ستتعب إن قاومت هذه الحقيقة ومهما غالبتها ستبقى هي الحقيقة.. ليست الدنيا دار جزاء. فلو كانت دار جزاء لما قتل أنبياء كزكريا ويحيى عليهما السلام، ولما عذب عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى الموت كياسر وسمية، دون أن يروا قائمة تقوم للإسلام، ولما حصل لأهل الأخدود ما حصل.
لذا فعندما تتفكر في فوائد الـــبــلاء فــلا تحصر نــــظـــرتك في الدنـــيــوية مــنـــها.. فــالـنفس تبحث دومًا عن ثمرة عاجلة: {بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا ١٦ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ ١٧} [الأعلى: 17،16].
وإن لم يأت الفرج المترقب حتى الممات فإن القصة لم تنته {وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٞ شَدِيدٞ وَمَغۡفِرَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٞۚ وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلۡغُرُورِ ٢٠} [الحديد: 20].
وقد خطَّأَ الله تعالى النظرة القاصرة التي تعتبر إغداق النعم في الدنيا إكرامًا من الله للإنسان والابتلاء إهانة: {فَأَمَّا ٱلۡإِنسَٰنُ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ رَبُّهُۥ فَأَكۡرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَكۡرَمَنِ ١٥ وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ ١٦ كَلَّاۖ} [الفجر: 15-17].. فإنما حقيقة الإكرام والإهانة في الآخرة، أما الدنيا فدار بلاء . في قصة يوسف عليه السلام، بعد أن بيّن الله تعالى أنه مكّن له في الأرض جزاء إحسانه قال تعالى {وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ٥٧} [يوسف: 57].. خير من نقله من ظلمة السجن إلى كرسي الحكم. فحتى إن جوزيت خيرًا في الدنيا فعلق قلبك بأجر الآخرة الأعظم.
في بيعة العقبة الثانية أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار التزامًا بالتضحية بكل شيء.. التزامًا يعرضهم لابتلاءات في الأنفس والأموال والأولاد.. فما المقابل الذي وعدهم به إن قبلوا؟: ((ولكم الجنة)).. فالجزاء أخروي.. صحيح أن نصوصًا أخرى وعدت بجزاء دنيوي كذلك (كالآية 55 من سورة النور).. لكن هذا الجزاء على مستوى جماعة المؤمنين أما الأفراد فإن كثيرين منهم ماتوا ولم يستمتعوا به..
ويبقى نوع من النعيم يمنحه الله لكل مؤمن عاجلًا في هذه الدنيا زادًا يعينه على سلوك الطريق بمشتقاته؛ وهو طمأنينة النفس والاستبشار: {أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٦٢ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ٦٣ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ لَا تَبۡدِيلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ٦٤} [يونس: 62-64]..
إذا لم يستقر هذا المفهوم في نفس المسلم: أنه (ليست الدنيا دار جزاء)، فإنه ستسوء منه الظنون عندما يقارن وضعه الدنيوي بأوضــاع مـــن لا يــؤمــــنون بالله تــــعــــالى.. لـــذا فــقـــد نهانا الله عن إجراء هذه المقارنات الدنيوية: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ زَهۡرَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا لِنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَرِزۡقُ رَبِّكَ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ ١٣١} [طه: 131].. فارفع رأسك إلى السماء أيها المؤمن وتعرض لنفحات الجنة ولا تنزل ببصرك إلى ما فيه هؤلاء، فإنما هو فتنة لهم واستدراج.. قال عليه الصلاة والسلام: ((أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لهمْ طَيِّبَاتُهُمْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا)) (البخاري).
ومما ورد عن الحسن البصري رحمه الله: (من لم يتعزَّ بعزاء الآخرة تقطعت نفسه على الدنيا حسرات ).. نعم! سيتحسر على كل متاع دنيوي يفوته، خاصة إذا قارن نفسه بغيرة.. أمــا الـمــؤمــن فــيــوقــن بــأن مـــا يــفــوتــه في الــدنــيـــا قـــد ادخـــر لـــه أضـعافه في الآخرة: {قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٧٧} [النساء: 77].. وبأن تــوفــية الأجـــور لا تكون إلا يوم القيامة: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ} [آل عمران: 185]..