كم يتودد الله تعالى إلينا وهو الغني عنا! أليس من أسمائه (الودود)؟ انظر إلى قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكۡرٗا كَثِيرٗا ٤١ وَسَبِّحُوهُ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلًا ٤٢ هُوَ ٱلَّذِي يُصَلِّي عَلَيۡكُمۡ وَمَلَٰٓئِكَتُهُۥ لِيُخۡرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ وَكَانَ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَحِيمٗا ٤٣ تَحِيَّتُهُمۡ يَوۡمَ يَلۡقَوۡنَهُۥ سَلَٰمٞۚ وَأَعَدَّ لَهُمۡ أَجۡرٗا كَرِيمٗا ٤٤} [الأحزاب: 41-44].
الله تعالى يتودد في هذه الآيات إلى المؤمنين ويستجيش مشاعرهم بتذكيرهم بأنه يهديهم ويرحمهم وسيلقاهم يوم القيامة بأجر كريم يعبر عن محبته لهم. وكأنه يقول لهم: ما دمت أفعل ذلك كله لكم، ألا أستحق منكم أن تحبوني فتذكروني كثيرًا كما يذكر المحب محبوبه.
لا ينبغي أن تكون علاقتنا بالله تعالى محصورة في انتظار النعيم الدنيوي، بل ولا الأخروي فحسب.. لابد أن يكون رضا الله مطلبا في ذاته. لا بد أن نحب الله ونحرص على أن يحبنا هو أيضًا سبحانه وتعالى، وألا نطيق الحياة دون هذه المحبة .
ألا ترى أن الله تعالى ختم كثيرًا من آيات الأوامر ببيان أنه يحب من يفعل كذا وكذا ولا يحب من يفعل كذا وكذا ؟ ماذا نستفيد من هذه الخواتيم؟ إن كنا أوفياء لله تعالى وصادقين في محبته فإن هذه الخاتمة (والله يحب كذا) ينبغي أن تكون كافيةً في تشجيعنا على تنفيذ الأمر، لنحصل على هذه الجائزة العظيمة: محبةِ الله لنا. كم تكررت هذه الخواتيم في القرآن الكريم: {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ}، {وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّٰبِرِينَ}، {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِينَ}، {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ}، {قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ}، {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِهِۦ صَفّٗا كَأَنَّهُم بُنۡيَٰنٞ مَّرۡصُوصٞ ٤}، {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ}.
ألم تقف عند هذه الخواتيم من قبل؟ ألم تشعر بالسعادة الــغــامــرة إن كنت مــن أصــناف الناس الذين يحبهم الله تعالى؟ ألا تعني لك هذه المحبة الشيء الكثير؟ ألا تستحق محبة الله أن تكون أسمى الأمنيات وأجلّ معنى نعيش من أجله؟
إن لم نقف عند هذه الخواتيم من قبل، إن لم نحرص على أن نكون من أهلها، إن لم تكن محبة الله كافية في أن نكون من المحسنين والصابرين والمتقين والمتطهرين والمتبعين للرسول الأمين والمتوكلين، وفي سبيل الله من المقاتلين.. إن لم تكن محبة الله كافية في أن نبذل جهدنا في التخلق بهذه الأخلاق.. ألا يدل ذلك على أن هناك جفافًا في محبتنا لله ونقصَ اهتمام بمحبته لنا؟
وفي المقابل : ترى أن الله تعالى نهى عن أمور وأتبع النهي بأنه تعالى لا يحب من يفعل كذا: {وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ}، {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ}، {إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ}، {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡخَآئِنِينَ}..
أخي راجع نفسك ، هل كنت كلما قرأت هذه الآيات تفكر بالطريقة التالية: (إن لم يحبني الله فسيعرضني لبلاء أو يحرمني من نعيم)؟ هل هذا هو كل ما يهمك؟ أن يستمر النعيم ويُدفع البلاء؟ ألم تشعر بوخز وألم ألَّا يحبك الله تعالى؟ أليس هذا شيئًا مرعبا وعقوبة كافية في ذاتها ألا يحبنا الله؟ ألا تكفي هذه العقوبة في أن تحرص كل الحرص على البعد عن الظلم والعدوان والإسراف والخيانة لأن الله تعالى لا يحب من اتصف بهذه الصفات؟.. أن تفتش في أقوالك وأفعالك وتحاسب نفسك حسابًا دقيقًا خشية أن تفقد محبة الله لك وأنت لا تشعر؟
اسأل نفسك هذه الأسئلة لتعرف إن كنت أقرب إلى شخصية رامي الجاف أم غسان الذي لم يطق أن يرى العبوس في وجه أبيه ولم يتصور العيش وهو يحس بنقص محبة أبيه له، لوفاءٍ ونبـلٍ في نفسه.
