→ جميع المقالات
حسن الظن بالله - الحلقة 36 - إنها لحظة.. عندما يشتد اليأس فيعظم الرجاء
١٤‏/٧‏/٢٠١٤

"ما لنا إلا الله"؛ عبارةٌ أصبحت في حسِّ كثير منا مرادفة لعبارة: "ما باليد حيلة"، عبارةُ: من لم يجد غُنيته عند البشر فاضُّطر أن يختار الله! أصبحت عبارة إشهار إفلاس! ذلك مع أنَّ الأصــــل أنَّ مـــن لم يكن لـــه إلا الله فــما فقد شيئًا، ولا احتاج إلى شيء؛ {أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبۡدَهُۥۖ} [الزمر: 36]..! وأنَّ من كان معه كل شيء إلا الله فما معه إلا الباطل الذي لا يُسمِن ولا يغني من جوع.. ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ

إن ما يحصل معنا عند نزول البلاء هو أننا نلجأ إلى الله بدايةً، لكنَّنا ما نلبث أن نُدرك أنَّ هذا اللُّجوء حتى يكون صادقًا مُثمرًا لا بد له من تَبِعات؛ فمِن تَبِعَاته أن نبحث عن كل تفريط فرَّطناه في جَنْبِ الله فنُصحله، وعن كل ثغر في حياتنا فنسُدَّه، وعن كل ذنبه فنتوب منه..

ومِن تبعات هذا اللُّجوء أن نُقبل على قلوبنا، ونُفتّش عن أمراضها فنعالجها، وسنجد حينئـذٍ أننا كنا قد أهملنا قلوبنا لسنوات فعادت خَرَابًا بَلْقَعًا خاويةً غافلة، قد ضعُفت فيها معاني محبَّة اللهِ وصِدق التوكل عليه والخشوع بين يديه والذُّل له والتَّعلُّق به والشَّوق إلى لقائه! فنجد أنه لا بد من إزالة أشواكها وتقليب أرضها وبَذْرِ آيات الله فيها، وسِقايتِها بماء القيام والصيام والدعاء.

نعم؛ سنكتشف أن اللجوء إلى الله والفرار إليه والاعتصام بحبله هذا كله تبِعاتُه وله ثمنه.

لكننا نريد التخلص من البلاء بسرعة! وعملية ترك الذنوب وسد الثغور وقلع الأشواك وبذر البذور وسقيها وانتظار إنباتها عملية تحتاج إلى وقت، والوقت يمر، وليس في صالحنا، فما الحل؟

الحل الذي نختاره عادةً هو السَّعي في أسباب أرضيَّةٍ تبدو أسرع نتيجةً وأخفَّ حِملًا من عملية اللُّجوء الصَّادق إلى الله؛ فنَنْوي أن نسير في هذه الأسباب جنبًا إلى جنب مع عمليَّة اللُّجوء إلى الله وتبِعاتها، وأيَّتهما سَبَقت في رفع البلاء فبِها ونِعمت، وأما تَبِعاتُ اللُّجوء إلى الله؛ ففي العُمر فُسْحةٌ لاسْتِكْمَالِها !

وهنا يبدأ الانحراف؛ عندما نَكْسلُ عن تحمُّل تَبِعات اللُّجوء إلى الله فنبحث عن بديل! نخدع أنفسنا بأن هذا البديل سبب، وأنَّ الله أمرنا بالأخذ بالأسباب. نعم.. الأخذ بالأسباب محمودٌ عندما يصدُقُ مِنَّا اللُّجوء إلى الله، ونصبِر ونُصابر لإصلاح أنفسنا، فلا يكون في القلب تعلُّقٌ إلا به تعالى.. لكن عندما يكون سعينا في الأسباب نتيجةً لاستِطالتنا طريقَ اللُّجوء إلى الله، ولِكَسَلِنا عن تحمُّل تبعاتها؛ فإنَّ هذه الأسباب تُصبح في حِسِّنا بديلًا عن الله، فتُزاحم هذه الأسبابُ اللُّجوءَ إلى الله في قلوبنا، وتحتلُّ من مساحاته، وتصرف عنه وقتنا وجهدنا وعاطفتنا وتفكيرنا، فنُصبح نفكِّر في هذه الأسباب الماديَّة أثناء صلاتنا وقيامنا وتلاوتنا ودعائنا؛ فالظَّواهر مع الله والبواطن مع الأسباب وطرق تحصيلها واستكمالها وخوف فواتها وموانع تأثيرها وبدائلها في حال فشلها، وآخر أخبارها..!

