السلام عليكم ورحمة الله
مقدمة حول حملة أبو فلة
لمن لا يعرف عن الموضوع، أبو فلة هو يوتيوبر في مجال الألعاب يتابعه كثير من الشباب. كان قد أطلق حملة تبرعات للاجئين السوريين، فجمع مبلغًا كبيرًا ليسلمه لمفوضية اللاجئين، والتي ثار جدل حول طريقة تقسيمها للتبرعات وما ستأخذه منها.
بماذا يختلف أبو فلة عن غيره من اليوتيوبرز الجيمرز؟ الشاب له حس ديني، يذكر الله في فيديوهاته ويتكلم عن أهمية الإخلاص. لكن في حملته هذه قال كلمةً لم يتعودها منه متابعوه، قال: "ما هي من الدين؟" وقال: "اعتنقنا الإنسانية، ثم اعتنقنا الديانات، ثم اعتنق ما شئت من الديانات."
طيب، يعني أنت تركت كل الكلام الطيب الذي قاله، هو والتبرعات التي جمعها والمقصد النبيل، وركزت على هذه الكلمة؟ نعم، سأركز على هذه الكلمة لأن هدفي اليوم ليس تقييم أبو فلة ولا الحكم عليه، وإنما نصيحته ونصيحة متابعيه ومناقشة هذه الجملة التي تمثل تفكير كثير من الناس وهم لا يعلمون مدى خطورتها.
وقد فكرت في أن أناقش هذه الجملة دون أن أذكر أبو فلة حتى لا يشخصن الموضوع، لكني أريد أن تصله الكلمة وتصل متابعيه، فمحدش يقول: "يعني أنت ماسك في كلام شاب يوتيوبر بسيط وكأنها تصريحات خطيرة!" كلامه هذا في النهاية يصل للملايين ويؤثر في طريقة تفكيرهم.
ولن أرد على من يقول: "أنتم افعلوا مثل ما فعل قبل أن تنتقدوا"، وكأني كلما فعلت خيرًا سأصوره لك وأنشره على الملأ حتى أثبت لك أني أفعل الخير، أو كأنه مسموح لمثلي أن يجمع التبرعات علنًا لأرسلها للاجئين بطريقة أقتنع بها.
تحليل مقولة "اعتنق الإنسانية ثم اعتنق ما شئت من الديانات"
سأركز بداية على هذه الجملة: "اعتنق الإنسانية ثم اعتنق ما شئت من الديانات". تعالوا نفككها ونرى هل هي حق أم باطل. طيب، ما علاقة هذا بعنوان الكلمة؟ سترى بعد قليل.
التعاون مع الناس على الخير في الإسلام
البعض عندما يسمع "اعتنق الإنسانية ثم ما شئت من الديانات" يفهم منها أن نتعاون مع الناس على الخير ونوصل لهم الخير مهما كان دينهم. في الواقع، ليس هذا معنى عبارة "اعتنق الإنسانية ثم ما شئت من الديانات" والتي سنشرح معناها.
لكن تعال نرى بداية هذا المبدأ الذي يفهمه البعض، مبدأ التعاون مع الناس وإن لم يكونوا على ملة الإسلام، التعاون معهم على إغاثة المحتاج ورفع الظلم، ومبدأ إيصال الخير للناس وإن لم يكونوا على ملة الإسلام. هل هذا المبدأ موجود في الإسلام أم لا؟
النبي صلى الله عليه وسلم مدح حلف الفضول، وهو حلف كان في الجاهلية اتفقت فيه قريش على مساعدة المظلوم ليحصل حقه من الظالم. فالتعاون مع الآخرين وإن لم يكونوا مسلمين، التعاون معهم على إغاثة المحتاجين، هذا من الإسلام.
كان الصحابة يكرهون أن يتصدقوا على المشركين طامعين في أن يسلم هؤلاء المشركون، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ}. يعني أنتم حين تتصدقون فإنكم تتصدقون لوجه الله تعالى على كل من سألك من كل دين.
