والله يا إخواني لا أظن أن هناك شعورًا أجمل من هذا تعيش به في حياتك! الشعور بأن الله يريد بك خيرًا مهما قدر عليك وفعل بك.. فكله لمصلحتك.. وقد لا تستيقن من هذا الشعور إلا من خلال البلايا !
وأنت في عافية من أمرك غير مبتلى، تعيش حياة شبه كاملة.. قد ينعم الله عليك بالنعم الدنيوية كلها.. فتسأل نفسك: (هل هذا من عاجل إنعام الله علي، مع ما ادخر لي من نِعَمٍ في الآخرة؟ أم أنه استدراج، يوفيني الله حسابي في الدنيا ويعاقبني في الآخــرة على تـقصيري؟) وقد يكون هذا الشك مقلقًا بالنسبة لك.
فإذا ابتُليتَ ورأيتَ علامات أن الله أراد بك في هذا البلاء خيرًا، ملَأَتْكَ البهجة وقلتَ لنفسك: (لقد قصَّرتُ في حقه تعالى لكنه الحليم.. يعاملني بحلمه وكرمه لا بما أستحقه. أراد بي خيرًا لا لأني أستحق منه ذلك كله ولكن لأنه أهل المغفرة واللطف والحلم والرحمة والكرم).
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف أعرف إن كان الله يريد بي خيرًا أم لا؟ هل يا ترى بكمال الصحة وكثرة المال والأمن من المصائب الدنيوية؟
لا.. أبدًا! هذا كله ليس دليلًا على إكرام الله لك ولا على أنه أراد بك خيرًا. قال تعالى: {فَأَمَّا ٱلۡإِنسَٰنُ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ رَبُّهُۥ فَأَكۡرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَكۡرَمَنِ ١٥ وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ ١٦} [الفجر: 16،15].. يعني كثير من الناس يَعتبر أن إعطاء الله له من نِعَمِ الدنيا دليل على محبة الله له ورضاه عنه وأن له كرامة عند الله. بينما إذا ابتلاه بالفقر يعتبر ذلك دلالة على إهانة الله له وأن الله أراد به شرًا. إذن يعتبر الإعطاء والمنع من نعيم الدنيا مقياس رضا الله وسخطه على العبد، محبته وكراهيته للعبد.. إرادته الخير أو الشر بالعبد. فجاء الرد من الله تعالى على هذه النظرة بكلمة: {كَلَّاۖ} [الفجر: 17].. أي ليس العطاء والمنع من الدنيا هو المقياس.
وقـال تـعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعَاجِلَةَ عَجَّلۡنَا لَهُۥ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلۡنَا لَهُۥ جَهَنَّمَ يَصۡلَىٰهَا مَذۡمُومٗا مَّدۡحُورٗا ١٨} [الإسراء: 18].. {كُلّٗا نُّمِدُّ}.. المؤمنين والكافرين، الأبرار والفجار.. الكل ينال نصيبه من عطاء ربك في الدنيا.. {وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا ٢٠} [الإسراء: 20].
إذن ما هو المقياس لتعرف إن كان الله يريد بك خيرًا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا لمن أحب))..
نعم! إذن الإيمان هو المقياس..
فإن وجدت البلاء قد قَرَّبَك إلى الله، فاعلم أنه سبحانه أراد بك خيرًا.. وإن وجدت البلاء أبعدك عنه سبحانه فالحذر الحذر! تداركْ نفسَك قبل أن تكون من المحجوبين.
إذا وجدت نفسك تُبتلى بما لم يكن في حسابك، ومع ذلك يُنزل الله عليك السكينة.. فقد أراد بك خيرًا.
إذا وفقك الله لإحسان الظن به، وعَصَمَك من العتب على أقداره.. فقد أراد بك خيرًا.
إذا مرَّت بك لحــظات في بـلائك تـعـيش فـيها مـع القـرآن بسعادة رغم كل شيء وتدمع عيناك من محبة الله والامتنان له.. فقد أراد بك خيرًا.
إذا صَغُرَتْ في عينك تهديدات المخلوقين وعلمت أنهم عبيد مقهورون تحت سلطان الجبار القهار سبحانه، فلم تعد ترجو خيرًا إلا منه تعالى ولا تخاف إلا منه تعالى.. فهذا كله دلالة على أن الله تعالى أراد بك خيرًا.