وكلما اكتشفنا أن هذه الأسباب خرَّبت عملية اللجوء إلى الله خدَّرنا أنفسنا بالمعاذير؛ فنقول لأنفسنا: "إن هذه الأسباب مَوْقُوتةٌ بمواقيتَ تَفُوتُ بِفَوَاتِها، أمَّا باب التوبة فمفتوحٌ لا يُسدّ.. إن كان يٌقلقني أني لا أبكي من خشية الله ولا أخشع في صلاتي فهذا ليس بالجديد، عِشت على ذلك سنوات طويلة، ولا شيء يأتي دَفْعةً واحدة؛ لديَّ تحسُّنٌ وإن كان بطيئًا، والله رحيم يرى ما بي وهَوْلَ الأمر الذي يشغلني فسيعذرني، ثم إنني لن أستطيع الإقبال على قلبي لأصلحه وأنا مشغول البال بالأسباب وتقصيري فيها، فَلْأُركّز الآن على الأسباب لأُريح بالي منها، حتى أتفرَّغ لإصلاح قلبي" !

وكـأننا بهذا نتخذ الأسباب "ضمانات" مع الله؛ بحيث إذا قصَّرنا في حق الله ولم نضمن مِن ثَمَّ الفرجَ من جهته أسعفتنا الأسباب..! أتُريد أن تعرِف إن كان هذا الدَّاء دبَّ إلى قلبك؟ حينما تضع رأسك للنوم.. في هذه اللحظة التي تختزِل تقلُّبات كيانك خلال يوم كامل، وأنت تدعو بالدعاء المأثور، ركّز جيدًا، هل تعني ما تقول؟ هل أنت مستعِدٌّ لتحمُّلِ تَبِعات هذه الكلمات: "اللهم أَسْلَمتُ نفسي إليك، وفوَّضت أمري إليك.."؟

إنْ اضطرب قلبك وأنت تقولها وأنت متأمِّلٌ معناها فاعلم أن القلب يضطرب ويخاف عند الكذب! لأنك لا تريد حقيقةً أن تُسلِم نفسك بكُليَّتها إلى الله، بل تُريد ضمانات الأسباب مع الله!

لن تشعر بالطُّمأنينة إذا أَسْلَمتَ نفسك إلى الله وهي مَشُوبَةٌ لم تنوِ بعدُ أن تُقبِل على الله بصدقٍ وتؤديَ حقه.. هذه هي الخطورة، وهنا مَكْمَن الزَّلل؛ عندما يكون التَّعلُّق بالأسباب الأرضية معوِّضًا عن استكمال اللُّجوء إلى الله الذي اسْتَثْقَلنا تَبِعاته، فنظنٌّ أنَّ هذه الأســباب أسرع مفعولًا، أو أضمن نتيجة، أو أَدْفَعُ لعِتابِ أنفسنا مِن اللَّجوء الصَّادق إلى الله تعالى..

ستبقى تخرج من القلب أسبابٌ لتَحُلَّ أسباب، وستبقى تنتقِل مِن سرابٍ إلى سراب، تطلبُ الماء فلا ماء، وتنقلِبُ جبال الأسباب إلى هباء!

ولن تدعُوَ اللهَ بصدقٍ خلال هذه الـمَعْمَعَة؛ فاللُّجوء إلى الله مقامٌ عزيز، يأبى أنْ يُزاحِمَ أو يُزاحَم، فيبقى خارِج القلب ينظر إلى هذه الأسباب التي خَلَت عن الله فاسْتَحَالت باطلًا، ويأبى اللُّجوءُ إلى اللهِ أن يجتمع مع الباطل في قلب واحد..