أي معنى جميل يا كرام، أي معنى جميل صحيح فإنك ستجده في الإسلام. قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء". "من في الأرض" هكذا بعموم من أهل الأديان. فما الشيء الذي تضيفه الإنسانية حتى نعتنقها قبل أن نعتنق الإسلام؟
مفهوم الإنسانية كدين
ثانيًا، هذه العبارة "اعتنق الإنسانية" ما معناها؟ يعني خلِّ الإنسانية هي المحرك والدافع لأعمالك، هي معيارك في النظر والحكم على الأشخاص والأفعال والمبادئ، هي المرجعية. طيب، هذا تعريف ماذا؟ هذا هو تعريف الدين بالضبط. الدين هو الدافع والمحرك وهو المعيار والحكم على كل شيء وهو المرجعية المطلقة. يعني يا بوفلة، معنى كلامك أنه مطلوب منا نعتنق دين الإنسانية؟
هنا تأتي عدة أسئلة: هذه العبارة كثيرًا ما تستخدم بمعنى "نحِّ الدين جانبًا في التعامل مع الناس، لا تعاملهم بمعايير دينك وإنما بمعايير الإنسانية". فهل هذا هو المطلوب؟ ثم ما هو دين الإنسانية؟ عرّف لي إياه، عرّف لي هذا الدين. هل هناك كتاب مقابل القرآن اسمه "دين" أو "كتاب الإنسانية"؟
هل الإنسانية هي الإنسانية الغربية التي ترى العلاقات الجنسية بين الرجل والرجل إنسانية، وترى حمل المرأة من حرام لا يعارض الإنسانية، وترى إجهاضها لجنينها وهو نفس فيه روح لا يعارض الإنسانية؟ أم هل هي الإنسانية الصينية التي ترى حرق البشر بعد موتهم لا يعارض الإنسانية؟ مش المعاني الإنسانية تتغير عند الناس؟ فما لم يكن إنسانيًا أمس أصبح إنسانيًا اليوم.
أليس كل خير فيما يسمى الإنسانية إنما هو من بقية الدين الصحيح والفطرة؟ وإلا فالناس ستغير معاييرهم والصواب والخطأ عندما يبتعدون عن الدين الصحيح والفطرة.
الإنسانية والديانات الأخرى
كمان لما تقول: "اعتنق الإنسانية ثم اعتنق ما شئت من الديانات"، يعني الذي يعتنق الإنسانية يكون ناجيًا، من دخل الإنسانية فهو آمن ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، مهما اعتنق من الديانات حتى لو أشرك وعبد البشر أو الحجر أو البقر أو النار أو الفئران؟
ثالثًا، ما دمنا وضحنا أن اعتناق الإنسانية في هذا السياق يعني فعليًا اتخاذها دينًا، اتخاذها محركًا ومعيارًا ومرجعية، إذن ماذا بقي للإسلام؟ هل الإنسانية لا تتعارض مع الإسلام أو هي نفسها الإسلام؟ إذا كانت هي نفسها الإسلام، إذن كيف يعتنقها أهل الأديان الأخرى؟ وإذا كانت الإنسانية تتعارض مع الإسلام، فكيف أعتنقها ثم أعتنق الإسلام؟
يعني أنا لما أتبرع، هل أنوي في قلبي أني أتبرع لأجل الإنسانية ثم لوجه الله؟ إذا كان كذلك، ففي الحديث الذي رواه مسلم قال الله تبارك وتعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه". أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه.
قد تقول: "لا، أنا إنساني لوجه الله". في الآية التي تلوناها عن الإنفاق على أهل الأديان، قال الله تعالى: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ}، مش لوجه الإنسانية، لوجه الله. إذا تريد أن تعمل الخير لوجه الإنسانية، فخل الإنسانية هذه تبارك في حياتك وتدخلك جنتها. أما إذا كنت تريد وجه الله، فالله حدد لك ما الذي يقبله فقال: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}، وقال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
الذي يعتنق الإنسانية لن تقبل منه تبرعاته وهو في الآخرة من الخاسرين. في صحيح مسلم قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: "يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذاك نافعه؟" فقال رسول الله: "لا ينفعه إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين". ابن جدعان لم ينفعه عمل الخير مع أنه كان إنسانيًا لأنه لم يقصد وجه الله وحده بأفعال الخير هذه.
إذن هي ثلاث احتمالات: لله وللإنسانية، فالله أغنى الشركاء عن الشرك وعملك من جانب الله مرفوض. أو للإنسانية هذا المفهوم المائع المتقلب والذي أحيانًا يقصد به أن نعمل أعمالًا هي حرام في دين الله، وأن نقر أهل المنكرات على منكراتهم، ونساوي بين المسلم والكافر في كل الأحكام. حينئذ خلِّ الإنسانية تنفعك. أو أن نعمل الأعمال لله، وهذا يتضمن كل خير.
