السلام عليكم ورحمة الله.
الحمد على النصر وضرورة العمل
إخواني الكرام، هذه الكلمة هي لنحمد الله على ما منّ به من عزةٍ للمسلمين في هذه الجولة من المعركة في فلسطين. ثم لنبين ضرورة العمل بعدها.
كثير من المسلمين كان يقرأ القرآن، فإذا مر بآيات نصر الله للمؤمنين قال في نفسه: أفي زمن الطائرات والترسانات والتفوق العسكري الهائل لأعدائنا؟ ما شهدناه في الأيام الماضية جاء إسعافاً عقدياً يرد إلى كثير من المتشككين اليقين.
كانت الأحداث تتجه نحو مزيد من السوداوية، خيانات، تطبيعات، أعداء الإسلام في الداخل والخارج يطبقون أجنداتهم من خطوة لخطوة بتسارع كبير. ثم جاءت نفحة النصر هذه لتحيي الأمل ويعلم المسلمون أن الله من وراء أعدائهم محيط.
علم المسلمون أن الكيان الغاصب لا شيء، منتفش منفوخ فيه، ولولا الخيانة وضعفنا لكانت مسألة زواله أسهل بكثير مما يبدو. وذل هذا الكيان وأهين على أعين الناس أجمعين، وشفى الله بذلك صدور قوم مؤمنين. وانهار الدعاوى والقوى الحديدية والقوى الاستخباراتية، ووزراء الكيان أنفسهم يوجهون انتقادات شديدة للجيش.
مع سقوط هيبة الكيان الغاصب، سقطت أقنعة من يحمونه ويحرسونه بحجة عدم تكافؤ القوات. نتنياهو كان فيما يبدو يريد أن يكسب أصوات اليمين كما يقال بانتهاك حرمة الأقصى، استوطى حيطة المسلمين وما حسب لهم حساباً، فانقلب ذلك عليه.
الجهاد الذي عمل الطغاة طويلاً على تشويهه وتجريمه وتنفير الناس عنه، الآن عاد المسلمون يتكلمون عنه ويطالبون به ويعلمون أنه طريق النصر. سطر أهل فلسطين في أيام دروساً عن سنوات في الإيمان والتضحية والصبر والرضا والعزة والكرامة وتعظيم المقدسات والاستعداد للشهادة وبذل الغالي والرخيص في سبيل الله تعالى.
نفحة النصر: إعادة اليقين وتعطيل المشاريع
جاءت نفحة النصر هذه لتعيد إلينا اليقين أن بإمكاننا عمل الكثير، وأننا لسنا عاجزين فاشلين كما كرس فينا عبر عقود. كان مخططاً أن يتجول الصهاينة هنا ويشرب الأرجيلة هناك، وتبنى لهم مدن سياحية بأكملها في بلاد المسلمين، ويصبح المسلمون خدماً وعمالاً عندهم.
الآن تعثرت هذه المشاريع، ووقف تسارع تنفيذها، وخرس المطبعون، واختبأوا في جحورهم، بعدما أصبح أحدهم يتوقع أن يرمى بالحذاء من كل حدٍ وصوبٍ. ولأجل هذا خلقنا الله للصراع بين الحق والباطل وليصطفي الله من المؤمنين في هذا الصراع.
حق للذين يظنون دوماً أنه لا فائدة في محاولة صد العدوان، حق لهم أن يقفوا مع هذه الفوائد ليعيدوا حساباتهم.
من انتصر في هذه الجولة؟
من الذين انتصروا في هذه الجولة؟ المرابطون في الأقصى، ثم من ساندوهم في فلسطين كلها، ومنهم مسلمو الثماني والأربعين الذين فاجأوا الجميع، ثم غزة العزة وأهلها الشامخون الأبطال، ثم من وقف معهم من عامة المسلمين بالدعم والمؤازرة والدعاء والتعاطف والنصرة الإعلامية.
صمود أهل غزة كان له أثر كبير. كان الصهاينة يعولون على تثوير أهل غزة ضد مجاهديها، ولذلك يسوون المجمعات السكنية بالأرض ويلقون أطناناً من الصواريخ ويقولون لأهل غزة: ماذا جلب لكم هؤلاء غير الدمار؟ أما كان أفضل لكم لو عشتم في أمان وثراء؟ عدم التفات أهل غزة لهذا كله، بل صبرهم واحتسابهم للأجر أحدث فارقاً كبيراً. فنقول لأجل ذلك كله: اللهم لك الحمد. وحق لنا أن نفرح.
النصر الكبير والفرصة التاريخية
بعد هذا يا كرام، ما حصل إنما هو نكاية في العدو في جولة واحدة، وليس النصر الكبير المرتقب. الأقصى لا زال محتلاً، وأرض المسلمين في فلسطين لا زالت محتلة، وشعوب المسلمين لا زالت تابعة غير متحررة من الخضوع لغير الله.
الذي حصل هو فرصة تاريخية، كل الجهد الآن يجب أن ينصب على استثمارها لا مجرد الاحتفال بها، وإلا فقد تنقلب الفرحة أحزاناً. أعداء المسلمين يحسنون جداً تضميد جروح أنفسهم واستغلال الأحداث لصالحهم من جديد، ولديهم خطط بديلة جاهزة.
ما حصل هو أشبه بمسلمين في سجن كبير أحدثوا نكاية في سجانيهم، قائلين بذلك للشعوب المسلمة: ها قد أثبتنا لكم كم هؤلاء السجانون ضعفاء مخاذيل، فهيا تابعوا استكملوا مشوار النصر.
