→ عودة إلى مرئيات

أزمة القدوات-نيلسون مانديلا نموذجا

٧ ديسمبر ٢٠١٣
النص الكامل للمقطع

السلام عليكم إخوة الكرام.

أزمة القدوات: نيلسون مانديلا نموذجًا

من أخطر ما نعانيه في أيامنا أزمة القدوات. يظهر ذلك مثلاً من تفاعل الإعلام والناس مع وفاة نيلسون مانديلا، الذي سعى طويلاً إلى وقف ظاهرة التمييز العنصري في بلاده. فمثلاً، خصصت إحدى أكثر القنوات انتشاراً، إن لم يكن أكثرها في العالم الإسلامي، أول أربعة أخبار صبيحة وفاة مانديلا عنه: "وفاة نيلسون مانديلا"، "قادة العالم ينعون مانديلا"، "مانديلا أيقونة الصمود"، "مانديلا رمز للحرية والتسامح".

ليس هدفي هنا التقليل من شأن تضحية مانديلا من أجل بني جلدته، فالرجل بلا شك أفضل من سود البشر الذين ساعدوا المستعمر الأبيض ضد أبناء جلدتهم مقابل فتات قليل. لكن هنا أثير التساؤل: هل مانديلا هو الجدير بأن يكون قدوة عالمية للحرية والثورة على الظلم؟

شعارات مانديلا وتطبيقها

حتى نضع الأمور في نصابها نقول: أطلق مانديلا شعارات عن الحرية مثل قوله: "إن الحرية لا تقبل التجزئة"، وقوله: "ليس حراً من يهان أمامه إنسان ولا يشعر بالإهانة". فهل كان منسجماً مع هذه الشعارات؟ وهل التزم بها كقيم عالمية أم ضمن حدود بلده التي رسمها المستعمر فحسب؟

في أماكن ليست ببعيدة عن مانديلا، بل في قارته السوداء نفسها، كانت الحرية تصادر والإنسان يهان. ملايين يقتلون في الكونغو ورواندا بتآمر دولي، وشعوب تتعطش للتحرر من النظام الدولي في نيجيريا والصومال ومالي، فتهاجمها الأنظمة الإمبريالية والرأسمالية والإفريقية. فماذا كان موقف مانديلا من هذا كله؟

هل نتوقع منه أن يصلح إفريقيا كلها؟ لا، لكن على أقل تقدير، حتى يستحق شخص ما أن يكون رمزاً عالمياً للحرية ورفض الظلم والتمييز، وحتى يكون منسجماً مع شعاراته، فلا يتوقع منه أن يتقبل الأوسمة ممن يهينون أبناء قارته، فضلاً عن القارات الأخرى. لأن وسام الحرية الذي يضعه الظالم على صدرك يعني أنك تصالحت مع الظالم ورضيت منه بفتات حرية في حدود رسمها لك لا تتعدها، وقبلت ضمنياً أن يمارس عربدته العالمية بعد ذلك.

أوسمة مانديلا وتناقضاتها

مانديلا حصل على أوسمة الحرية والسلام من تجار الرق والحرب العالميين. عام 1990، حصل على الجائزة باسم من؟ لينين، الذي قتل هو وتلميذه ستالين عشرات الملايين من قبل.

حصل مانديلا على جائزة "بهارات راتنا" من حكومة الهند عام 1990، في الوقت الذي كانت الهند تبيد وتغتصب وتحرق المسلمين في كشمير وكجرات. حصل على جائزة "أتاتورك للسلام" من تركيا عام 1999، أيام الحكم العسكري المصادر لحريات المسلمين. وحصل على ميدالية الرئاسة الأمريكية للحرية عام 2002 من جورج بوش الابن، في الوقت الذي كانت أمريكا تقتل وتعذب وتسجن في أفغانستان وتدعم سياسياً وعسكرياً مجازر اليهود في جنين.

فهل تحرر مانديلا فعلياً من فلك النظام الدولي؟ وهل ثار على الإمبريالية والرأسمالية والاستعباد الجائر كقيم عالمية؟ أم تصالح معها مقابل شيء من الحرية والمساواة في حدود بلده التي رسمتها هذه الإمبريالية الاستعبادية؟ فقلدته بعدها أوسمة الحرية وجوائز السلام، وهي شر ناشر للاستعباد والدمار.

هل يقبل الحر أن يقلده فأر جائزة الجرذ الأكبر للنظافة؟ وهل الحرية عند رمز الحرية لا تقبل التجزئة ضمن البلد المجزئ أصلاً فحسب، وتقبلها خارجه؟ ولذا لا عجب أن تنتصب أمريكا ورؤساء العالم في جوقة النفاق يترحمون على مانديلا رمز الحرية، وفي سجونهم بجوانتنامو وأبو غريب وفي سفن التعذيب الدوارة بعرض البحر والمعتقلات السرية أحرار حقيقيون لم يتصالحوا مع الإمبريالية بل ثاروا عليها وسعوا إلى استئصالها بالكلية.

