لاحظ أبو غسان فتورًا في مشاعر ولديه الشابين تجاهه.. فغسان ورامي أصبحا يأتيان كل صباح إلى غرفة أبيهما ويمدان يدهما قائلين : (المصروف يا أبي لو سمحت) بشكل روتيني رتيب.. يعطيهما المصروف فيشكرانه على عجل وينطلقان من البيت.
أراد أبو غسان أن يذكر ولديه بأن علاقته بهما ليست علاقة مصروف فحسب.. فعندما جاءا هذه المرة ومدا يديهما لقبض المصروف، قال لهما أبوهما بلهجة تنبض بالحب الصادق: (أحبكما يا ولديَّ) . كان أبو غسان يتمنى أن تلتقي عيناه بعيني ولديه وهو يقول هذه الكلمات فيقرأ فيهما البهجة والاعتزاز بما قــال لــهــما.. كان يــريــد أي مــؤشــر عـلـى أن ولـديـه يحبانه لذاته، لا للمصروف الذي يأخذانه منه.
لكن تجاوب الولدين كان مخيبًا للآمال ! هزَّا رأسهما قائلَين في شرود ذهن: (ونحن كذلك)، أي نحن كذلك نحبك.. وبقيا مادَّين يديهما وأنظارهما مثبتة على جيب والدهما، ففيه المصروف!
صُدِم الأب وانقلبت ابتسامته ذبولًا وأخرج يده من جيبه دون المـحـفـظـة.. انـتـبـه الـولـدان لــمـا حــصــل وأدركا عــدم لـبـاقـتـهـما في التجاوب مع كلمات أبيهما الرقيقة.. قبضا يدهما وأنزلاها.. حاولا تدارك الموقف..
أما رامي فقال : (أبي أنا آسف.. طبعًا أنا أحبك.. أنت أبي الذي رعيتني وأنفقت علي ولا غنى لي عنك).. كان رامي يقول هذه الكلمات وذهنه في المصروف، يتوقع أن يمد والده يده في جيبه ويعطيه المصروف.. لكن الأب لم يفعل وبقي صامتًا. فقال رامي : (أبي، رجـــاءً أنــا أحــتــاج الـمـصــروف.. أعدك أن أكون أكثر لباقةً لكن لا تحرمني من المصروف). لم يتجاوب الأب فتضايق رامي وخرج مغضبًا من الغرفة.
وأما غسان، فقد هزَّ الموقف كيانه! هو يحب أباه بالفعل، لكن قلبه كان قد ذُهِل عن هذه المحبة بتعلقه بالمصروف في الفترة الماضية. ملامح الأب الذابلة العابسة أيقظت مشاعر غسان، فأدرك كم كان مقصرًا في حق أبيه في الفترة الأخيرة.. أدرك أنه كان أنانيا لا يفكر كثيرًا في شعور أبيه ولا يجتهد في إدخال البهجة إلى قلبه.. اغرورقت عينا غسان بدموع حارة وقال بصوت متهدج: (آسف يا أبي الحبيب.. لقد غفلت عنك كثيرًا! سامحني أرجوك.. الدنيا كلها لا تساوي ابتسامة منك).. قال هذه الكلمات وهو يقلب عينيه الدامعتين في وجه أبيه باحثًا عن أية بادرة انفراج لعبوسه.. لكن الأب بقي عابسًا صامتًا وخرج من غرفته وجلس على الأريكة لا يتكلم.
لَحِقَه غسان وتحرك حول أبيه كالقط، فتارةً يقبل يديه وتارةً يقبل رأسه وتارةً يمسك بيدي والده بين يديه ودموعه منهمرةً على خديه وهو يقول: (سامحني يا أبي أرجوك.. أنا أحبك.. تعلم أني أحبك)..
تنازعت الأبَ مشاعرُ متباينة.. فهو لا يحب رؤية ولده كسيرًا بهذا الشكل، لكنه ما زال مصدومًا من جفاء ولديه في أول الأمر، كما أنه يريد مزيدًا من الضمانات لصدق محبة غسان.. انسحب الأب وعاد إلى غرفته بصمت وأغلق الباب وراءه.
أحس غسان بالضياع فلحقه وقال من وراء الباب مناديًا: (أبي أرجوك.. لا أطيق الحياة دون رضاك.. لا أستطيع العيش وأنا أراك غضبان حزينًا.. لقد أخطأت يا أبي لكني أحبك.. أحبك يا أبي.. أرجوك سامحني.. أرجوك ابتسم في وجهي.. أرجوك ضمني إلى صدرك).. وتعالى صوت بكاء غسان كطفل فزعٍ تركته أمه في صحراء وتولَّت عنه.
حينئـذٍ انهار سد الجفاء في قلب الأب أمام دموع غسان.. فتح الباب ورفع ولده الذي كان جاثيًا على ركبتيه وضمَّه إلى صدره وجعل يمسح دموعه ويقبل رأسه.. استمر بكاء غسان، لكنه الآن بكاء فرحة وحنينٍ أُشبعَ..
