من المفاهيم التي تحتاج تصحيحا اعتبار كثرة الأعداء دليلا على صحة المنهج. فهذه القاعدة ليست على إطلاقها. صحيح أن ورقة بن نوفل قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: (لم يأت رجل قَطُّ بمثل ما جئت به إلا عودي). وصحيح أن قسما من الناس أصحاب نفوس مريضة تعادي الحق لأنه يسحب امتيازاتها ويكشف زيفها. لكن عندما يكرهني المسلمون أيضا فإن علي أن أتهم نفسي! فإن من الخطورة حينئذ أن أعتبر هذه الكراهية "ظاهرة صحية" تدل على أنني على الحق المبين! من الخطورة أن أفترض أنهم ينفرون عني لتديُّني أو سلامة المنهج الذي أحمله بينما بعضهم يعاديني لغلظتي وعبوس وجهي، والبعض الآخر لتقصيري في عملي ثم تنظيري على الناس، والبعض الآخر لتناقضي في سلوكي ووقوعي في معاصٍ أستهين بها بينما أضخم أخطاء غيري، والبعض الآخر لأني تمسكت من دين الله بجانب وتركت جانب الأخلاق، والبعض الآخر لأني خلطت انتصاري لنفسي بانتصاري للدين، والبعض الآخر لأني لم أعتنِ بمظهري وحسبت أن ذلك زهد جهلا بالسنة، والبعض الآخر لسوء فهم كان يمكنني أن أشرحه لكن منعني كبري. من الخطورة أن أتغافل عن هذه الأسباب كلها وأضحك على نفسي وأقنعها بأن هؤلاء جميعا خفافيش ضايقهم النور الذي أحمله! فإنما يعادونني لتديني! الأصل في حامل الدعوة وصاحب الهم الإسلامي أن يكون محبوبا يوده الناس. قال الله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا). وفي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحبَّ اللهُ العبدَ نادى جبريلَ: إن اللهَ يحبُّ فلانًا فأحبِبْه، فيُحِبُّه جبريلُ، فينادي جبريلُ في أهلِ السماءِ: إن اللهَ يحبُ فلانًا فأحبُّوه ، فيُحِبُّه أهلُ السماءِ، ثم يُوضَعُ له القَبولُ في الأرضِ). وفي الحديث الذي حسنه بعض أهل العلم: (المؤمن يألف و يؤلف، و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف، و خير الناس أنفعهم للناس) فحامل الدعوة مطالب ألا يجامل فيها ولا يسترضي الناس بكتمها أو الزيغ عنها. لكنه في الوقت ذاته مطالب أن يترفق بالناس في عرض دعوته ويتخلى عن حظوظ نفسه ليعلم الناس أنه لا ينتصر لنفسه بل لدين الله تعالى. وحينئذ فإن عاداه شرار الخلق والكفار فإن عامة إخوته من المسلمين سيحبونه. وقال في المقابل منكرا على الإمام الذي كان يطيل في الصلاة: (سبحان الله إن منكم منفرين). صحيح أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ). لكن هذه الغربة حالة مؤقتة لا يستمرئها المسلم، بل يسعى في إصلاحها. فقد عرَّف نبينا صلى الله عليه وسلم الغرباء بأنهم: (الَّذينَ يُصلِحونَ ما أفسدَ النَّاسُ مِن بعدي مِن سُنَّتي)...ولم يقل: الذين يتقوقعون ويكرسون الغربة عن الناس بسلوكهم الخاطئ. عاش أحمد بن حنبل الغربة وعودي، لكنه ما مات حتى أحبه الناس فحضر جنازته ما يقدر بمليوني إنسان! وعاش ابن تيمية وابن القيم الغربة وعوديا، لكنهما من أطيب الناس ذكرا وممن يتغنى خلق كثير بحبهم. أما إن مرت الأيام ولم يزدد الناس عنك إلا بعدت وجفوة، فاعلم أن الخلل ليس فيهم فحسب! ليس حامل الدعوة مطالبا أن يجامل على حساب دينه ولا يسترضي الناس بكتم الحق أو الزيغ عنه. لكنه في الوقت ذاته مطالب أن يترفق بالناس في عرض دعوته ويتخلى عن حظوظ نفسه ليعلم الناس أنه لا ينتصر لنفسه بل لدين الله تعالى. وحينئذ فإن عاداه شرار الخلق والكفار فإن عامة إخوته من المسلمين سيحبونه ويلتفون حوله وتلهج له ألسنتهم بالدعاء...ولا عجب، فهو من الموعودين بأنه: (سيجعل لهم الرحمن ودا).