رُزقت شقيقتي ولدًا مصابًا بمتلازمة داون، فتعاملت هي وعائلتها معه تعاملًا مليئاً بالدروس والعبر.. ثم شاء الله أن يُتَوفى الطفل عن ثلاث سنين وثلاثة أشهر. وكنت بعيدًا عنهم مقيد الحرية. فكتبت لشقيقتي وعائلتها الرسالة التالية، والتي أسأل الله أن ينتفع بها كل من يُرزق ولدًا من ذوي الاحتياجات الخاصة، بل وكل مبتلًى:
أختي الحبيبة نادية، أخي الحبيب إياد، فادي، يزيد، براء، عمر..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأعظم الله أجركما في حبيبنا حموده. علمت بالخبر أمس، فجاشت في صدري معانٍ كثيرة أحببت أن أشاطركم إياها وفي ختامها سأزُف لكم بشرى بخصوص حموده.
إياد ونادية، لقد تعلمت منكما درسًا بليغًا مما لا يمكن أن أتعلمه من الكتب: درسًا في الرضا ومحبة قدَر الله تعالى.
لا زلت أذكر يا نادية تلك اللحظة قبل ثلاث سنوات وثلاثة شهور حين زرتك في المستشفى لأبلغك بالتدريج حقيقة أن مولودك الجديد مصاب بمتلازمة داون.. لا زلت أذكر ثباتك وهدوءك وأنتِ مـتـعـبة مـن آثــار العــملية حــين فـهـمـت الأمــــــر فقلت: "خير إن شاء الله" ثم غيرت الموضوع، وكان لسان حالك بعدها يقول :"يا ربِّ إن كنتَ رضيته لي فقد رضيت به".
لا زلت أذكر إياد حين سألتني :"هل هذا يعتبر ابتلاءً و لنا عليه أجر إن صبرنا؟ " وكأنك كنت تقصد أن مولودك نعمة وإن كانت نعمة غير تامَّة فليس لك أن تتعامل مع الأمر بغير ذلك. فأجبتك: نعم، مرضه ابتلاء ولك على الصبر عليه أجر بإذن الله. فهزَزت رأسك بصمت واتخذت أنت أيضًا قرار الصبر.
لكن ما بدا منكما بعد ذلك أخي و أختي الحبيبين لم يكن صبرًا عاديًا، بل كان أكمل وأعلى.. كان رضًا وصبرًا جميلًا، جميلًا بمعنى الكلمة.
كان من الممكن أن تصبرا على مضض و تقدما لحموده الحد الأدنى من الرعاية الواجبة وتتمنَّيا في قلبيكما أن "تنتهي المعاناة" بوفاته.. ولو كان هـذا حـالكما لـمـا كنتما آثـمَـين طـالـمـا لا جــزع ولا اعتراض ولا تقصير في الرعاية الأساسية. لكنكما أحببتما مولودكما الجديد حبًّا حقيقيًا. حين علم الله منكما -فيما أحسبكما- رضًا بقضائه، أوجد في قلبيكما مودة ورحمة خاصة لهذا الطفل، مـصداقًا لقـوله تعالى: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ يَهۡدِ قَلۡبَهُۥۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ ١١} [التغابن: 11]، و قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبّرْ يصبّره اللهُ) أحببتما حموده وتمنَّيتما أن يَعيش.
نادية، لا زلت أذكر مشهد وأنت ترهشين لحركات حموده وكأنني أسمع صوتك وأنت تضحكين له من أعماق قلبك وتقولين: (حمودي.. يا حياتي!)
اشتريت له أجمل الملابس، حرصت على أن يكون (أكثر واحد مشخص) في كل عيد، لم أره يومًا عبر السنوات الثلاثة إلا أنظف وأطيب رائحة من كل أولاد جيله، نشرت صوره بفخرٍ على الفيسبوك، صممتِ له أجمل فيديو.. كل هذا مع أنك فعليًا حبِستِ مع حموده، فلم تستطيعي الخروج من المنزل للزيارات والدروس والرحلات لتعتني بحموده وتنفسه، وكثير من الأيام تترددين فيها بحموده بين الأطباء والمستشفيات، وتتابعين جلسات تعليم النطق وتحسين الحركة لحموده.
أصبح حموده هو حياتك، واستعنتِ بالله لتكون حياة جميلة. إياد، لم تكن ترهش كثيرًا لحركات الأطفال في هذا السن، لكنك حفلت بحموده أكثر من غيره.. أنفقت عليه بسخاء دون تردد: عملية القلب، ثم عملية البطارية، ثم نفقات العلاج والتأهيل.. كل هذا بطيب نفس.
