عندما تتأثر برأي الآخرين فيك وكلامهم عنك ولومهم لك... عندما تضيع البوصلة: تقوم بعمل، أو تتخذ موقفا، يمدحك المادحون عليه فتُسر، يلومك اللائمون فتندم، وتتخذ موقفا آخر لتُعدل الوضع، فيلومك آخرون ويذمك من مدحك بالأمس، وتتشتَّتُ نفسك وفكرك ولا تدري ماذا تفعل... فاقرأ حينئذ قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم (54) ) (المائدة). (يُحِبُّهم): وإذا أحب الله عبادا له أراهم لطائف وعلامات تلك المحبة، فيأنس بها العباد أيما أُنس. استشعار تلك المحبة هو مصدر طمأنينتهم وثباتهم وقوتهم. وهم مستعدون لفعل أي شيء للمحافظة عليها، ويرفضون بحزمٍ فعل أي شيء يُفقدهم محبة الله لهم واستشعار أنه معهم. (ويحبونه): محبةً ملأت عليهم قلوبهم، لا يزاحمها التفكير في نظرة الناس لهم، ولا يقدمون عليها استرضاء أحد من الخلق أو دفع سخطه وملامته. بل محبتهم لله تحكم شعورهم ومواقفهم ونظرتهم لكل أحد ولكل شيء، وعلى أساسها يكون حبهم للآخرين أو بغضهم. فهي محبة مهيمنة حاكمة، لا شريكة مزاحمة. (أذلةٍ على المؤمنين): لأن محبة المؤمنين تابعة في قلوبهم لمحبة الله تعالى. وذلهم للمؤمنين دليل على أن استخفافهم باللوم ليس عن كبر ولا غرور. (أعزة على الكافرين): حتى لو ظهر الكافرون منتصرين وأن العزة لهم، فمحبة الله في قلوب المؤمنين مصدر استعلاء وثقة، لا تنهزم نفوسهم ولا تنكسر. (يجاهدون في سبيل الله): بقلوبهم وألسنتهم وأيديهم. يجاهدون الكفار والمنافقين وباطلهم وإفسادهم، وهم يعلمون أن جهادهم هذا قد يكون تجديفا عكس التيار وقد يُعَرضهم للكثير من التضحيات. ومع ذلك: (ولا يخافون لومة لائم): هذا اللائم قد يكون من أهل الباطل، يلوم ليُخَذلك أو يُنَدِّمك ويشمت فيك، وقد يكون من المسلمين المحبين لك، يلومك على ما "خسرته" وأنت تنكر المنكر أو تحارب الباطل، يلومك محبة لك وخوفا عليك. ومع ذلك، فهذا اللوم كله، أيَّاً كان صاحبه وأيَّاً كان دافعه، لا يؤثر في مواقف المؤمنين الخُلَّص، ولا يخافونه، ولا يحدِث لديهم ندما ولا تراجعا إن كانت مواقفهم منطلقة من محبة الله، وإن كانت تضحياتهم في سبيله وابتغاء وجهه الكريم، حتى لو كان لوم مُحبٍّ مشفقٍ حريص عليهم، لكنه غير محق بلومهم في ميزان الله. لذلك لاحظ العموم: (لومة لائم). فالحزم والإعراض عن اللوم دليل يقينهم بالدين الذي من أجله يضحون، ودليل قوة عزمهم. (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء): ذلك الاجتماع للقلب على محبة الله، بحيث لا يَتَشَتَّت شمله، ولا يتمزق على محاولة إرضاء هذا وذاك، ولا يندم بلوم هذا وعتاب ذاك، بل يُصبح المؤمن هو الموجه والمؤثر في مواقف اللائمين والمصحح لمسارهم، ويَحمدون له يوما ما كانوا قد لاموه عليه بالأمس...هذا كله فضل من الله، ما أسعد من تعرض لطلبه وحظي به. اللهم إنا نسألك من فضلك.