إنها اللحظة التي تَلْقَنُ فيها الدَّرسَ وتستوعِبُه، وتدرك أنك في سَعْيِك السَّابق كله لم تكن على شيء.. وتيأسُ من الأسباب الأرضيَّة كلها.. وتيأسُ من نفسك ومن قدراتها وذكائِها وتخطيطها.. وتذوقُ مرارةَ ضعفِ قُوَّتك وقِلَّة حِيلَتِكَ وهَوَانِك على الناس.. وتيأسُ من أهلك وعشيرتك وأصـدقــائِك ومُحبِّيك، وتعــلم أنهم -وإنْ أرادوا لكَ الخير- لا يملكون بِذَوَاتهم لك نفعًا ولا ضَرًا.. وتيأسُ من كل الِحبال الأرضيَّة الممدودةِ إليك وتُوقِنُ أنْ لا عاصِمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إلا مَنْ رَحِم.. بل وتيأسُ من أعمالك الصالحة كلها، وتستحي أن تتوسَّل إلى الله بها لأنك تشُكُّ في قَبُولها وقد صَدَرتْ مِن قلبك الغافل..!

إنها لحظة اليأس والقُنوط والقَحْطِ والِإمْحَال مِن كل شيء.. لحظة خلوِّ القلب من كل شيء.. لحظة انهيار الأمل في كل شيء.. كل شيء ! هي اللحظة المناسبة لشعور اللجوء إلى الله أن يَنْقَذِف في القلب !

لقد كان هذا الشعور بالانتظار.. يرى أسبابًا تَحِلُّ وتَرْتحِل، وتنسِجُ في خرابِ القلبِ خيوطَ العنكبوت، فلمَّا خَلَا القلبُ منها جميعًا واسْتَنْفَدَها جميعا، انقذف فيه اللجوء إلى الله، فَمَلَأَه وعَمَر أرجاءه وأنبت خضراءه وجعله ينبض بقوة من جديد، فما يلبث الرِّيُّ أن يَفِيضَ على ساقِيةِ العينين لتنهمِر دُموعُهما من جديد بعد طول جفاف، وتكتمِلُ الحلقةُ بلسانٍ يَلْهَجُ بأدعيةٍ تتدفَّقُ عليه وتتهدَّجُ مع دقَّات القلب ودَفَقَات الدَّمع..

إنها لحظة.. ستعرفها أنها هي عندما تعيشُها..

كلحظة الثَّلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحُبَتْ، وضاقت عليهم أنفسهم، ويئِسوا من كل شيء، وأيقنوا أنْ لا ملجأ من الله إلا إليه، قَذَف الله في قلوبهم وألهمهم: أن توبوا فإني أريد أن أتوب عليكم..

إنها لحظة.. ستعرفها أنها هي؛ لحظةٌ يقرعُ كِيانك فيها قارِعٌ يقول: "الآن! يا قلبُ نبضك، يا عينُ دمعكِ، يا لسانُ دعاءَك.. الآن: اللهُ يريدُ أن يستجيبَ دعاءك"..

إنْ هي إلا لحظة..! ستقول: ما دامت لحظة أيُعقل أنَّ قلبي لم يتعرَّض طَوَال ما مضى مِن بلائي لنَفَحَات تلك اللحظة؟ نعم؛ إنه الشيطان عندما لمس منك تكاسلًا عن تبِعات اللُّجوء إلى الله هَجَم عليكَ لِيَجْتَالَكَ عن طريق الله قائلًا: " أين تذهب؟ طريقك الذي تهُمُّ بسلوكه طويل؛ هاهنا خصْبٌ قريبٌ فارْتَع".. فأسْلَمْتَهُ لِجام قلبكَ فنقَّله بين مَرَاتِع الجَدْب، ولو عصيته في أول الطريق لوصلت!

إنه الشيطان؛ رآك تقرع باب الفرج الحقيقي، فلما لمس منك مَللًا وفُتورًا قال لك: "هاهنا مَخْرجٌ سهلٌ فاتَّبعني".. فقادَك في دِهْليزِ الأسباب فأضعت فيه وقتك وجهدك، وكلَّما هَمَمتَ بالرجوع إلى باب الفرج الحقيقي قال: "رويدًا.. أُبصر آخر هذا النفق نورًا" .. ولا نور!؛ إنما يصدك عن السبيل ويزعم أنه هاديك، ولو عصيتَهُ أوَّل الأمرِ ولَزِمْتَ قرع الباب لفُتح لك..

