مقدمة: الإيمان الأعمى الدارويني
السلام عليكم. في هذه الحلقة نجيب عن سؤال: هل أي من الظواهر الفطرية ثبت أن لها أسبابًا تطورية؟ أم أن الملحدين والتطوريين يؤمنون إيمانًا أعمى يسدون به فجواتهم المعرفية؟
يعني الملحدون حين أنكروا وجود الله، وبالتالي أنكروا أن هناك فطرة فطر الله الناس عليها، وقعوا في مأزق أنهم لا يملكون تفسيرًا لأي من الظواهر الفطرية، كنزعة التدين أو النزعة الأخلاقية والشعور بالغائية والإرادة الحرة والغرائز. فهي ظواهر غير مادية في الظاهر.
لذا فقد بحثوا عن تفسيرات مادية لها، وادعوا أن كل هذه الظواهر لها أسباب مادية ضمن إطار التطور الدارويني. فإما أن تكون الظاهرة الفطرية المعينة ناتجة عن جين معين أو مجموعة جينات، وإما أن تكون ناشئة عن صفات أخرى متعلقة بالجينات انتخبتها الطبيعة، أو أن الظواهر الفطرية أو الظاهرة الفطرية المعينة قد تم انتخابها داروينيًا دون أن نعرف كيف ظهرت هذه الظاهرة ابتداءً، لكنها ظهرت ثم انتخبت.
والسؤال: هل ادعاؤهم هذا عليه دليل علمي؟ أما الاحتمال الثالث "لا نعرف كيف ظهرت"، فإحالة على مجهول، عبارة لا يقبلها الملحدون من المؤمنين بالله في تفسير الظواهر.
الظواهر الفطرية والتفسير المادي
يبقى التفسير الذي يمكن فحصه واختبار صحته هو ربط الظواهر الفطرية بالجينات. حتى تدعي أن صفة ما في كائن ما لها علاقة بجين معين، فهناك طرق علمية محددة لإثبات وجود هذه العلاقة.
الربط بالجينات: الطرق العلمية
الطريقة الأولى هي إضافة جين (Gene Insertion) للبويضة المخصبة أو حذف جين (Gene Deletion) ومتابعة ما إذا أدى ذلك إلى ظهور أو اختفاء صفة معينة. وهذا ممكن في الحيوانات، مثل ما يسمى بالفئران محذوفة الجين (Knockout Mice) مثلاً. لكن لم يتم إجراؤه في الإنسان، بالإضافة إلى أنه يدخلها عوامل معقدة كالآليات التعويضية (Compensatory Mechanisms) والتي قد تعوض عن الجين المحذوف مثلاً.
تبقى الطريقة الممكنة في الإنسان هي أن تجري مسحًا جينيًا وتثبت أن المتصفين بصفة أو نزعة معينة لديهم جين ليس لدى الآخرين الذين لا يمتلكون هذه الصفة أو النزعة، أو أن لديهم جينات يحصل لها تمثيل (Expression) بشكل مختلف عن الآخرين فيما يعرف بالوراثة فوق الجينية (Epigenetics) مثلاً. وهذه الطريقة ربطت بعض الصفات الجسمية والأمراض بأسباب جينية.
درونة كل شيء: الظواهر الفطرية
طيب، نعود فنقول: الملحدون والداروينيون أجروا عملية "درونة" (Darwinization) لكل شيء، وكان مما درونوه الظواهر الفطرية. وهناك قائمة طويلة من الكتب التي قامت على هذا الأساس، مثل: "الجين الإلهي"، "الأساس التطوري للنزعة الأخلاقية"، "الأساس التطوري للحرية"، "نظرة داروينية للمحبة من قبل الوالدين"، "تطور الرغبة الجنسية التزاوجية"، وغيرها الكثير.
الآن، فلنتجاوز دعوى الداروينيين أن هناك صفات ظهرت بطرق لا نعرفها لكنها انتخبت، لأن عبارة "لا نعرفها" ليست علمًا يختبر. يبقى الربط بالجينات. فنقول بناءً على ما تقدم من الطرق العلمية لإثبات العلاقة الجينية بالصفات، هل أي من ادعاءات هذه المؤلفات عليها دليل علمي؟ هل تم تحديد أي جين مسؤول عن أية نزعة فطرية؟
نقد الادعاءات الداروينية
غياب الدليل العلمي على الجينات المسؤولة
والجواب الصادم: لا. إنما هي ادعاءات لا أساس علمي لها، يعني إيمان أعمى دارويني. فهذه المؤلفات تتجاوز سؤال "هل يوجد سبب مادي بالفعل للظاهرة الفطرية؟" وتعتبر الإجابة عنه محسومة ووجوده حقيقة مسلمة، وتنتقل إلى مواضيع مثل مناقشة فائدة وجود الظاهرة الفطرية تطوريًا في كلام إنشائي عقيم.