مدَّ الأب يده في جيبه ليستخرج مصروف غسان، لكن غسان أعاد المحفظة إلى جيب أبيه وقال له وهو ملتصق بصدره (دعنا الآن من المصروف.. أريدك أنت يا أبي الحبيب.. ما دمت راضيًا عني فالدنيا كلها تهون).
ولله المثل الأعلى.. قد يعلم الله تعالى من عباده جفافًا في محبتهم له، وتعلقًا بنعيم الدنيا الذي يمنحهم إياه.. هو تعالى يتودد إلى عباده ويحب منهم أن يبادلوه الوُدّ وُدًّا.. فإذا رأى منهم جفاءً وغفلةً قطع عنهم نعمةً من النعم ليهز كيانهم ويوقظهم من غفلتهم لعلهم ينتبهون إلى حقيقة أن النعمة ألْـهَتهم عن المنعم..
أما فقير المشاعر كـ "رامي"، فلا يفهم هذه الأبعاد، بل لا يزال في غفلته قد سيطر "المصروف" على تفكيره.. فيستغفر الله ويجتهد في الطاعات ليسترجع "المصروف". ليست مصيبته في عتاب الله له، إنما مصيبته قطع "المصروف"! بلادةٌ في التفكير وقصور في النظرة وفقر في المشاعر! لا يفكر إلا فيما يأخذه، ولا يرى من واجبه أن يشكر ويبادل الوُدَّ وُدًّا.
وأما صاحب الحس المرهف والقلب الحي كـ "غسان" ، فإن قطع "المصروف" يزيل عن عينيه الغشاوة ليبصر المصيبة الحقيقية، أنه قصر في حق الله تعالى وغفل عنه.. فكل ما يسيطر على كيانه هو كيف يسترضي الله تعالى ويبرهن له على أنه يبادله الوُدّ وُدًّا.. أما عودة "المصروف" فتصبح قضية ثانوية.. لأنه قد يعيش، ولو بصعوبة، دون المصروف، لكنه لا يطيق لحظةً من الضياع الذي سيعانيه إن فقد مــعــيَّة الله تــعالى أو أحس بأن الله لا يحبه.
في النهاية، قد يعود "المصروف" للاثنين: {كُلّٗا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا ٢٠} [الإسراء: 20].. لكن الأول، فقيرَ الشعور، سيخرج من البلاء كما دخل فيه لم يستفد شيئاً.. ما دام يرى عودة "المصروف" غاية الآمال ومنتهى الطموحات. وأما الثاني فإن المحنة كانت أكبر منحة له، حيث أطـلـقت روحه من قيد الغفلة لتدور في فلك محبة الله تعالى.. {هَلۡ يَسۡتَوِيَانِ مَثَلًاۚ} [هود: 24].
ورد عن الصالحين أن بعضهم كان يبتلى بمرض أو غيره وقد عرف عنه أنه مستجاب الدعوة، ومع ذلك لا يدعو الله تعالى بكشف البلاء.. ستقول: هذه المرويات فيها مبالغة. ربما نعم، ولكننا إذا فهمنا المعاني المذكورة هنا فلا نستبعد أن يحصل ذلك.. فلعل هذا المبتلى فهم البلاء على أنه تذكرة من الله تعالى بأنك قد غفلت عن خالقك، ويريد ربك منك أن تبادله التودد توددًا.. فيسيطر هذا التفكير على كيان المؤمن المبتلى ويعيد حساباته ليكتشف مواطن الغفلة ويُنَشِّط معاني المحبة في قلبه ويتفنن في البرهنة لربه على صدق محبته له سبحانه..
مثل هذا التفكير لا يبعد أن يشغل المؤمن عن الدعاء بكشف البلاء.. بل قد يرى إعطاء الأولوية للدعاء بكشف البلاء سوء أدب لأنه يدل على عدم اعتناء بالسبب الذي من أجله ابتُلي (التذكرة بمبادلة التودد توددًا)، ولأنه يعلم أن استمرار البلاء أدعى لرده إلى دائرة محبة الله.. فهو ينشغل بإعمار قلبه بمعاني المحبة من جديد، ويكِل أمر توقيت رفع البلاء إلى الله ويوقن بحكمته تعالى في ذلك ورحمته.
أرأيت بعد ذلك لماذا (الله يتودد إلينا بالبلاء)؟ ألم ترَ أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم). فانظر إلى الابتلاء بإيجابية، لا على أنه عقوبة محضة، بل هو بشكل من الأشكال تودد من الله! رأى منا غفلة عنه وجفافا في عاطفتنا تجاهه، فابتلى لنراجع أنفسنا، فنستحي، فنحب، ونتودد.. لله رب العالمين.