ألا ترى كيف أن الطفل الصغير يستمد ثقته بنفسه من محبة والدَيه له؟ لا يشعر بالاستقرار والطمأنينة إلا إذا عبّر والداه عن محبتهما له.. إذا قال له أبوه: لا أحبك، فإن هذا يهدد استقراره ويدمر ثقته بنفسه ويعطيه نظرة سوداوية للحياة. ألسنا نحن الخلق عيال الله تعالى ما لنا معيل ولا ملجأ إلا هو سبحانه وتعالى.. إذا قال الله لك: لا أحبك.. ألا يـخــيفك ذلك؟ ألا يجعلك ترتعد؟ ألا يُسَود الحياة في وجهك؟ ألا يهدد ذلك استقرارك وطمأنينتك؟ ألا ينبغي لك أن تحاسب نفسك على كل قول أو فعل يمكن أن يجعلك من هؤلاء الذين ذكر الله تعالى في كتابه أنه لا يحبهم؟
عندما يتشرب قلبك هذا الـمـعـنى فـسـتـجـد وقــعًا عــظــيمًا وإحساسًا جديدًا بكثير من الآيات والأحاديث، مثل قوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمۡ رَبُّهُم بِرَحۡمَةٖ مِّنۡهُ وَرِضۡوَٰنٖ وَجَنَّٰتٖ لَّهُمۡ فِيهَا نَعِيمٞ مُّقِيمٌ ٢١} [التوبة: 21].. تأمل هذه الآية كلمة كلمة لترى كيف تنبع منها محبة الله.. وفي الـمـقابل الآيات والأحاديث التي تذكر أصنافًا من الناس لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم.. فكفى بها عقوبة ألا يكلمك حبيبك ولا ينظر إليك إن كنت صاحب قلبٍ حيّ.. تأمل معي كذلك الحديث الذي رواه البخاري أن الله يقول لأهل الجنة: ((يا أهل الجنة))، فيقولون: لبيك وسعديك ، والخير في يديك، فيقول: ((هل رضيتم؟)) فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب، وقـد أعــطــيــتنا مــا لــم تــعــط أحـــدًا مــن خـلـقـك، فيقول: ((ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟)) فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول : ((أُحِلّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا))..
يصعب على جاف الشعور أن يفهم لماذا هذه أعظم النعم! فما دام أهل الجنة في ظل ممدود وفاكهة كثيرة وحور عين فماذا يضيف إليهم رضوان الله في نظره؟!
أما صادق المحبة فيعلم أن رضا المحبوب أسمى الأمنيات ومنتهى الطموحات: {وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَمَسَٰكِنَ طَيِّبَةٗ فِي جَنَّٰتِ عَدۡنٖۚ وَرِضۡوَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ ٧٢} [التوبة: 72].. نعم! رضوان الله أكبر من النعم الأخرى كلها.. أكبر من الجنات والأنهار والمساكن الطيبة.. إنه رضا أعظم محبوب سبحانه وتعالى.
تــأمــل مـعي كذلك قوله تعالى: {فَٱذۡكُرُونِيٓ أَذۡكُرۡكُمۡ} [البقرة: 152].. يتودد إلينا ربنا ويطلب منا أن نذكره ويعدنا حينئـذٍ بجائزة.. ما هي هذه الجــائــزة؟ أن يــذكرنا تعالى. ضعيف المشاعر لا يفهم ما الميزة في أن يذكر الله العبد. أما صادق المحبة فيكفيه أن يذكره أعظم محبوب: الله سبحانه وتعالى.
تأمل معي كذلك الحديث الذي يصور فرحة الله تعالى بتوبة عبده: ((لَلّهُ أفـــرَحُ بــتــوبــة عــبــده مــن أحــدكم يجد ضالته بالفلاة)) (رواه مسلم). فالإنسان النبيل المؤمن يكفيه دافعًا إلى التوبة علمُه بأنها ستفرح من؟ ستفرح أعظم محبوب.. الله سبحانه وتعالى!
بل هناك بعد آخر جميل أيضًا : إذا أهداك من تحب هدية، فبأيهما أنت أفرح؟ بالهدية ذاتها أم بدلالتها على محبة من أهداها لك؟ بل تفرح أكثر بأن من أهداها إليك يعبر بذلك عن حبه. لذا ففرحة أهل الجنة مضاعفة، فهم ليسوا فرحين بما آتاهم الله من فضله فحسب، بل وبدلالة هذا الإنعام على حب الله لهم ورضاه عنهم كذلك.. فلا تنس استشعار هذا المعنى كلما قرأت آيات وأحاديث الإنعام الإلهي.. {يُبَشِّرُهُمۡ رَبُّهُم}، {أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُمۡ}، {وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ}، {ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ}.. رضا الله الذي يدل عليه هذا النعيم أهم من النعيم نفسه.
طبعًا لا يعني ما تقدم أن المؤمن يطيع الله تعالى ويعبده محبة فحسب دون انتظار ثواب أو خوف عقاب، فهذا شطط ترده نصوص القرآن والسنة كقوله تعالى: {يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا} [السجدة: 16].. وقــــوله تــــعـــــالى: {وَيَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓۚ} [الإسراء: 57].. إنما المقــصود التنبيه على مــعــنى كثيرًا مـــــا يـغـــيب عن الأذهان ينبغي أن يحتف بالخوف والرجاء، ألا وهو طاعة الله حبًّا له تعالى والحرص على حبه تعالى لنا ورضاه عنا.
هل اقتنعت الآن أن الله تعالى يتودد إلينا؟ هل استوقفتك هذه الآيات من قبل؟ هل كنت حريصًا على أن تبادل الله الوُدَّ وُدًّا؟ أم أنك التهيت بالنعم عن المنعم؟ إذا كنت التهيت فلا تعجب عندما يبتليك الله تعالى ليذكرك أن تبادله الوُدّ وُدًّا. حتى لو كان الابتلاء شديدًا، فلن يكون أشد من جفاف الروح وقحط القلب بخلوه من تذوق تودد الله لنا ومبادلة هذا الوُدّ وُدًّا. فإذا دفعك البلاء إلى هذا التذوق فقد ربحت كل شيء، ولم تخسر شيئًا، مهما كانت خسارتك كبيرة في الظاهر.