في غمرة الحديث عن الولاء والبراء وكيد الأعداء قد نظهر نحن المسلمين، خاصة الحريصين منا على سلامة المنهج، قد نظهر وكأن دعوتنا هي دعوة كراهية: كراهية المشركين، كراهية المنافقين، كراهية الحكام المعطلين للشريعة وأوليائهم، كراهية العصاة وناشري الفتن، كراهية الدعاة المميعين وفقهاء السلاطين، وغيرهم. في خطابنا للناس قد تتمركز ألفاظنا حول هذه الكلمات، مما يظهرنا للسامع وكأن قلوبنا قاسية وأرواحنا جافة، بل قد نظهر أمام أنفسنا بهذا المظهر، بل وقد نكون كذلك حقا! علينا أن نعلم أن ميزتنا الكبرى ليست قدرتنا على الكراهية! ولا أن نكون فقيري المشاعر! بل إن خصيصتنا العظمى هي: محبة الله ورسوله. هذا هو محور حياتنا، هذه هي زبدة دعوتنا. وإنما نكره من نكره لصفاء محبتنا لله ورسوله. نعم، نكره. ولكننا نكره لأننا نحب!: نحب حبا صادقا لا نفاق فيه ولا ضعف، فنكره ما يخدشه أو يسرقه منا. وإلا فالمؤمنون يجب أن يكونوا أرق الناس قلوبا وأعظمهم محبة، ونحن لسنا دعاة كراهية في المقام الأول. هذا المفهوم يساعدنا جدا في دعوتنا، إذ لا نبدأ مع الناس بخطاب الكراهية، بل بالمحبة. فإذا أعنا الناس على أن يحبوا الله ورسوله محبة صادقة سهل علينا بعدها أن نحضهم على الواجبات وننفرهم عن المحرمات.
فرق حينئذ بين أن تقول له: هؤلاء كفار لا يجوز حبهم ولا تقليدهم ولا التشبه بهم.
فتقول: (من أغلى عليك، رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أبوك؟) سيقول: (بل رسول الله). فتقول: إن سب أحد أباك فهل تحبه وتضع صورته على صدرك وتدور بها؟ سيقول: لا طبعا. فتقول: هذا الذي تضع صورته على صدرك هل يؤمن بأن محمدا رسول الله أم يكذبه؟ هنا، عندما كنت أصل إلى هذا السؤال فإن الذي أسأله عادة ما كان يرتبك لأنه يفهم المقصود فيتردد ويتلعثم وقد يقول: (لا أدري)!
لكن جرب في المقابل أن تقول: (ألا تحب الله ورسوله؟) سيقول: بلى. فتقول: تذكر أنه: ((ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)). قلبك وعاء، فإن ملأته بالسائل النقي: (محبة الله) ثم أدخلت عليه نقطة معكِّرة بالنظرة المحرمة، فإن هذه النقطة لن تبقى معزولة بل ستلوث السائل النقي. فهل تقبل أن تخدش محبة الله ورسوله بها؟ ((أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير))؟! لذا شرع الله لك غض البصر لتحافظ على النقاء: ((قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم))...أي: أطهر وأنقى. وعند دعوتنا الناس ينبغي أن تكون هذه هي المقدمة. فيشعر أحدهم وهو يدافع الفتن أنه لا ينتظر جزاء أخرويا فحسب، بل أنه أيضا يدافع عن درة كبيرة في قفصه الصدري ويخاف أن يسلبها الناس أو الشيطان منه، إنها: محبة الله ورسوله. يوسف عليه السلام عندما دُعي إلى فتنة شديدة قال: (معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي)، فمنعته المحبة والعرفان لله بالجميل. ومثله نقول لمن يحب معطلي الشريعة، نضعه أمام حقيقة أن هذين حبان لا يجتمعان. وانظر كيف نهى الله عباده عن تولي الكفار:
تحبَّب إلى عباده: ((الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون (20) يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم (21) خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم (22) ))
ثم بعد أن استجاش الله تعالى فيك مشاعر المحبة أتى النهي عما يخدش هذه المحبة:
((يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون (23) ))
((قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين (24) )) لذا، فنحن لسنا دعاة كراهية في المقام الأول. بل نحن دعاة حب حقيقي عظيم، وإنما نكره ما يخدشه أو يسلبه منا. قال ابن تيمية، وهو إمام من أئمة المفاصلات والولاء والبراء، قال في رسالة (العبودية): (إن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أطيب. والإنسان لا يترك محبوبا إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه، أو خوفا من مكروه. فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح أو بالخوف من الضرر. قال تعالى في حق يوسف: ((كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلَصين)). فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصورة والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله). وندعو بدعاء نبينا صلى الله عليه وسلم: ((أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك)).