وأنتما في ذلك كله تريدان لحموده أن يعيش، أن يكبر، أن يكون أقرب ما يمكن للإنسان السوي، وأن يبقى بيننا.
في حسابات الماديين، “ضاع” الكثير من الوقت والمال والجهد على حموده.. لكن في حسابات أهل الإيمان فإن الوقت والمال والعاطفة من نِعَم اللّه، وحموده أمانة استرعاكما الله عليها، فأنتما سخَّرتما نعمة الله في رعاية أمانة الله عندكما، فَلكم بكل ما بذلتم أجرٌ بإذن الله.
أولادكما نجحوا معكما حين تعاملوا بحفاوة واهتمام مع حموده، خصوصًا براء، الصديق المقرب من حبيب الشعب.
لما أحببتما حموده بصدق أحببناه كلنا بصدق.. لما نظرتما إليه كإنسان مهم نظرنا إليه كلنا كذلك.. ثم لما حزنتما على فقده حزنا كلنا..
لأننا تعلمنا منكم درسًا عمليًّا كنتما لنا فيه جميعًا قدوة.. الدرس أكبر بكثير من حسن التعامل مع الأولاد من ذوي الاحتياجات الخاصة، إنه درس في تحويل الأقدار المؤلمة إلى مظهر رضًا وتسليم ومزرعة حسنات وهو درس يحتاجه كل مبتَلى. لقد رحل حموده، لكن درسه سيبقى.
كان يمكن لعزاء حموده أن يكون فاترًا وأن تُريا فيه مبسوطين مستريحين لانتهاء معاناتكما مع حموده لكن ليس هذا الذي كان.
كم فخرت بك يا نادية حين أخبرني مراد أنك بكيت عند وفاة حموده بــشــدة، ومــع ذلك مــا كان لــك قولٌ إلا (الحمد لله، الحمد لله) تتصبرين بها.
فخرت بكما إياد ونادية حين عرفت من أمي أن عزاء حموده استمر أيامًا، أكثر مما يُعزى بأي طفل، و أن عزاءه كان مشهودًا حضره خلق كثير..
كأنكما فتحتما بالعزاء للناس مدرسة يتعلمون فيها عمليًا الرضا واحترام الإنسان وتقدير نعمة الله تعالى.
أنا حزين على حموده، ومشتاق له "حبيب الشعب"، لكني سعيد لكما جدًّا، وأريد منكما أن تكونا سعيدين لأنكما، فيما أحسبكما والله حسيبكما، نجحتما في اختبار حموده، فأرجو أنه بينما كانت الطبيبة تكتب شهادة وفاته، كانت الملائكة تسجل نجاحكما، بل تفوقكما، في صفحة اختبار حموده، ثم طويت هذه الصحيفة، وارتفعت إلى الله تعالى مع روح حموده.. وستُنشر لكما هذه الصحيفة يوم القيامة.. أسأل الله أن يُبيض بها وجوهكم ويُثقل موازينكم. فاشكرا الله كثيرًا على أن وفقكما في هذه التجربة واسألاه تعالى أن يَتقبل منكما.
عزيزَيَّ إياد و نادية، ختامًا، إليكما البشرى:
حموده نرجو أنكم ستلقونه في الجنة بإذن الله تعالى، فهو نفسٌ بشرية، والأنفس تحيا يوم القيامة وتبقى مخلدة، وهو من أطفال المسلمين. لذا، نَعَمْ، نرجو أنكم ستلقونه في الجنة بإذن الله.. لكنه لن يكون فيها مصابًا بمتلازمة داون، بل سيكون كاملًا جميلًا بجــمال رضـــاكما عـــن قـــضـــاء الله حـــين رزقكما إياه.. لذا، فاحرصا على العمل الصالح ونيل رضا الله تعالى ليُلحقكما به برحمته.
أخيرًا: حموده.. رحل من الدنيا قبل أن يتعلم النطق، لكن لسان حاله يقول:
(بابا و ماما، جئتُ في حياتكما لمهمة: أن أستخرج منكما عبادة الرضا وأرسم معكما قصة صبرٍ جميل.. وأحب أن أقول لكما: أنكما نجحتما في الاختبار.. لذا، فإن مهمتي قد انتهت، وسأرحل الآن.. لكننا سنلتقي بإذن الله.. في الجنة.. محبكم :حموده).
إياد ونادية، أنا فخور بكما، وأحبكما في الله على هذا الدرس العظيم الذي أخجل من نفسي أمامه، وأسأل الله العظيم أن يجمعنا وأحبابنا في الجنة مع حبيب الكل حموده.
محبكم: إياد