أيها الأحبة..
هناك مفهوم يجيب عن تساؤلات كثيرة تخطر ببالنا:
S تصدر منا أحيانًا أفعال نستغرب نحن صدورها منا ولا نعرف كيف فعلناها! وقد تؤثر على حياتنا بشكل كبير ونندم عليها أشد الندم. ما سبب صدور هذه الأفعال وكيف نحمي أنفسنا منها؟
S لمـــــاذا تــــمر بنا أوقــــات نحس فـــيها بـفـــراغ القلب وهـبوط المعنويات مع كل ما نحفظه من آيات وأحاديث وأقوال السلف وأبيات الشعر والحكم والاستنباطات والمعاني الجميلة؟
S أصحاب البلايا الطويلة، ما الذي يصبرهم؟ نحس أننا لو كنا مكان أحدهم فلن نصبر، كيف يمكن أن نحقق مثل صبرهم؟
S الله تعالى ينسب أي خـــير يحصل لــنا إلى نفـــسه ســبــحانه في المواطن كلها، هل هذا لأنه تعالى يريد حفظ حقه فقط، أم أن هناك فائدة تربوية عظيمة لنا في ذلك؟
S لماذا ذمت الـــشـــريـــعــة مــدحك للآخــرين في وجوههم؟ ما خطورة هذا المدح؟ ولماذا كان الصالحون الأبرار يخافون منه؟
جواب هذه الأسئلة كلها هو في كلمتين: التبرؤ والاستمداد..
ماذا تعنيان؟ هذا مــــــا سنجيب عنه بإذن الله في هذه الصفحات..
لابن القيم كلام سأرويه مع بعض التحوير لتركيز الفكرة. قال رحمه الله ما معناه: (أجمع العارفون بالله على أن الـتوفيق هو في ألّا يكلك الله إلى نفسك، وأن الخذلان هو في أن يكلك إلى نفسك. وقد يجتمع في العبد خذلان وتوفيق، فيقارن بينهما، ويدرك أن الذي يمسك سماء توفيقه وهدايته أن تقع على أرض خذلانه وضلاله هو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ويدرك العبد حينئـذٍ حاجته إلى أن يقول في كل ركعة: {إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ ٥ ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ ٦} [الفاتحة: 6،5].. ويعلم العبد حينئـذٍ شدة حاجته إلى التوفيق في كل نَفَس وكل لحظةٍ).
إذن إخواني، التوفيق هو في ألّا يكلك الله إلى نفسك. ما معنى هذا الكلام؟ تصور الحياة واختباراتها كمجموعة من الحفر. أنت قد تُعجب بقدرات نفسك وذكائها لأنك استطعت أن تتجاوز بعض هذه الحفر. تحس أن لديك "قدرات ذاتية" تؤهلك لخوض أية تجربة بنجاح، وتقول: -"أنا لست من النوع الذي يضعف أمام الفتن"
ويعزز هذه النظرة مديح الناس لك:
ومثل هذه العبارات من الثناء على جوانب مختلفة من شخصيتك. فتحس لا شعوريًّا بشيء من "الاستقلالية" عن رحمة الله وتوفيقه!: {كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ ٦} [العلق: 6].
فيُعَرِّضك الله لـِحُفرة، ويدعك تعتمد على قدرات نفسك تلك (خليها تنفعك!)، فتسقط في الحفرة سقوطا مُروّعًا، لأنك وُكلت إلى نفسك. فتعلم أن لا نجاة ولا نجاح لك إلا بتعلقك بحبل الله تعالى، حبل رحمته وتوفيقه.
فتتبرأ من قدراتك، وتستمد التوفيق من الله. وهذا معنى التبرؤ والاستمداد. وتتجنب تمامًا قول: (أنا من النوع) و(لست من النوع)..
بل تُدرك أننا كلنا بلا استثناء "من النوع" الذي لا يساوي قشرة بصلة إن وَكَلنا الله إلى أنفسنا! فكم من معتزٍّ بثباته أمام الشهوات وقع يوما فيما لم يتصور أن يقع فيه مما كان يستقذر فاعليه! وكم من مغترٍّ بذكائه انطلى عليه ما لا ينطلي على بسطاء الناس.. لذا، فإنا ندعوا صباح مساء بالدعاء الثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم: (يا حيُّ يا قيُّومُ برَحمتِكَ أستَغيثُ أصلِح لي شأني كُلَّهُ ولا تَكِلني إلى نَفسي طرفةَ عينٍ).
قد يتساءل أحدنا: (لا أستغني عن توفيق الله طرفة عين؟) يعني بمقدار رمشة عين؟ نعم.. انــظــروا إخـــواني إلى أفـــعــال قد لا تستغرق أكثر من رمشة عين، يكلنا الله فيها إلى أنفسنا فيصدر منا أفعال تترك جرحًا عميقًا سائر حياتنا!
وغيرها الكثير.
تصرفات تستغرب أنت وقوعها منك، كأنها إشارات من الله تعالى: أنْ انظر ماذا يكون منك إن وُكلت إلى نفسك وفَتُر حسك بضرورة حاجتك إلى رحمة ربك في كل طرفة عين.
تذكر ذلك لتدعوَ باضطرار ولهفة، لا دعاءً روتينيًّا: (فلا تكِلني إلى نفسي طرفة عين).
أحدنا قد يحفظ القرآن والأحاديث المتعلقة بالصبر والرضا والإيجــابــية وقــصــصَ الــصـالحــين وأبــيات الــشــعــر والحــكــم والاستنباطات والمعاني الجميلة.. ومع ذلك تأتي أوقات لا ينتفع بأي منها! فيحس بضعف إيمانه، فراغ قلبه، هبوط معنوياته، قلة صبره!
