→ جميع المقالات
حسن الظن بالله - الحلقة 5 - ابن حبك لله على أسس سليمة
١٤‏/٧‏/٢٠١٤

ذكرنا في المحطة السابقة أن (الحبشرطي) يشرِطُ محبته لله عز وجل باستمرار النعم الدنيوية. إذن؛ هو يؤسس هذا البيت -يعني )محبة الله)- يؤسسه على أسس.. هذه الأسس هي: المال، الصحة، الحرية، الاستقرار الأسري، المكانة الاجتماعية. لكن، لاحظ معي: هذه الأسس الدنيوية جميعها.. أليست قابلة للزوال؟ أليس هذا (الحبشرطي) مهددا في أي لحظة: بالفقر= زوال المال بالمرض= زوال الصحة بالحبس= زوال الحرية بالمشاكل = زوال الاستقرار ماذا سيحصل حينئـذٍ إذا ابتُلي بفقد أحد هذه الأسس؟
سوف يميل البيت ويسقط وينهار. سوف تنهار محبة الله المشروطة في قلب هذا العبد الحبشرطي! لأنه أسسها على أسس قابلة للزوال في أية لحظة. إذن؛ كيف أعرف إن كانت محبتي لله عز وجل مهددة بالزوال في أية لحظة؟ كيف أعرف إن كنت قد أسستها على أسس دنيوية؟ حقيقةً، البلاءُ يساعدك في ذلك جدًّا، وهذه من نعم الله عليك في البلاء. عندما تُبتلى وتدعو الله عز وجل وتطلب منه أن يرفع عنك البلاء ويعيد لك النعم، قد يقدر الله عليك أن يستمر بلاؤك ويطول ويشتد، وحينئـذٍ سوف تعرف إن كان حبك لله مشروطًا بهذه المصالح الدنيوية.

واجهتُ محنةً حُرِمْتُ فيها فجأةً من: حريتي، أهلي، أولادي، أصدقائي، مالي، وظيفتي.. فجأةً! ثم دعوتُ الله لكنه قدر أنه يستمر بلائي أطول مما ظننت. هذا وضعني حقيقةً أمام السؤال المهم: الآن، وبعد حرماني من هذه الأشياء، هل ما زلتُ أحب الله عز جل؟ هذا السؤال ساعدني في تشخيص مقدار (الحبشرطية) في نفسي؛ لأعيد بناء محبة الله على الأسس السليمة الصحيحة. أسألك بالله: هل أنت مستعد أن تشتري بيتا لتسكنه إذا علمت أن هذا البيت مرتكز على أسس واهية قابلة للانهيار والزوال في أية لحظة؟ فما ظنك بمحبة الله عز وجل التي من أجلها نعيش، بل من أجلها خلقنا؟ فَرَبُّنا خلقنا لنعبده، والعبادة محبة وتعظيم وطاعة. فهل أنت مستعد أن تغامر بمحبة الله عز وجل، وتبنيها على أسس قابلة للزوال في أية لحظة؟ إذًا، لابد لك أن تبني محبة الله في قلبك على أسس صحيحة. تُرى، ما هي هذه الأسس؟ كثيرة.. منها:

  1. اليقين باستحقاق الله سبحانه للعبادة لذاته العظيمة، والتفكرُ في أسماء الله وصفاته وتأمُّل آثارها في الواقع. وهذا هو الأساس الأعظم في بناء المحبة لله.
  2. تعلق القلب بالآخرة ونعيمها.
  3. العرفان لله بنعمة الهداية.
  4. الامتنان لله بما أنعم عليك في الماضي بغض النظر عن الحاضر والمستقبل.
  5. استحضار أن نعم الله عليك لا تعد ولا تحصى مهما نزل بك من بلاء ومصيبة ومهما فقدت، فلا زلت مغمورًا في فضله لكنك ألِفْتَ نعمه التي أنت فيها الآن حتى لم تعد تحس بها.
  6. تأمُّلُ محطات رحمة الله بك، صرفه للشرور عنك، تهيئة أسباب هدايتك، سَتره عليك، إحاطته إياك بأناسٍ يحبونك وكلُّ ما كان منهم من خيرٍ فمن الله.. تأمل ذلك في محطات حياتك..
  • أنا عن نفسي استعرضتُها تباعًا في جوف بلاء، وتَلَوْتُ معها سورة (والضحى)، فأحدثت لي لذة وطمأنينة وشعورًا بمعيَّة الله لي وأنه سبحانه يريد بي خيرًا.
  1. ما ينعم الله به عليك، إن أقبلت عليه، من أعمال القلوب مهما كانت الظروف، كالرضا والشوق إلى الله والأنس بالله وكلامه (القرآن).