إذا وفقك الله إلى أن تستغل وقتك في بلائك فيما ينفعك في دينك ويقربك من ربك، بينما كثير من الناس يظهرون أحرارًا معافَيين، إلا أنهم محبوسون في أهوائهم وأوهامهم وشهواتهم وشكوكهم ومرضى بها!.. فإنه تعالى ما اختارك من بينهم لخدمة دينه إلا لأنه أراد بك خيرًا.
إذا سبَحَتْ روحك في ملكوت الله وطافت تحت العرش مع أن جـسـمك وراء القـضـبان أو أثـقـله مـرضٌ.. فإنه تـعـالى ما تركها تحلق وتتحرر إلا لأنه أراد بك خيرًا.
فالسكينة، والرضا والصبر والامتنان لله والعرفان له بالجميل وتعلق القلب به وعدم الخوف والرجاء إلا منه والأنس به وخدمة دينه.. هذه كلها من معــالــم الإيمان.. لا يعطيها تعالى إلا لمن أحب.. فإن أعطاك إياها فاعلم أنه أراد بك خيرًا.
فهل من المعقول أنه يبتليك ويرضيك لأنه يريد بك شرًا؟! لا والله! بل ما صبرك ورضاك بالقدر إلا لأنه يريد بك خيرًا..
أخي، أختي.. أنت من تختار لنفسك: إن كنت عندما تبتلى تنشغل بطاعة الله ولا تنطق شفتاك إلا بحمده والرضا عن قضائه فالله قد أراد بك خيرًا.. وحينئذ ستحقق السلام الداخلي مع نفسك، والسلام مع الله تعالى.
وإن كـنـت -لا قـدر الله- تـسـخـط أو تـعـتـب عـلـى الـقـــدر أو تنشغل بالأحزان والمخاوف والتوجس من المستقبل والتشكك في حكمة الله والعياذ بالله.. فقد اخترت الطريق الخطأ. قال ابن القيم: (من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل، وبأي شغل يشغله).
وأنت كذلك.. انظر بماذا يشغلك الله وفي أي عمل يستعملك لتعرف قدرك عنده وإن كان قد أراد بك خيرًا أم لا. فإن رأيت من نفسك ما لا يسر فسارع إلى التوبة.. فإن وُفِّقت إليها فاعلم أن الله قد أراد بك خيرًا.
SSSSS
ما أجمل أن تعيش بشعور أن الله يحبك ! حين تتخذ القرار بالرضا، ستلمس أن الله تعالى يحبك، لأنه سبحانه كما في الحديث الذي ذكرناه: ((لا يعطي الإيمان إلا لمن أحب)). فالرضا إيمان، إن حُزْتَه فإن هذا من علامات محبة الله لك. انظر حينئـذٍ كيف ستنظر بإيجابية إلى ما يقضيه الله تعالى لك.. فالذي يقضي هذه الأمور حُلوها ومُرَّها هو حبيبك الذي يحبك: الله سبحانه وتعالى.
فإن قضى لك بالمرض فـإنما يأتيك هذا القضاء ممن يحبك، ولا تعارُض.. وإن قضى لك بوفاة عزيزٍ عليك فإنما يأتيك هذا القضاء ممن يحبك كذلك.
لكن العبد المؤمن لا بد له من الخوف مع الرجاء.. فكيف يطمَئِنُّ إلى أن هذه البلايا ليست علامات مقتٍ من الله؟
إنَّ ردة فعلك عند البلاء هي التي تحدد: فإن أقبلت على الله سبحانه ورضيت وصبرت، فإنك تستديم هذه المحبة التي ظهرت لك أماراتها من قبلُ وتزداد بها وثوقًا. ويكون حرصك على استدامتها والأُنسِ بطُمأنينتها معيناً لك على هذا الصبر والرضا. لكن إن بادرتَها بالتسخط فلا تنال إلا السخط! فاجعل خوفك من تضييع الود الذي بينك وبين الله، والوقوع من ثَمَّ في الوحشة.. اجعل خوفك هذا حاجزًا لك عن السخط.
