لا زلنا نتكلم عن حكمة الله عز وجل في الابتلاء، وهنا نضيف عنصرًا جديدًا ألا وهو الحديث عن: حكمة الله عز وجل في اختيار مدة البلاء. كان يأتيني أحيانًا خاطر في بلائي فأقول في نفسي: (حتى هذا الحد استفدت كثيرًا من هذه التجربة لديني، لكني أخشى إن طال البلاء أن يصبح المفعول عكسيًّا)! ثم قلت لنفسي: وما شأنك أنت؟ أنت عبدٌ؛ دع أمرك لله عز وجل الحكيم الخبير العليم، هو أعلم بمدة البلاء، وشدته، وتوقيته، ونوعه، يختار ما يشاء سبحانه وتعالى، وهو الحكيم في اختياره. حتى نفهم هذا المعنى؛ تعال نتأمل قصة غزوة الأحزاب (الخندق): وقع البلاء في وقته، وارتفع في وقته.. كانت الأزمة قد استمرت حتى وقع التمايز التام بين المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمؤمنين، وانكشفت حقائق الرجال.. فمن حكمة الله ورحمته أن البلاء استمر إلى أن تحققت هذه الأمور، فيأخذَ المؤمنون حذرهم من المنافقين، ولا يتأثرون بعدها بأقوالهم وسمومهم التي ينفثونها بمكر. ومن حكمة الله ورحمته أيضًا أن البلاء لم يستمر ويشتد أكثر من ذلك فتزل قدمٌ بعد ثبوتها وينخلع بعض المؤمنين عن إيمانهم ويقينهم. {وَلَمَّا رَءَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلۡأَحۡزَابَ قَالُواْ هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۚ وَمَا زَادَهُمۡ إِلَّآ إِيمَٰنٗا وَتَسۡلِيمٗا ٢٢} [الأحزاب: 22].. فالمؤمنون لما رأوا الأحزاب ثبتوا وصبروا، و(إنما الصبر عند الصدمة الأولى).. فنجاهم الله عز وجل بإيمانهم وأنطقهم بكلام حَفِظَ عليهم دينهم.. وقولهم: {هَٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ}.. قال المفسرون أنهم يعنون به قول الله تعالى في سورة البقرة: {أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ ٢١٤} (قال ابن عاشور إن هذه الآية نزلت قبل وقعة الأحزاب بعام).
لكن البلاء استمر واشتد.. ودام الحصار شهرًا، وفي هذا الشهر: جوع، برد، خوف.. حاول المشركون الإغارة على المسلمين من نقاط ضعف في الخندق. وبلغت الأمور ذروتها عندما علم المسلمون أن يهود بني قريظة نقضوا العهد وتحالفوا مع المشركين.. والآن، في أية لحظة، يمكن ليهود بني قريظة أن يفتحوا بواباتهم، فينساحَ المشركون في المدينة ويعيثوا فيها قتلًا وتعذيبًا وانتهاكًا للأعراض. قال الله تعالى: {إِذۡ جَآءُوكُم مِّن فَوۡقِكُمۡ وَمِنۡ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ وَإِذۡ زَاغَتِ ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ ١٠ هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا ١١} [الأحزاب: 11،10]..
في هذه اللحظة نجّى الله المؤمنين، وأرسل الله الريح فاقتلعت خيام المشركين، وكفأت قدورهم، وشردت جموعهم، وانسحبوا مهزومين. اُنظر -سبحان الله العظيم!- إلى هذا التوقيت المناسب. تعال الآن نتأمل: ماذا كان سيحصل لو تأخر النصر عن هذا الحد؟ وماذا كان سيحصل لو جاء النصر قبل هذا التوقيت؟ لو تأخر النصر -أكثر فأكثر- يُخشى أن بعض المؤمنين كان سينطق كلاما أو يفعل أفعالًا كما صدر من المنافقين. المنافقون كانوا يقولون: " قد كان محمد يعدنا فتح فارس والروم، وقد حصرنا هاهنا، حتى ما يستطيع أحدنا أن يبرز لحاجته، ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا" (الطبري). لو تأخر النصر لربما اعتمل الشك في قلوب المؤمنين وحاك في صدورهم ما يَهدم ماضيهم ويُذهِب حسناتهم. لكن الله -عز وجل- بحكمته ورحمته حفظ عليهم دينهم؛ فلم يتأخر النصر أكثر من ذلك الحد؛ لأن الله يبتلي المؤمن على قدر دينه.
طيب، السؤال الآخر: لماذا لم يأت النصر قبل ذلك؟ لماذا لم تحسم المعركة ولم تأت الريح في اليوم التالي من الحصار، الأسبوع الأول من الحصار، الأسبوع الثاني من الحصار؟ لماذا امتد الحصار شهرًا كاملًا؟
لله في ذلك حكم، منها -والله تعالى أعلم بحكمته- أن الله عز وجل أراد أن يصلب عود المؤمنين، فكلما اشتد البلاء صلب عودُهم وترقَّوا في المنازل.
ومنها أن هذه الزلزلة التي حصلت لهم كسرتهم أمام الله وأشعَرَتْهم بافتقارهم إلى رحمته سبحانه وضعفهم في المقابل، فلا يصيبهم العجب بأنفسهم ولا يغتروا بها، ولا يسندون الفضل إلى أنفسهم في الصبر والثبات، بل يسندون الفضل كله إلى الله عز وجل الذي نجاهم في اللحظة الحرجة.
إذن: لم يتأخر النصر إلى حد يمكن أن يحيك معه في صدور المؤمنين ما يذهب بإيمانهم. ولم يأت في مرحلة مبكرة قبل أن يشتد البلاء ويصلب عودهم وتذل نفوسهم لله ويعلموا أنْ ليس لهم إلا الله عز وجل ويتمايزوا عن المنافقين وتنكشف لهم حقائق هؤلاء المنافقين.
فانظر إلى حكمة الله -سبحانه وتعالى- في مدة البلاء. فسبحان الحكيم الخبير الذي لا يُضيّع عملَ عباده المؤمنين، وفي الوقت ذاته يربيهم ويؤدبهم.
خلاصة هذه المحطة:
أيقن بحكمة الله في اختيار مدة البلاء.