بل عندما يعمل الناس الخير لوجه الله فهذا أضمن لاستمراره مع كل الظروف، لأنهم يرجون به جنة ويخافون نارًا ويتقربون بهذا الخير لرب عظيم الصفات. بينما لما تعمل الخير لأجل الإنسانية، فبكرة لما تضيق الظروف الاقتصادية قد تجد كثيرًا من الإنسانيين مستعدين للنهب والسرقة لأنه بالنسبة لهم {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}. الإنسانية لم تعد لهم جنة حتى يضحوا من أجلها. وإذا فعلوا الخير في الظروف الصعبة فلما لديهم من بقية تعاليم الدين وآثار الفطرة.
عندما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، كانوا يحبون، كان الأنصار يحبون من هاجر إليهم ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ما عاملوا إخوانهم المهاجرين معاملة لاجئين، بل إخوانًا شاطروهم أموالهم ولو كانوا قليلي المال ولو كان بهم خصاصة. هذا النموذج الرائع دافعه العمل لوجه الله وليس الإنسانية.
شوف لما الصحابة كرهوا أن يتصدقوا على أقربائهم من المشركين، فحضهم الله على هذه الصدقة. ماذا قال في آخر الآية التي تلوناها؟ قال هذا أعظم ضمان لاستمرار الخير مع كل الناس.
الإسلام كدين شامل
رابعًا، الإسلام دين، دين يعني تدين به، يعني تخضع له بحيث يكون هو الحكم الوحيد. لما تقول: "اعتنق الإنسانية ثم اعتنق ما شئت من الديانات"، يعني كأن الإسلام تابع، حاجة ثانوية هكذا، إذا اعتنقت الإنسانية فالإسلام زائد، مثل مثل النصرانية واليهودية والبوذية وعبادة البقر، النجائن ما هي في الإنسانية والإسلام ملهوش لازمة.
دين الله ليس كذلك. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} يعني ادخلوا في الإسلام في كافة تشريعاته وجزئياته. وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}. الإسلام يعني التسليم والخضوع لله.
التعامل مع أهل الأديان فصله الإسلام. قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}. وقال عليه الصلاة والسلام: "فالإسلام أعطى للمسلم حقه وللمشرك حقه ولأهل الأديان حقوقهم". فمسألة التعامل مع الآخرين بالحق والعدل موجودة في الإسلام ولن تجدها في دين الإنسانية الهلامي.
خطورة مساواة الإسلام بالديانات الأخرى
خامسًا، لا يصح أبدًا أن تضع الإسلام والديانات الأخرى في سلة واحدة. فدين يصف الله بما يليق به سبحانه، دين الحق، لا يوضع في سلة مع أديان تصف الله بأنه نام واستراح وصرخ كالثملان وصارع يعقوب حتى كاد يعقوب أن يصرعه. لا يجوز أن نجامل أهل الأديان فنسيء إلى ديننا بهذا الشكل، فالأدب مع دين الله أولى.
وإذا قال قائل: "نحن نحتاج أن نحي الديانات أو نجعلها في مرتبة ثانية لأنه مورس الظلم والقتل بغير حق باسم الديانات"، فهذا نقول له: كل هذا محسوب على المسيء ولا يسيء للإسلام نفسه، لا يسيء للإسلام نفسه. وحتى تعرف كيف أن الانسلاخ عن الإسلام يضيع كل المعاني الجميلة فتابع سلسلة "كن عزيزًا بإسلامك".
لما يكون هناك تمييع للإسلام يا أبو فلة، ودعوات لما يسمونه الدين الإبراهيمي، وإبراهيم عليه السلام بريءٌ منه، يصبح من الضروري أن تكون حذرًا في كل كلمة تقولها تصب في هذه الأجندات.
أثر النية على قبول الأعمال
أهمية الإخلاص لله وقصة ابن جدعان
ختامًا، كلمتنا هذه هي بعنوان "حتى لا تذهب كل تبرعات حملة أبو فلة هباءً". ما علاقة كلامنا كل الذي ذكرناه بهذا العنوان؟ الناس غضبوا لما أعلنت مفوضية اللاجئين أن نصف التبرعات سيخصص لدعم جهود المفوضية للوصول إلى اللاجئين، فما بالكم إذا ذهبت كل التبرعات هباءً؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". فإذا كانت النية هي للإنسانية ثم لله، فالله مستغن عنها ولن تنفع أصحابها في الآخرة كما لم ينتفع ابن جدعان.
خاتمة
أسأل الله أن يهدي ويوفق أبو فلة ومتابعيه للخير ولعمل صالح خالص متقبل. والسلام عليكم ورحمة الله.