صحيحٌ أن اللُّجوء إلى اللهِ لهُ تَبِعات، وصحيح أن قَلْعَ الأشواكِ من القلب وبَذْرَ البُذور فيه يحتاج وقتًا وجهدًا، لكنَّه أقلُّ بكثيرٍ من الوقت والجهد اللذَيْن ستُنفِقُهما هباءً في دِهليز الأسباب الخالية عن الله.. ومع الله ستجِدُ الأُنس والطمأنينة، ومع هذه الأسباب ستجد الخوف والخذلان، ثم في الأولى تصل وفي الثانية لا تزداد إلا تِيهًا..!

فلماذا إذن نبقى نُعلِّق قلوبنا بالأسباب الأرضية وبالمخلوقِين ليُنَجُّونا من مَضَائِقنا؟ وندفع تكاليف ذلك من وقتٍ وجُهدٍ وتمزُّق نفس وتشتُّتِ فِكْرٍ وغُصَّةٍ وهمٍّ وقهر وخيبة أمل في المخلوقين؟!

لماذا لا نتَّعِظُ بغيرنا؟

لا بأس، إنه الطَّبع البشري؛ نُصِرُّ على التجربة بأنفسنا، حتى إذا عَرَكَتْنا وذُقنا مَرَارتها أصبحنا أكثر حزمًا وأقوى عزمًا في صّدِّ الشيطان إنْ حــاول صـرفنا عــن باب الفرج الحقيقي وقلنا له: "غُرَّ غيري.. غُرَّ غيري..".

لكنَّ المصيبة إنْ لم يتَّعِظ أحدنا بتجارب نفسه وأصرَّ على خوض الدِّهليز -دهليز الأسباب الأرضيَّة الـمُنقطِعة عن الله، دهليز التَّعلق بالمخلوقين- في كل بلاء جديد، ولا ينبغي للمؤمن أن يُلدغ من جُحرٍ مرتين..!

فَسَلْ اللهَ أن يرزقك لحظة اليأس والرجاء هذه؛ اليأس من المخلوقين، والرجاء في الخالق سبحانه..

إنها لحظة.. لكن ما أعزَّها من لحظة وأندَرَها! إنها لحظة.. إن عاشها القلب انتفض بجبال الهموم المتراكمة عليه فينسِفُها ربي نسفًا.. إنها لحظة.. لكنها تنقل القلب من وادي الضياع السَّحيق ليتعلَّق بالعرش.. إنها لحظة.. تنقلك من حضيض الفشل إلى قمة الأمل، ومن وحشة اليأس إلى بهجة الأُنس.. إنها لحظة.. تنشِلك من المخاوف التي تنهشك من كل جانب إلى كنف الله حيث الأمان.. إنها لحظة.. ظننتَ قبلها أنك فقدت كل شيء، لتكتشف بعدها أنك وجدت كل شيء.. إنها لحظة.. وكأنَّها صيحة في مقبرة القلب أَحْيَت مَوَاتَه..

إنها لحظة التعلُّق بالله، بالله لا غير، وهي هي والله لحظة الفرج، فرجٍ عن قلبك بإحيائه بعد مَوَات، وفرجٍ من كربك بالطريقة التي يشاؤها الله ويُرضيك عنها ..

إنها لحظة كلحظات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. صحيحٌ أنَّ حياة الأنبياء كلَّها تعلُّقٌ بالله، لكنَّ هذا التعلق كان يتمحَّصُّ ويصفو ويتجرَّد ويبلغ الذّروة في لحظات فيأتي الفرج.. كلحظة نوح إذ دعا ربه {أَنِّي مَغۡلُوبٞ فَٱنتَصِرۡ ١٠} [القمر: 10]..، فأنجاه الله ومن معه في الفُلك.. كلحظة إبراهيم إذ قال: "حسبي الله ونعم الوكيل"؛ فجعلَ اللهُ النار بردًا وسلامًا عليه.. كلحظة يـونـس إذ قــــال: {لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٨٧} [الأنبياء: 87] ، فأنجاهُ اللهُ مِن الغمّ وأنجاه من بطن الحوت.. كلحظة موسى إذ قال: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهۡدِينِ ٦٢} [الشعراء: 62]، فنجَّاه الله وقومه من بحرٍ أمامه وعدوٍّ وراءه .. كلحظة أيوب إذ نادى رب: {أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ ٨٣} [الأنبياء: 83]، فكشف اللهُ ما به مِن ضُرٍّ وآتاه أهله ومثلهم معهم.. كلحظة يوسف إذ خلا قلبه من التعلُّق بالملِك وبالخروج الـمَشُوبِ من السجن فقال: {ٱرۡجِعۡ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسۡـَٔلۡهُ} [يوسف: 50]، فأنجاه الله من السجن وآتاه مُلكًا.. كلحظة يعقوب إذ قـــــــال لـــبـنـيــه: {وَلَا تَاْيۡـَٔسُواْ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِۖ} [يوسف: 87]، فردَّ الله عليه أبناءه وبصره .. كلحظة محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال: {لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ} [التوبة: 40]، فأنجاه الله من سيوف المشركين التي كانت فوق رأسه في صحراء لا قرابة فيها فيدفعون عن رسول الله ولا أتباع..