وكأنها تذكير من الله تعالى، أنه حتى هذه الآيات والأحاديث والمعاني لا تؤثر بنفسها تأثيرًا ذاتيًّا، بل إن شاء الله نزع أثرها فيك وهوت سماء صبرك وانشراحك على أرض ضعفك وخوفك. وإن شاء الله جعل لآيةٍ وقعًا جديدًا في نفسك وأثرًا عظيمًا كأنك تسمعها لأول مرة مع أنك قرأتها قبل ذلك مئات أو آلاف المرات. هي رجَفات تُشعرك باقتراب هوي سمائك لتزداد لجوءًا.
وأرى أن ذلك مما يساعد في فهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة) (مسلم). يُغان بمعنى يتغشى القلب ما يتغشاه، وكأنها عوارض تـعــرض للنبي (رجفات) ليتذكر أن ثباته وطاقته ليست ذاتية، بل مظهر رحمة ومعية من الله تعالى فيتجدد تَبَصُّره بحاجته إلى ربه سبحانه في كل طرفة عين.
وكذلك صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وصفهم الله في غزوة الأحزاب بقوله تعالى: {هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا ١١} [الأحزاب: 11].. زلزلة تكشف لهم أنهم –وإن كانوا خير الناس وأقواهم وأثبتهم- فنفوسهم ضعيفة إذا وُكلوا إليها. لذلك فَلِمَنْ يتساءل: (ماذا أفعل عندما أضعُف؟).. الجواب: اعترف بضعفك وتبرأ من حولك وقوتك، واستغفر الله عن كل لحظة أُعجبت فيها بنفسك وقلت فيها كقول قارون (إنما أوتيته على علم عندي)! واستـمدد العزم والقوة من ربك عز وجل.
لو أنك كنت مقبلًا على تأثيث بيت وقال لك رجل ثري: (اشتر ما شئت ولا تسأل عن الثمن، أنا أسدد الحساب) فستشتري بلا قلق..
كثيرًا ما كنت أتساءل: (كيف يصبر المحبوس لسنوات طويلةٍ مثلًا؟) وأخاف أن أُبتلى بمثل بلواهم، لأني أنظر في نفسي فلا أجد فيها ما يُصَبرها كصبرهم.
ثم أدركتُ أن هؤلاء قوم منَّ الله عليهم بلحظاتٍ عسيرة! زلزلت أركانهم واستخرجت كل ما فيهم من طاقة فلم يجدوها كافية، فتبرؤوا من قوتهم واستمدوا العون من الله، أي أنهم عرفوا المفتاح، وحينئـذٍ فهم كهذا الذي يخوض أي غمار ومعه "شيك مفتوح" من غني، ولله المثل الأعلى. قلَّ قلقي بإدراك ذلك، لأن سقفي من قبلُ كان نفسي، ونفسي محدودة وصبرها محدود. أما المدد من الله فلا حد له ولا عد، وإنما علينا أن نحسن الاستمداد: {وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ} [النحل: 127]، (واستعن بالله ولا تعجز) (رواه مسلم).
انظر إلى ثبات الثابتين وتوفيق الموفَّقين على أنها مظاهر لرحمة الله وقدرته، ولا تنشغل عنها بالإعجاب بشخوصهم وبمدحهم، فإن مدحهم يغرُّهم وينسيهم شيئاً فشيئاً حقيقة أن ما بهم هو محض توفيق من الله..
بدل أن تقول: "ما أصبر فلانًا" عود نفسك أن تقول: " ما أعظم رحمة الله إذ صبَّر فلانًا".
ولذا كان الصالحون الأبرار يخافون أن يُمدحوا في وجوههم، يخافون أن يبدوا كالـمُقرين لنسبة الناس الفضل إلى ذواتهم، فيكلهم الله إلى أنفسهم فيسقطون.
كان الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا زُكِّي قال: (اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واغفر لي ما لا يعلمون) (أخرجه البخاري في الأدب المفرد وقال الألباني إسناده صحيح).
كل خير يحصل للعباد ينسب الله الفضل فيه دومًا إلى نفسه. كقوله سبحانه:
[النور: 21]..
[النساء: 113]
[البقرة: 64]
فهل هذا لتعريف العباد بحقه سبحانه فحسب؟ بل أحسب أنه تعالى يربينا أيضًا بذلك، فالله تعالى غني عن العالمين، لكنه تعالى يعطينا مفاتيح التوفيق ويدلنا على ما ينفعنا لنستمد العون منه في كل وقت وحين ولا نغتر بأنفسنا وقدراتنا التي لو وُكلنا إليها لضللنا وخسرنا وما زكت نفوسنا.
قال ابن القيم: (فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولا، وكان قيامه بالله ولله، لم يقم له شيء، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها، وجعل له فرجًا ومخرجًا) (إعلام الموقعين).. انظر قوله: (وكان قيامه بالله)، أي معتمدًا عليه وحده سبحانه.
في المقابل، قال ابن تيمية في بعض طوائف المبتدعة: (إذا نظرت إليهم بعين القدَر، والحيرةُ مستوليةٌ عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم، رحمتَهم ورفقتَ عليهم: أوتوا ذكاءً وما أوتوا زكاءً (أي طُهرًا وبركةً)، وأعطوا فهومًا وما أعطوا علومًا...).
إذا لم يكن مـــن الله عــون للـفــــــتى فأول ما يــقــضي عليه اجـــــــــتهاده
فتذكر: تبرّأْ من حولك وقوّتك، واستمدّ العون ممن لا حدّ لقُوَّته سبحانه وتعالى.