وسنتكلم بإذن الله عن بعضٍ من هذه الأسس في محطاتٍ قادمة.

إذًا، هذه أشياء ثابتة لا تزول: أسماء الله وصفاته، الآخرة المرتقبة، نعم الماضي، حقيقة أنك ستبقى مغمورًا في نعم الله مهما أخذ منك.. هذه أشياء لا تتغير، ليست مهددة بالزوال.. تبني عليها محبتك لله وأنت واثق مطمئن. أما ما يستجدُّ لك -في الحاضر والمستقبل- من نعمٍ جديدةٍ ورفعِ بلاء؛ فهذه كلها تزيد محبتك لله عز وجل، ولكنها ليست شرطًا في وجود هذه المحبة. قد يقال: لكن الله عز وجل شَرَع تألف قلوب الناس بإعطائهم شيئاً من نعيم الدنيا. فمعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي قسمًا كبيرًا من الغنائم للمؤلفة قلوبهم، لكفارٍ يريد رسول الله أن يستميلهم للإسلام، بل إن مصرفًا من مصارف الزكاة هو (المؤلفة قلوبهم)؟ صحيح.. لكن هذا التألف لقلوب الناس بنعيم دنيوي هو مرحلي مؤقت؛ حتى ينهار الحاجز النفسي بين قلب الغافل والإسلام، حتى تُزال الغشاوة عن بصره ليرى حقيقة الدين فتخالط بشاشة الإيمان قلبه، فلا يعود يأبه -من ثَم- أُعطي أو مُنع. في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أنس قال: (إنْ كانَ الرَّجلُ ليُسلِمُ ما يُريدُ إِلَّا الدُّنيا، فَما يُسلِمُ حتَّى يَكونَ الإِسلامُ أَحبَّ إِليه منَ الدُّنيا وَما عَليها). (إنْ كانَ الرَّجلُ ليُسلِمُ ما يُريدُ إِلَّا الدُّنيا): يعني حبشرطي صرف! وإنما يُظهر الإسلام لإرادته الدنيا.. (فما يسلم): يعني فَما يَلبَثُ بَعدَ إِسلامِه إلَّا قَليلًا حتَّى يَنشرِحَ صَدرُه بحَقيقَةِ الإِيمانِ ويَتمكَّنَ مِن قَلبِه فيَكونَ حينئِـذٍ أَحبَّ إِليه منَ الدُّنيا. إذن؛ تحولَ حبه لله إلى حب حقيقي مبني على أسس سليمة. أما أن يعيش الإنسان حياته كلها عِيشة المؤلفة قلوبهم فهذا وضع خطير غير مقبول! لأن محبته لله مهددة بالزوال في أية لحظة.
عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد طوائف من الناس، ما الذي حصل؟ المؤلفة قلوبهم من أهل مكة الذين تألفهم رسول الله، لكنهم بعد ذلك بنَوا محبتهم لله على أسس صحيحة، كانوا هم أسودَ الإسلام الذين نافحوا عنه أيام الردة، وبذلوا في ذلك أرواحهم ودماءهم وأموالهم. بينما ارتد من بقي (حبشرطيًّا) متعلقًا بالدنيا عندما تعرض لفتنة وفاة النبي وتمردِ الزعماء. إنَّ استقرار هذا المفهوم في نفوسنا -(محبة الله غير المشروطة)- يمنحنا فهما أعمق لكثير من حقائق ديننا. فمثلا: عندما نقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) قد يكون من أسباب ذلك: أن الــطــاعــة الكثيرة الـمـتـقـطـعـة كثيرًا ما تكون مدافعةً لبلاء حل أو ابتهاجًا مؤقتًا بنعمة جديدة، خاصة إذا تبعها فتور شديد في الطاعة. أما العمل المستمر من الطاعات فعادة ما يكون نابعًا من حب مستقر في القلب لا يتأثر بالحوادث السارة أو الحزينة. إذًا، أخي وأختي: إذا وجدت في نفسك هذا الداء الخطير: (شرطية محبة الله)، فعليك أن تعترف به وتسعى لعلاجه؛ فهو أخطر من أية مصيبة دنيوية؛ لأنه مصيبة في الدين، وخللٌ فيما نعيش من أجله.

خلاصة هذه المحطة:

تخلص من مرض (الحبشرطية) وابن حبك لله على أسس سليمة لا تزول بالمتغيرات.