إنها لحظة اليأس من المخلوقين، فلا يبقى إلا الرجاء في الخالق، فيأتي الفرج سريعًا.. {حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسۡتَيۡـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُۖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ ١١٠} [يوسف: 110]..

إنَّ فرج الله قريب.. قريب جدًّا؛ لأنه لا يَحُــــولُ بـيـنـنا وبينه إلا هذه اللحظة، إنما نحن الذين نبتعد عنه بالدخول في دهاليز الأسباب الخالية عن الله والتَّنقُّل بين مَرَاتِعِها، عــنـدما نَـسْتَثْقِلُ -بضعف بصائرنا وقلة صبرنا- تبعات اللجوء إلى الله! لذا فالصبر المطلوب في البلاء ليس صبر التَّجلُّد أمام الهمّ فقط؛ بل الأهمُّ منه الصبر في أداء تبِعات اللجوء إلى الله سبحانه .. إنها لحظة اليقين الخالص بصدق الله، والثقة المطلقة بقدرته على تنجيتنا مهما أمْحَلَتِ الأسباب، وبأنَّ من لزِم قرع الباب يُوشِك أن يُفتح له..

لحظة اليقين بأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك.. لحظة تنشِلك من الدِّهليز لتضعك أمام باب الفرج من جديد..

لذا فإذا عشنا هذه اللحظة وأيقنا فعلنا بأنه ما لنا إلا الله، فيالَسعادتنا وهنائنا وراحة بالنا! ولن تكون عبارةَ إشهارِ إفلاس؛ بل إعلان غنًى واكتفاء.. ولن نقولها بضعف وحزن وخوف، بل سنقولها بثباتٍ واعتزازٍ واستبشار؛ لأن من لم يكن له إلا الله فالله حسبه ونِعم الوكيل، ونِعم المولى ونِعم النصير، وحينئذ عندما نضع رأسنا لننام ونقول: "اللهم أسلمتُ نفسي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك.."، سيرجُف قلبنا؛ لكنه هذه المرة رَجَفان المحبة لله والأُنس به بعد طول غفلة عنه..

لقد عِشتُ شخصيًا هذه اللحظة عندما غُيِّبْتُ عن أهلي ظلماً.. كان يُؤرِّقني أثناء تغييبي هذا خوفي على والِديَّ أن يصيب أحدَهما شرٌّ في غيابي، والمشكلة أنني كنت قد قصَّرت معهما مِن قبل في تكريس الوقت والجهد الكافِيَيْن في إسعادهما. كثيرًا ما كان انشغالي بالدعوة وأمور نافعة، لكنَّ عدم الالتزام بالأولويات هو في حدّ ذاته خطأ ينبغي للإنسان أن يستغفر منه؛ فالله عز وجل فرض علينا برَّ الوالدين والتفنُّن في ذلك؛ {وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ} [الإسراء: 23]، فلا عُذر لك في أن تنشغل عن بر والديك بأمور أخرى هي محبوبة لله عز وجل، فالشيطان قد يَقْنَعُ منك بأن يُلهيك بالـمَفضول عن الفاضل. لذلك في تغييبي كانت تراودني المخاوف ألَّا أُدرك أحد والديَّ أو كليهما.