دور الشعوب المسلمة والمكر الدولي
دور الشعوب المسلمة الآن. المكر الدولي على قدم وساق، كل يحاول توظيف الحدث واستغلاله لصالحه. أمريكا تريد إيصال رسالة للكيان عن مدى حاجته إليها. القوى الإقليمية صاحبة الأجندات تريد أن تختم النصر بختمها وتطبعه بطابعها، بزعم أن النصر كان للفئة التي تقدمها أو للسلاح الذي يسمح بتهريبه، لتخطف فرحة النصر من القلوب على الرغم من أنها كانت وما زالت حرباً على الإسلام والمسلمين.
هناك طروحات لحلول تصفوية لقتل الثمرة التي أينعت في ظل الأحداث. ويتوقع أن يتم تسليط الضوء على جانب المعاناة الإنسانية في غزة للدفع باتجاه أي حل تخفيفي. وهناك من يستغل حتى تعاطف المسلمين لإقناع القوى العالمية بحاجتهم إليه في كبح جماح الشعوب ومنعها من التهام الكيان الغاصب.
أمام هذا كله يا كرام، أمام محاولة الجميع لاستثمار الحدث، لا يصلح أبداً أن نكتفي بالاحتفال ونكون نحن المسلمين أغفل الناس عن استثمار الحدث، ونتوقع بعد ذلك أن ينصرنا الله. مكر أعدائنا مستمر، فليس لنا إلا تولي الله ليمكر لنا.
نحتاج أن ندرك حاجتنا الشديدة إلى الله لألا نخسر الفرصة وتنقلب الفرحة إلى أحزان. إخواننا في الأقصى وغزة بحاجة إلى دعمنا المستمر، أن نكون لهم سنداً وظهراً حتى لا يحتاجوا إلى غيرنا من أصحاب الأجندات الخبيثة، وحتى لا يضعفوا أمام الضغوطات.
الحذر من الأجندات الخبيثة
وهذا مهم جداً. نحن نعلم أن هناك مشاريع إقليمية محاربة لأهل السنة تريد أن تستغل نفحة النصر هذه لتجمل صورتها. فرحنا بما يحصل في غزة لا يعني القبول بما نسمعه أحياناً من تصريحات الثناء على هذه الجهة أو رفع صور رموزها الذين أوغلوا في دماء أهل السنة في سوريا والعراق.
حديثنا اليوم هو عن معركة انطلقت لسبب مشروع من نصرة المسلمين ومقدساتهم وبدوافع عقدية واضحة مشروعة. ونفحة النصر والعزة هذه هي في حقيقتها للمرابطين ومن ناصرهم، ثم لأهل غزة وإعدادهم وثباتهم وإيمانهم فيما نحسبهم، ولهبة كثير من الأمة معهم بما يضيع بهجتها ويعكر أثرها. وأي تصريح فيه نسبة الفضل إلى أي يد مسمومة، فهو مردود مرفوض. ونحسب أن أبطال غزة أنفسهم لا يرتاحون له.
وينبغي مطالبة المسلمين في غزة وقياداتهم أن يحذروا من أي تنازل على حساب العقيدة. وفي الوقت ذاته تتوجه الأنظار إلينا نحن وتقع المسئولية علينا نحن المسلمين أن نسند إخواننا في غزة وسائر فلسطين ونحتضنهم بما نستطيع لنغنيهم عن تلك الأيدي المسمومة.
استثمار الحدث والعمل المستمر
اعتاد كثير من المسلمين أن تحركهم مشاعر آنية ثم يعود إلى ما كان عليه. نحتاج هذه المرة أن يبقى الحدث درساً بليغاً عميقاً لا ننساه، بل نوظفه يوماً بيوم.
سؤال: وماذا بأيدينا أن نعمل؟ هذا السؤال ما عاد له مكان. هذا الذي صنعه أبطال غزة في أيام كانوا قد عملوا له لسنوات. عبر سنوات عانوا من الحصار الخانق من كل الجهات، حفروا الأنفاق بجهد ومشقة تحت الأرض ليأتوا بالطعام بالأدوية بحليب الأطفال بما يستطيعون به صد العدوان. وردمت الأنفاق عليهم، فُجِّرت عليهم، بُخَّ عليهم فيها المياه العادمة. هم بالفعل أناس في سجن كبير ومع ذلك استمروا ولم ييأسوا. وهذا الذي رأيناه في أيام كانوا قد مهدوا له عبر سنوات طويلة. فعلمنا بذلك أن عليك أن تعمل والله تعالى يبارك في القليل ويعطيك الفرصة في الوقت المناسب.
نحتاج الآن أن يعمل كل منا ليكون عنصراً في النصر الكبير الذي سيأتي في اليوم الذي يريده الله عز وجل. أن نربي أنفسنا إيمانياً وعلمياً وتربوياً، مشحونين بالمواقف الإيمانية العظيمة التي رأيناها من أهلنا في فلسطين. أن نسأل أنفسنا: هل نحن في إيمانهم واستعدادهم للتضحية؟ أن يتبنى كل منا مشروعاً جزئياً، فرضاً من فروض الكفاية الذي يعد لبنة من لبنات المشروع، مشروع التحرير الكبير. تركز عليه وعينك على الهدف العظيم، متقرباً إلى الله محتسباً للأجر، عالماً أن الله لا يضيع أجر المحسنين.
"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين". والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.