ما رأيك في الطائفة التالية: إنها طائفة من أبناء المسلمين اسمها (الطائفة الحبشرطية)..
ماذا تقول هذه الطائفة عن الله –عز وجل- في قاموسها؟ تقول: "الله -سبحانه وتعالى- هو الذي فرض علينا الوجود في هذه الحياة الدنيا، وفرض علينا واجبات، منعنا من محرمات، وبيده إسعادنا أو إشقاؤنا. ولكن نفوسنا تستثقل بعض الواجبات وتهوى بعض المحرمات، لذا فإن علينا أن نتعامل مع الله بموازنة، بحيث نفعل من الواجباتِ المقدارَ الذي يضمن استمرار نِعَم الله علينا مع أقل قدر من الثقل في نفوسنا، ونفعل -أيضًا- من المحرمات بالمقدار الذي يحقق رغباتنا لكن دون تعريضنا لقطع نِعَم الله أو نزول عقابه". تُرى، هل تعريف الطائفة الحبشرطية لعلاقة الإنسان بربه تعريف سليم؟ هل هكذا ينبغي أن يُسلم نفسه وعاطفته لله رب العالمين؟ هل عرفتم من هي الطائفة الحبشرطية؟ إنها في الواقع كثير من جموع العالم الإسلامي، لا يقولون ذلك بألسنتهم، لكن لسان الحال أبلغ من لسان المقال! بل لعلك -وأنت تقرأ هذه الكلمات- ستجد نفسك منتسبًا ضمنياً إلى هذه الطائفة! إن هناك صفاتٍ في نفوسنا تبدو خطورتها عندما نشخصها ونعبر عــنــها بــعـــبارات لا مــجـــامـــلــة ولا مــداهنة فيها.. قد نستنكرها ونستغربها لكن الحقيقة المرة أنها موجودة في نفوسنا وبدرجات متباينة. لذا، دعونا نتعمق في تحليل النفسية الحبشرطية؛ لنرى إن كانت مختبئة في ثنايانا، ولأية درجة؟ إن الحبشرطي يتذاكى ويجري التجارب في تعامله مع ربه سبحانه و تعالى!.. يحاول أن يصل إلى "نقطة الموازنة" التي يشبع فيها رغباته دون أن تُقطع عنه النعم الدنيوية. إذا ضم إلى حياته وأدخل في "مُكتسباته" معصية و أمرًا مما حرم الله، فإنه يترقب: فإنْ استمرت نعم الله ولم ينزل العقاب فإنه يستنتج أنه ما زال ضمن نقطة الموازنة، ويعتبر هذا المحرم أحد المكتسبات! أشبع رغبته دون قطع النعمة. وأما إذا أدت هذه المعصية إلى قطع نعمة من النعم أو نزول عقاب، فإنه يستنتج أنه قد تجاوز نقطة الموازنة، فيعود أدراجه ليتخلص من المحرم، ويعلن حالة الاستنفار القصوى: دعاء، بكاء، تضرع، اجتهاد، طاعات.. لماذا؟
لأنه يريد عودة النعم ودفع النقم.
{وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنۢبِهِۦٓ أَوۡ قَاعِدًا أَوۡ قَآئِمٗا فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُ ضُرَّهُۥ مَرَّ كَأَن لَّمۡ يَدۡعُنَآ إِلَىٰ ضُرّٖ مَّسَّهُۥۚ} [يونس: 12].. إذن: دعانا لجنبه أو قــاعــدًا أو قائمًا.. دعاء من يريد عودة النعم.. {وَإِذَآ أَنۡعَمۡنَا عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ أَعۡرَضَ وَنَـَٔا بِجَانِبِهِۦ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٖ ٥١} [فصلت: 51] .. ذو دعاء عريض.. دعاء من يريد عودة النعم.
والمصيبة أن نفسية الحبشرطي "تتبرمج" مع مرور الزمن على هذه "الموازنة " بحيث يستقر في حسه أن النعم التي هو فيها من "حَقِّه" وأنه أهلٌ لها: {وَلَئِنۡ أَذَقۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنَّا مِنۢ بَعۡدِ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُ لَيَقُولَنَّ هَٰذَا لِي} [فصلت: 50] .. يعني أنا أستحق هذه الرحمة، أستحق هذه النعم.
وفقاً لهذه "الموازنة " فإن الحبشرطي يحب الله تعالى طالما أنه يمكن استمرار نِعَمِهِ ودفع نقمه -في نظره- بهذه "الموازنة" والمد والجزر، لذلك سمّيناه (الحبشرطي( أي: أنه يحب الله -عز وجل- حبًّا مــشــروطًا، مــشـروطًا باستمرار النعم، مشروطًا باستمرار المصالح الدنيوية خاصة؛ فإن نفسية الحبشرطي قلّما تتذكر الآخرة!
تصور معي الآن ماذا يحصل إن أذنب الحبشرطي ذنبا فابتلاه الله تعالى بما يكره، فتخلص الحبشرطي من هذا الذنب كالعادة وأعلن حالة الاستنفار القصوى: تضرُّع، دعاء، استغفار، طاعات.. لكن الله عز وجل شاء أن يستمر البلاء ويشتد.
سوف يعتمل في نفسية الحبشرطي تساؤل: (لقد أديت ما عليّ أن أفعله، فلماذا لم يفعل الله تعالى المتوقع منه؟(
وفقًا لعادة "الموازنة" التي تكرست في نفسية الحبشرطي فإن من "حقه" عندما يتخلص من المعصية ويجتهد في الطاعات أن يُرفع البلاء ويعود "المصروف" اليومي الذي يأخذه من الله -عز وجل-. فإذا حصل خلاف المتوقع فإن محبته المشروطة لله -عز وجل- سوف تنهار! ولا عجب أن تنهار لأنها أسست على شفا جرفٍ هارٍ، و انبنت على فهم متشوه لعلاقة الإنسان بربه سبحانه وتعالى.
إذًا على أي شيء نبني حبنا لله عز وجل حتى لا ينهار هذا الحب في أية لحظة من لحظات حياتنا؟ هذا ما سوف نعرفه في المحطة القادمة بإذن الله.
خلاصة هذه المحطة:
انظر في نفسك إن كنت حبشرطيًّا تشرط محبتك لله باستمرار النعم الدنيوية.