مرت أربعة وأربعون عامًا من عمري.. تقلبت خلالها في نعم الله عز وجل.. في حلمه وكرمه وستره ورحمته.. بما يعقد اللسان.. مــا مــن بــلاء عـانـيـتـه إلا ويـترفق بي الرحمن فيه، ولا يُـحَـملني ما لا طاقة لي به، بل يشعرني بقربه ومَعِيَّته ويجعل لي في ثنايا البلاء خيرا عظيما، في ديني ونعيم قلبي ودنياي..
كانت عيني ترِقُّ أحيانًا، وأنا في داخل بلائي، وأقول: (ماذا فعلت حتى يحصل معي هذا؟!)، (لماذا أنا يا رب؟!)، (والله يا رب لا أستحق).. أعني: ماذا فعلت حتى تحصل معي هذه اللطائف من رحمة ربي؟! لماذا أنا ينعم علي ربي بهذا الشكل؟! لا أستحق هذا الإنعام، إي والله لا أستحق.
وكانت تراودني الهواجس أن يكون هذا الإنعام استدراجًا، وأنني في يوم من الأيام سوف "أُعاقَب" على تراكمات تقصيراتي وأُجرد من هذه النعم لأعود إلى حجمي الحقيقي كإنسان لا يستحق كرم ربه، وأفقد الإحساس بالحظوة عنده سبحانه. لكنَّ يوم العقوبة القاصمة هذا لم يأتِ، بل لطف يتجدد وكرم يَغْمُر وإنعام يزداد! وإذا جاء بلاء فَمَعَه تصبير ولطف.
بل وأدركت أن خوفي غير المتوازن من أن يكون الإنعام استدراجًا كان سوء أدب تجاه ربي عز وجل، فالتعامل مع هداياه تعالى كأنها "مسمومة" يعكِّر على مقام الشكر.. فأحمده عز وجل على أنه لم يعاملني بسوء ظني هذا !
الخوف من الله مطلوب، لكن مع محبة لله تغمر قلب العبد.. مطلوب، لكن ليدفعك إلى إصلاح أوضاعك، لا ليعكر عليك نعمه سبحانه ويحرمك بلوغ مقام الشكر.
كثيرًا ما تساءلت:
(لا أستحق هذا الكرم كله من الله !!)، فكأني أسمع الجواب: (صحيح، أنت لا تستحقه.. لكنه تعالى أكرم من ألا يسعك كرمه)
(أعمالي قليلة لا توازي نعمة الله علي!)
(صحيح، لكنك تتعامل مع الودود الشكور سبحانه).
(لكن هناك مَن أحسبهم خيرًا مني، فلماذا أنا؟)
(ليس شأنك-"مش شغلك"-، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. يؤتيهم وإياك من فضله ولا يظلم أحدا)
("مش شغلي"، طيب.. لكن ما هو شغلي إذن؟ كيف أعبر لربي عن امتناني وأستديم نعمه؟)
(أَفِض على الناس معاني المحبة وحسن الظن بالله التي تعيشها (وأحسن كما أحسن الله إليك)، وحدثهم عن رب ودود حليم بَرٍّ كريم {وَأَمَّا بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثۡ ١١} [الضحى: 11]، وكن من الشاكرين).