ودول العالم المتفقة اليوم على منع قيام أي كيان مسلم سني متحرر لم تكن مختلفة على هذا المنع من قبل. لكنهم لو قمعوا الثورة بتدخل مباشر حاسمٍ من البداية لكان أعظم ما يمكن أن يصلوا إليه هو قتل الثورة، فتبقى الفكرة...الفكرة الجهادية التحررية، بل وتعظم في نفوس الناس.
أراد النظام الدولي أن تستمر الثورة، ويحصل بين المسلمين أنفسهم اختلاف واقتتال، وتظهر آثار الاختلاف المنهجي والفكري وحظوظ النفس، والمسلمون يشاهدون هذا كله، لتموت في نفوسهم الفكرة الجهادية وتتكون مناعة ذاتية لدى الشعوب ضد أية دعوة تحررية!
ظهر النظام الدولي وكأنه أعطى "الإسلاميين" فرصتهم في مرحلةٍ ما، ليَفشَلوا ذاتياً دون تدخل خارجي، والحق أنه تدخل بالاختراقات وبالضرب على وتر الخلافات المنهجية وغض الطرف -مرحليا- عن الأصوات المنتصرة لهذا الطرف أو ذاك والمحرضة على الاقتتال الداخلي...كل هذه "خمائر" أضيفت لتعين على إظهار آثار حالة الفرقة والاختلاف المتكرسة في المنتسبين للعمل الإسلامي.
إضافةً إلى "الاحتواء الناعم" الذي مارسه النظام الدولي –أو سكت عنه- من خلال بعض الدول التي ظهرت في مظهر الحاضنة للثورة! والتي قدمت الدعم المسموم لتستقطب بعض الفصائل تحت مظلتها وتُقصي أخرى فتتعمق حالة الخلاف.
كما يتم تطعيم كل جيل ضد الأمراض، فإن النظام الدولي حريص على "تطعيم" كل جيل من المسلمين ضد الفكر الجهادي-التحرري ليبقى فكراً متقوقعا معزولا عن جسد الأمة، فاقدا لمعونتها.
جراهام فولر (Graham Fuller)، والذي شغل منصب نائب رئيس جهاز المخابرات الأمريكية، وعمل بين وزارة الخارجية الأمريكية والسي آي إيه (CIA) لمدة سبع وعشرين سنة، وضع خلاصة خبرته العريقة في جملة خطيرة من كتابه (مستقبل الإسلام السياسي) يقول فيها: "لا شيء يمكن أن يُظهر الإسلاميين بأسوأ صورة أكثر من تجربة فاشلة في الحكم" !!
عندما تمت دعوة فصائل إلى "المفاوضات" فإن هذا لا يعني أبدا أنها بعيدة عن الاستهداف والتصفية في مرحلةٍ ما، مهما قدمت، لكن الذي يدعوها ويقصي غيرها يريد بذلك تعميق الخلاف والدفع باتجاه الاقتتال، لقتل "الفكرة"، ثم (أكلت يوم أكل الثور الأبيض).
في هذا كله تسعى دول متنافرة لتحقيق أجنداتها المتضاربة، لكنها مهما اختلفت فإن قيام كيان سني متحرر خط أحمر تتفق جميعها على منعه!
شخصياً، مرت عليَّ فترة تتصل بي فيها قنوات عالمية تطلب مقابلتي لأتحدث عن الخلاف بين الفصائل "الإسلامية" في الشام، وكنت أرفض لـِما أشمه من رائحة الاصطياد في الماء العكر.
بينما عندما كانت تخرج مبادرات للإصلاح ووقف الاقتتال الداخلي ما كانت تجد أي اهتمام إعلامي من هذه القنوات! 10. كنتُ أقرأ الأحاديث الناهية عن قتال الفتنة مثل (كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل)، أو (كن كأحد وَلَدَي آدم)، أي الذي قال لأخيه: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك)... فأستغرب! لأن الإسلام يأمر المسلم بالدفاع عن نفسه وماله، لا بالسلبية، ولو تجاه مسلم. والآن أحس وكأن أرض الشام تشرح لي الأحاديث!
والله تعالى أعلم.