تعلَّق قلبي بالأسباب الأرضية.. كان يبدو هناك حبالٌ كثيرة ممدودة ستُنجيني من بلائي، لكنَّ هذه الحبال قُطِّعت فجأة، والأسباب انهارت فجأة، فوجدتُ نفسي في لحظة من اليأس من كل شيء، كل شيء أرضيّ، كل شيء ماديّ.. وفي هذه اللحظة تعلَّق قلبي بالله عز وجل تعلُّقًا صحيحًا..

كتبت في أثناء تغييبي قصيدة تعبّر عن هذه اللحظة..

يُكدِّر صَــفْــوَ نَـفسِي طــولُ أَسْــــرِي أحِــــــــنُّ إلى عِــــــــــيَــالي أنْ أَرَاهُـــــم ولي أَبَــــــوانِ قــــد بــــلــــغــا مَـشِـيبًا فـــهــــذا والـــــدي مُـــضــنًى قــــعيدٌ ولـــي أمٌّ تُــكــابِـــــــدُ مـــــــا أُعــــــــاني ويَخــنــقــني الأَسَى ويضـــيقُ صدري أُلاعِـــبَـــهــمْ، أضُمَّهمُ لــحِـــــــجـــري مِـــــنَ الأمــــــراضِ قــد بُـلـــــيا بضُرِّ تَضَاءلَ جِسمه بـخـــــريــفِ عُــــــمْرِ تــكــادُ تــــذوبُ مِـــنْ كَــمَــدٍ وقــــهرِ

وأمُّ عِــيــاليَ الْــتَــاعَــتْ لــفَــقْــــــدي يُـــســـائـــلـــها صِــــغاري عـن غـيابي وقــد أصــبــحتُ عِند الناس رهــــنًا كأني مِتُّ قــبــل بـــــلــوغ حـــتـــفـــي كَــسِــيرٌ بَــالُــــها والــدَّمــــــــع يجـــري فـــيـــغـــلي قــلــبُــها في مِــثــلِ جَـــمْرِ قد اجـــتـــهـــدوا لـــيرمُــــوني بـــشـــرِّ فَـــــوَارَوْنِي -وبي رمـــــــــقٌ- بــقـــبري

SSSSS

وإنّي مـــا ســــلـــكـــتُ ســــبــــيل ربي ولم أحــــسِـــبهُ مـــحـــفـــوفًا بــــوردٍ ولستُ بجــــاهـــــلٍ سُـــنَنَ الـــبَـــلَايا ولــســتُ أخـــافُ مِــن فُـقدان جـــاهٍ ولـــــكـــــنـــــي أخـــــاف مِن المـــــنايا وقــد قـــصَّـــرتُ عـــنـــدهُــما بـحــقٍّ فـــإنْ مَـــاتَا ومـــا اكـــتُـــنِـــفــا بِـــبِرِّي ســـيــبقى ذِكـــرُهُم جُـــرحًا عمــــيقًا وكــنــتُ أبًا لأولادي مُـــــــحـــــــــــــبًّا فلم أُغــــــدِق عــــلــــيهم مِن حـــناني وأحــــسِـــبُهُ خَـــلَا مِـــن كُلِّ مـــــــــــرِّ ومــــفـــــروشًا بـــيـــــاقــــــــــوتٍ ودرِّ ولا مـــــتــــــــذمِّــــرٍ أن جــــــــاء دوري ولـــســــتُ أخـافُ أن أُبــــلى بــفـــقرِ على أبــــويَّ إن فَـــــــجَأتْ بِــــعُــــــقرِ ولستُ مُـــــعــــــــاذِرًا أبــــــدًا بعُــــذْرِ فـــيــــالَـــنَــدَمـــاتي وَضَـــياعِ أمـــري! وكَــسْــرًا في الفــــــؤاد بغـــــير جــــــبرِ ولكني شُـــغِـــلتُ بـــنـــيـــل فخــــــــرِ بـــل اســـتـــقـــبلتُـــهم بكثير زجـــــــرِ