SSSSS
في إحدى زيارات شقيقتي لي في السجن قالت لي أنها لمست في الزيارة السابقة مني فتورًا وحزنًا. فقالت لي أريدك أن تكون قويًّا كما عودتنا وألا تفتر أو تخاف. فرددت عليها بقصيدة بعنوان (مَنْ الـمَسجون؟!) أجسد فيها بعض المعاني السابقة:
جـــاءتْــني أخــتيَ فــــــي سِجــني قــالـتْ قـد جـئـتُكَ نــاصـــــحـةً إيــــاكَ فــــــلا تَيْـــــأسْ مَــــــلـلًا تَـــــزدانُ ثـــبـــــــاتًا وَوَقـــــــــــارا لأزيـــــــدَ بـعــــزمـكَ إصـــــــرارا واصــــــبر وامتَــلِئ اسْـتـبـــشارا لنْ ترقـــــــى فـــــــــي درجـــاتِ الــمــجــدِ إذا لـم تــلـعــقْ صَـــــــــــبَّـارا أَأُخــــَيَّةُ لا تَـخْــشَـــــيْ شيـــــــئًا فَشَـقــيـقُــــكِ يعْرفُ ما اخـتـارا لا بـــــد لــمــن قـــد حـــــمــــل الــــــدعـــــوة أن يتــحــــمل أضــــــــرارا
مــــــــــا كـــــان الله ليَتْــــــرُكَــــنا حـــــــتى نَتَمَـــــــيَّـــزَ أبــــــــــــرارا
ويـــســــــــوقَ إلى دركــاتِ جــهـــنــــمَ من قــــــد نــــافــق وتمــــــــارى
SSSSS
إن كنتُ لَفِي عَيـــْشٍ رَغَــــــــدٍ لا أخـــشى فــــــــــيـــــــــه الأكـــــــــدارا مُمْتَلِئَ الجَيْبِ كثـــــير الصَّحبْ حُـــــــرًّا أَتــــَنَـــــقَّلُ أســــــــــفارا
ورُزِقْتُ قُــــبيـل السـجن بــتَوْأَمَــــــتَـــيْنِ اسْـــتَبتَـــا الأنــــــــــــظـــــارا
وإذا بي لا أُبـــصِــــر حــــولـــــــــي إلا قُـــــــضـــــــــبانًا وجـــــــــدارا
وأســـــــــاقُ وقـيدٌ فـــــــي رِجْـــــــــليَّ لألــــــــــــقَى حكمًا جَـــــــــــــوَّارا والتــهمةُ أنـــــي قـــد ســـــــــــاعــدتُ رفـــاقَ المِــــــلَّــــــةِ إيثــــــــــــــارا
إنْ نِمْـــتُ حــلِمْـــتُ بـأطـــــفالي لـــو كـــان عــــــنائـيَ للدنــيــــــــا وذكـــــــرتُ إيـــــابيَ والـــــــــدارا لَلَقِيــــتِ شَــقِيــــقَـكِ خـــــــوَّارا
SSSSS
لكنــــــــي أرجـــــــو مِـن صـــبري ولأَشْـــــرَبَ كأسًا مِـــن كافـــــورْ في قُــــربِ الرحـــمـــن جِـــــــوارا أو عســـــلًا يــجــــــري أنــــهــارا
وأُلَــبِّــــيَ مــــا قــــــد أمـــــــــر الـــــربُّ عبــــادهُ: كــــــونـــــوا أنصــــارا
مســـــجـــــونٌ لكــــنْ في صدري أقــــــــــــــرأُ و أُدَوِّنُ أفــــكـــــــــارا بــســتــــــــانٌ يزْخَــــرُ أزهــــــــارا وأقــــومُ أُصـــــلـي الأسـحــــــارا
أَتَــــــــــــدَبَّرُ إذْ أتـــــــــلـــــــــو القـرآنَ لِكَيْ أكــــتـــشفَ الأســــــــــــرارا وأُؤَلِّــــفُ في أسبـــابِ الصـــــبـرِ لـــــيرْضَـــى الـــــــــنــــاسُ الأقـــــدارا
