أخٌ طيب أعرفه من سنوات جاء من أيام يسألني عن حكم شرعي متعلق بعائلة أخته (أم محمد)، فلما اطلعت على القصة "تعربشته" بالتعبير المحلي، يعني قلت له: "لا ! تعال، لازم أفهم منك التفاصيل، فهي قصة مؤثرة". بطلة القصة هي أم محمد، خالةٌ في الستينات من عمرها، تعيش في جرش، مدينة صغيرة بشمال الأردن، رُزقَت قبل حوالي 25 عاماً ببنت، وكان عند البنت "نقص أكسجين" أدى إلى إعاقة مزمنة، بحيث تبقى البنت طريحة الفراش بلا حركة ولا كلام. وبقيت أم محمد وابنة أخرى لها (لم تتزوج) تخدمان هذه البنت طوال الخمسة والعشرين عاماً. لأم محمد أختٌ رزقت هي الأخرى بابنة قبل حوالي 27 عاماً، وحصل مع البنت شيء مشابه أدى إلى إعاقة مزمنة أيضاً،بحيث لا تتحرك ولا تتكلم. البنت الأخرى (وسأسميها: هند مراعاة للخصوصية)، قامت على خدمتها أمُّها (أم هند) طوال السنوات ال27 الماضية، ثم أصيبت أم هند بالسرطان. قبل أسابيع قليلة تسارعت الأحداث: توفيت ابنة أم محمد بعد 25 عاماً من ملازمة الفراش. ثم بعدها بقليل توفيت أم هند رحمهما الله تعالى. وبقيت هند محتاجةً لمن يرعاها. تُرى، من تطوع لخدمة هند؟ إنها الخالة الستينية أم محمد وابنتها الكريمة ! أم محمد التي اعتنت بابنتها 25 عاماً، ومن عنده ابن أو ابنة مريضة بهذا الشكل يعلم جيداً ماذا يعني هذا من جهد والتزام وتقيُّد، أم محمد التي كان يُتوقع أن تتنفس الصعداء و"تشوف حياتها" قليلاً، أصرَّت على أن تأخذ ابنة أختها عندها لترعاها كما رعَتْ ابنتها طوال ال25 عاماً الماضية، وحصل بالفعل. أخذت أم محمد ابنة أختها هنداً. والد هند أشفق على أم محمد وطلب أن يُرجع ابنته لبيته ويحضر لها خادمة، لكن أم محمد رفضت رفاضاً قاطعاً قائلة: (دخلت بيتي ما بتطلع من عندي) ! لهندٍ أختٌ متزوجة قالت لخالتها أم محمد : أنا آخذ أختي (هند) عندي في البيت، ورفضت أم محمد. قال لي صاحبنا راوي القصة: "أم محمد أحنّ خواتي" وهو يحدثني، أحسست بالإكبار والمودة لهذه العائلة الكريمة، وأحسست أني أريد أن أكون كفردٍ منهم فأخرجت من جيبي مبلغاً بسيطاً وقلت له: (أرجو ان تحضر لهندٍ هدية مني)، فقال: (أبوها حالف يمين لا أحد يصرف عليها فلس واحد)...قلت له: (يا رجل هذا ليس صرفاً، أحضر بها هدية بسيطة)، فقال: (أبوها يرفض ويتكفل بالدفع عن كل ما تحتاجه هند)! قلت له: (طيب خذ بوكيه ورد للخالة أم محمد)، فقال: (نحن إخوانها وبتنشف ريقنا قبل ما تأخذ منا أي شيء)..قلت له: (يا رجل ! بوكيه ورد) فقال. (والله لن ترضى) ! ماذا أقول يا أم محمد؟! ماذا أقول يا صاحبة القلب الطيب الكبير؟ ماذا أقول يا راضية يا صابرة يا محتسبة فيما أحسبك والله حسيبك؟! ماذا أقول في هذه العائلة الكريمة الأصيلة التي لا شك أن في أمتنا أمثالاً لها، خاصة في المناطق التي فيها طابع قروي طيب أصيل. فسلام عليك يا أم محمد، وسلام على كل الطيبين في جرش وفي أمة الإسلام. درسٌ في الرضا لكل مبتلى.