لم تَقْدُر نعمته عليك من قبل، فتكتسب فن تذوق النعم وتسعد بها وتطمئن. نسأل الله أن يجعلنا من عباده الذين يُرزقون العافية ويشكرون..
خلاصة هذه المحطة:
البلاء وإن كان يحرمك من بعض النعم، لكنك تستطيع تحويله إلى سبب لتذوق النعم الباقية التي بهتت في حسك، وشكرِ الله عليها.