صحيح أنه كان لمانديلا تصريحات ينتقد فيها هذا الظلم، لكن الذي يشعر بالإهانة عندما يرى الناس يهانون لا يقبل أن يقلده مهينوهم بأيديهم التي تقطر من دماء الناس، أوسمة سميت بأسماء أساتذتهم في الإجرام كالينين وأتاتورك. خاصة وأن الأنظمة الإجرامية تدفع عن نفسها التهمة بتقليد مثل هذه الأوسمة. ولو كان مانديلا يشعر بالإهانة لما قلد بنفسه القذافي وساماً وهو يراه يهين شعبه ويصادر حريتهم في السجون.

القدوة في الإسلام

فكيف يكون رمزاً للمسلمين؟ كيف يكون مشرك رمزاً للموحدين؟ إلا إن كان توحيدهم عندهم شيئاً ثانوياً، وكان الشرك ذميمة صغيرة تجبرها الخصال الطيبة. فرق بين أن نثني على جوانب خير في مشرك من ناحية، وأن نتخذه قدوة من ناحية أخرى. فاتخاذهم قدوة مقدمة في نواحي إنسانية قيمية يذكر أكثر مما تذكر القدوات الإسلامية التي جمعت بين التوحيد والتحرر الذي لا يعرف مصالحة مع النظام العالمي المستبد.

اتخاذ المشرك قدوة بعد ذلك هو دلالة جهل بتاريخنا وواقعنا، بحيث لم نجد فيهما مثالاً يحتذى، فذهبنا نتلمسه في أناس أشركوا بالله وكذبوا محمد بن عبد الله في أنه رسول الله. التركيز على أمثال مانديلا على حساب القدوات الحقيقية المهمشة يكرس الهزيمة النفسية والشعور بالدونية لدى الأجيال المسلمة.

صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثنى على جوانب خير في المطعم بن عدي وخالد بن الوليد والنجاشي قبل إسلامه، لكنه لم يدع المسلمين إلى اتخاذ أي منهم قدوة أو رمزاً، ولا حتى في جانب إنساني محدد. وعندما أمرنا الله تعالى بالاقتداء لم يقل لنا: "لقد كان لكم أسوة في حكمة أفلاطون وسياسة أرسطوطاليس"، بل قال في أنبياء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. وقال في إبراهيم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: 4]. وقال في محمد صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وقال لنا نبينا صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ".

فمفهوم القدوة في الإسلام مفهوم خطير لا يصرف لكل أحد. رسول الله ومن اتبعه بإحسان لم يأتوا بقيم الحرية ورفض الظلم لبلدهم الجزيرة العربية فحسب، ولم يتصالحوا مع الفرس والروم على هذا المبدأ، فربه عز وجل قال له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

الحاجة لقدوات معاصرة

أراك أخي تقول: رسول الله وأصحابه على الرأس والعين، لكن الناس بحاجة إلى قدوات معاصرة. أتفق معك وأتفهم تعطش الناس لنماذج للحرية والشجاعة والتضحية. فهل خلا واقعنا المعاصر من قدوات مسلمة أعظم من مانديلا حتى من ناحية إنسانية بحتة؟ وإن لم يخلو، فلماذا لا نسمع عنهم؟ من هم؟ ولماذا يغفلهم الإعلام؟ هل هو قصور عفوي أم سياسة ممنهجة؟ وما خطورة تغييب القدوات الحقيقية؟ هذا ما سنجيب عنه في حلقة قادمة بإذن الله.

خاتمة ودعوة

وختاماً أقول: ليست هذه دعوة إلى إلغاء جوانب الخير في غير المسلمين، وليس هدفي هنا الهجوم على مانديلا، إنما أقول ببساطة: هو لا يعنينا كمسلمين. وهي كذلك دعوة إلى أن تعتز بما لديك من دين عظيم، بحيث إذا رأيت من فيه خصال طيبة من غير المسلمين تقول: "حري بهذا أن يكون مسلماً، لذا سوف أدعوه إلى الإسلام وأناشد فيه الخير الذي يميزه، لأن عندي شيئاً عظيماً هو إسلامي وأحب أن أهديه لهذا الرجل".

من منا فعل هذا؟ من من الذين سيستنكرون كلامي ويرون فيه قسوة كان رحيماً بمانديلا وغيره فحاول إنقاذه من النار بدعوته إلى الإسلام؟ أم أنك تشك في أن المشرك مصيره إلى النار؟

أعرف اثنين من الإخوة المميزين في مجال التقنيات تابعا مؤسس شركة أبل ستيف جوبز وسمعا منه في حفل تخريج بجامعة ستانفورد حديثاً عن الموت غير معتاد من مثله، فكتبا له رسالة بالإنجليزية قبل وفاته وأرسلاها له يثنيان فيها على جوانب الخير فيه ويدعوانه فيها إلى الإسلام بطريقة لطيفة. وهذا ما نحاول فعله مع من نلمس فيه الخير ممن نعامله من غير المسلمين والحمد لله.

لذا أخي كن منصفاً رحيماً بالبشرية، وفي الوقت ذاته كن معتزاً بهويتك واعرف عظمة الإسلام الذي بين جنبيك، واحرص على أن تهديه للبشرية العطشى التي تحتاجه. والسلام عليكم ورحمة الله.