وتُحَــــلِّقُ روحـــــــيَ آخــــــــــــــذةً أتـــزودُ فــي سِجني التـــــقــــوى مِن حُـــبّ الرحـــــمن مــــــــدارا وعـــــــدوّي يــحـــــــــمــلُ أوزارا
SSSSS
كم مـــــــن أحــــرارٍ أُبْصِـــرُهُــــمْ لكنْ قـــد دَرَجــــــــوا أنْ يَهِـــــنوا قـــد هجــــروا الدينَ اسِتهْتَـــارا إنْ غَضِــــبوا ليسَ لأجْـــــــلِ اللهْ وَلِنــــارِ جَــهَنَّــــمَ مـــا اهــتــمــُّوا بَـــــدَلًا مــن كُــرة الأرضِ قَـفَــوْا كَسُكـارى، مـــا هُــــــمْ بِسُكارى ذُلًّا ويعـــــيــشــــوا أصْــــــفـــارا وبِـــجِـــدٍّ عبـــــــــدوا الدينــــــارا لكنْ مـــــا اسْـــتَـغْـلَوا أسعـــــارا لــكنْ أنْ يـَجـِــــدوا الســـــــولارا كـــــــرةً لِفَــــــــــريقٍ يتـــــبــــارى فَـــمَــــنِ المسجـــونُ أنا أمْ هُـــــمْ إنْ زدنــا الأمـــــــرَ اسـتـبــصــارا
SSSSS
أَأُخـــــــَيَّةُ لا تخـشَــيْ شـــــيــــــئًا فَشَـقـــــيقُــكِ لـمْ يــفــعل عــارا هـــل عـــارٌ أنْ نَـــــــدْفـــعَ إنْ دُنِّـــــــــسَ عِـــــــرْضُ الأُمَّــــــةِ وَنَغَــــــارا
لـــمَّــــــا أَسْـرَرْنـــــا الإنـــكــــــــارا
لَـمْ نُـــعْـطِ النَّـــشْءَ بــأُمَّــــتِنــــا
فاتَّـخّــــــذوا رَمْــــــزَ بطولـتــــهم
وخَــشِـــينــا بَـطْــشًا وإســــــــارا
قُـــــدُواتٍ تَمْتَلــــِئُ فــــخــــــــارا
مَـــنْ جَــحَـــــــد الله كجـــــيـفارا
أَيليــــقُ بنــــا أتـــبــــــــاعَ محـــــمـــــــــــدَ أنْ نَــتَـــمَــــثَّـــــلَ جيـــفــــــارا
مَــــنْ عَــــبـــــــدَ الله الـــقَـــــهَّـارَ مـــــا كــان يُــــجــــاري التيـّــــارا
مـــــنْ طَـــلَـبَ العــــــــــزةَ عنــد ســـــــــوى الرحمــــنِ يُبَوِّئْهُ خَــسـارا
فَلِبَــيْــــتِ عنـاكبَ قَدْ لَـجَــــؤُوا بِدَمـــــــارٍ يَـــرْجـــــون عمـــــــــارا
SSSSS
أَرَأَيْــــتِ لــــتُــــــونُسَ إذْ حــاربَ فَيُـــطــــــــارِدُ كــلَّ محــــجّـــــبـةٍ يَتَـــــمـــنَّى لـــو كـان بأســـــفــــلِ ولِرُبـــع القـــــرن يــــوالــــيـــــهمْ إنْ دخــــلوا جُـحْــرَ الضَّبِّ دخلْ مُجـــرمـــــها الرحمــــنَ جِـهــــارا مِـنْ أجْــلِ اسـترْضـاءِ نـــصــارى أحــــذيــــةِ الكـــفّــــار غبــــــــارا يــرجـــــو فـــي الحكمِ استـقرارا يتـــــــمـــــلـــــــقُ ذُلًّا وَصَـــــغارا
SSSSS
*كتبت القصيدة أول عام 2011 بعد أحداث تونس وفرار (زين العابدين بن علي) منها.
أَأُخـــــــَيَّةُ لا تـخـــشَــيْ شيــــــئًا واللهُ يــــــــــدافـــــــعُ عـــنّــــــا إذْ فَأخـــوكِ تَــوَلَّــــــى الجـــــبّـــــارا قَــــدْ وعـــــدَ الفُــجَّـــــارَ تَبــــــارا
خلاصة هذه المحطة:
اصبر في بلائك، وأحسن الظن بربك وبحكمته ورحمته.. فإن نجحت في ذلك فاعلم أن الله أراد بك خيرًا.