SSSSS

أُقــــلِّـــب نـــاظـــري وأُجِـــــيلُ فِكري لـــجــــأتُ إلى العـــــــباد لينـــقـــذوني ســــــوى إخـــوانَ قد جَهِدُوا لجَهدي حَسِــــيرًا خَــاسِــــئًا قد عَــــادَ بصري لعلّيَ أســـتـــعــــــينُ لرفع جــــــــــوْرِ فــــما أَلْـــفَـــــيْتُ مِن ســـندٍ لظهري ولكن مــــا اســــتـــطاعوا فكَّ أسري فلم يــــرجــــع بـــــما عـني يُـــــــسرِّي

SSSSS

فــــــــلمَّا أَوْصَــــــــدُوا الأبــواب دوني أَنَخْتُ ببــــابكُمْ يــــــــا ربِّ رَحْــــــــلي وقد فــــــــتَّشتُ في عــــــــملي لــعلِّي بِــــفــــعــــلٍ خَــــــالِصٍ ترضــــاهُ ربي فلم أُبــــصــــر سِوى صحَــراء جَدْبٍ وإني نــــــــادمٌ يـــــــــــا رب حــــــــــــقًا وإني قد وعــــدتُــــكَ قَــــبْــــلَ هـــــذا ولــــكــــني أحــــــــــــبك يــــــــا إلـــهي ولم أمــــــــدُدْ إلــــيــــك يــــدًا إلــــهي ظَــــنَــــنْتُ بعــــفوكُم يــــا ربِّ خيـرًا ألا فارْحَــــم ضــــعــــيفكَ يـا إلـــــهي وأرجِــــعــــني إلى أبــــويْ مَــــشِــــيبٍ أجِــــبني إنْ عَلِمْتَ بــــصــــدقِ قــولي على الــرَّحــــمنِ أُقسم كل جَــــهْـدِي أزِل عــــني وعــــــن أخــــــــويَّ غــــمًّا وكاد الــــيأسُ يَسْــــحقُ كُلَّ بِــــشْــــرِ وأرجــــو عندكم جــــبرًا لــــكــــسـري ذَخَــــرْتُ لمـثل ضِــــيــــقي أيَّ ذُخْــــرِ فــــيشــــفعَ عندكم في كَشْفِ ضُــــرِّ ولم أُقــــبل عــــليك ســــوى بوِزْرِي! وأنــــوي تــــوبةً مــــا عِـــشتُ عُمري فــــجُــــدْتَ تكرُّمًا ونَــــشَـرْتُ غَدْرِي وصُــــغتُ بِوُدِّكُم نَــــثْرِي وشِــــعْـري فــــعَــــادَتْ مِن عــــطايـــاكُم بِصِفْرِ فــــــــإني لــــــــم ألــُـــــــــــذْ إلا بـــــــبَرِّ وأســــعـِـــدْهُ بــــيُــــســــرٍ بعد عُـسْرِ لــــتنــــظُرَ كيف إِحــــســــاني وبِـــرّي فــــلا يَخْــــفَاكَ إعـــــــــلاني وسِــــرّي وأعــــلــــمُ أنــــه سَــــــيَـــــفِي بِـــــــبرِّ وبــــــــدِّد لــــيــــلنا بطلــــوعِ فـــــــجرِ

SSSSS

لقد عِشتُ شخصيًا هذه اللحظة، ولكن ما أحوج العالم الإسلامي أن يعيشها! ما أحوج العالم الإسلامي اليوم أن يقطع الأمل في كل شيء؛ أن يقطع الأمل في المخلوقين.. ما أحوج هذه الشعوب حين ترفع الشِّعارات: "ما لنا إلا الله" أن تُدرك معنى هذا الشعار؛ فوالله لئن آمنت به إيمانًا حقًا وقامت بتبعاته وعلّقت قلبها بالله فحسب، والله ليجعلنَّ الله لها فرجًا ومخرجًا..

يا مسلمون.. يا مسلمون.. توكلوا على ربكم، علّقوا قلوبكم برجمته، لا تعلّقوا قلوبكم بالمخلوقِين، لا تلجأوا إلى غير ربكم سبحانه وتعالى، اصدُقوا في اللجوء إلى الله، اطرحوا أنفسكم على عتباته سبحانه..

{إِن يَنصُرۡكُمُ ٱللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمۡۖ وَإِن يَخۡذُلۡكُمۡ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنۢ بَعۡدِهِۦۗ} [آل عمران: 160]..

والله تعالى أعلم وأحكم.. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..