نقد الداروينيين أنفسهم
هذه الدرونة لكل شيء بلا دليل انتقدها حتى بعض الداروينيين الملحدين أنفسهم، ومنهم بروفيسور البيئة والتطور الملحد الدارويني جيري كوين (Jerry Coyne)، حيث في كتابه المعنون "لماذا التطور حقيقة؟" قال كوين: "هناك ميل أخذ في التزايد بشكل مزعج من قبل علماء نفس وبيولوجيين وفلاسفة لدرونة كل جانب من الجوانب السلوكية للإنسان، لتتحول تلك الدراسات إلى لعبة علمية جماعية. إن إعادة تشكيل الطرق التي يحتمل أن الأشياء تطورت من خلالها اعتمادًا على الخيال الواسع ليست علمًا، إنها مجرد حكايات".
حالة "الجين الإلهي" لدين هامر
طيب، كاستثناء نرى دين هامر (Dean Hamer)، وبخلاف باقي المؤلفين، قد تكلم عن جين معين لتفسير نزعة التدين لدى الإنسان. لكن هامر هذا، كما سنرى، بطل الادعاءات التي لا دليل عليها، بل يكذبها باقي الباحثين. أقام كتابه "الجين الإلهي" على دراسة واحدة مدعاة لم ينشرها ولم تتكرر نتائجها مع أي باحث بعده حاول تكرارها، كما نص كارل زيمر (Carl Zimmer). حتى أن بعض الملحدين أنفسهم سخروا من ادعاءاته قائلين: "لا يوجد إله ولا جين إلهي".
تعقيد العلاقة بين الجينات والصفات
والحقيقة أن الذين يدعون أنه يمكن العثور على جين معين مرتبط بنزعة فطرية معينة، هؤلاء إما أنهم جاهلون بعلم الجينات جهلاً مخزيًا مهما حملوا من ألقاب الدكتوراه، أو أنهم يخادعون جمهورهم. فمعلوماتنا من سنوات عن ارتباط الجينات بالصفات أنه أعقد بكثير مما كنا نظن، كما في هذه الورقة العلمية المنشورة في مجلة "نيتشر" المعروفة عام 2008، والتي تبين أن فك الشفرة الوراثية في مشروع "هيومان جينوم" خيب آمالنا، حيث وجدنا أنه حتى الصفات الجسمية كطول القامة والأمراض العقلية كالشيزوفرينيا، والتي يظهر أن لها ارتباطًا بالوراثة، حتى هذه لا يمكن عزوها إلى جين ولا حتى إلى مجموعة جينات معينة، وأن الأمر أعقد بكثير مما كان يدرس في المدارس والجامعات.
وتنص دراسات أخرى على أن صفة سلوكية واحدة قد تكون مرتبطة بآلاف الجينات التي يسهم كل منها في هذه الصفة إسهامًا طفيفًا. وتعترف الدراسات مع ذلك بعدم القدرة على تحديد هذه الجينات المفترضة، هذا إن سلمنا لهم بأن هناك ارتباطًا أصلاً. فالموضوع من الواضح أنه شديد التعقيد والغموض.
ومع ذلك يأتي أمثال هامر ليقولوا لك "الجين الإلهي"، وترى في الإعلام الغربي عناوين مثل: "هذا الجين المحدد يقرر إذا ما كنت ستصوت لصالح الجمهوريين أو الديمقراطيين"، في تسطيح للموضوع واستسخاف واستغفال لعقول الناس. وإن كنا لا نستغرب أن تمر هذه الادعاءات المضحكة على عقول بعض الشباب البعيد عن الأجواء العلمية، فمن العجيب حقًا أن يتداولها أشخاص لديهم أدنى مبادئ البحث العلمي أو أطباء أو طلاب في المجال الطبي والحيوي.
المغالطات الداروينية والإيمان الأعمى
وقبل أن أتابع، أود أن أقول: لا أرى مانعًا من الناحية النظرية من أن يخلق الله تعالى في الإنسان جينات تعينه على تكوين النزاعات الفطرية. وقد بينا في الحلقة الرابعة من السلسلة لماذا أن هذا إن وجد بالفعل، فإنما هو دليل آخر على وجود الخالق وعظمته.
المعيوب في التفسير المادي
لكن المعيب بالفعل، المعيب جدًا، هو أن يقيم الماديون تفسيرهم للظواهر الفطرية على أساس وجود هذه الجينات أو على طرق تطورية لم تكتشف بعد كبديل عن وجود الخالق، وهم لا يملكون دليلاً عليها، فينفون ما قامت الأدلة كلها عليه بحجة ما لا دليل عليه.
المعيب هو أن ينكر علينا الملحدون إيماننا الغيبي بوجود الله وقد دلت الأدلة عليه، بينما لا يجدون حرجًا من الإيمان الغيبي بوجود هذه الجينات أو التفسيرات التي لم تكتشف بعد ولا دليل لهم عليها.
المعيب هو أن يدعي الملحدون أن إيماننا بوجود الخالق هو من قبيل سد الفجوات المعرفية، أي أننا لا نعرف سبب بعض الظواهر فنفترض وجود الله لتفسيرها. وهذا ليس صحيحًا في المنظومة العقدية الإسلامية، بينما الملحدون يمارسون هذا الإيمان الأعمى الدارويني لتفسير ظواهر فشلت ماديتهم في تفسيرها.
نفوا وجود الخالق فكان لا بد من بديل، البديل المادي الذي ينفي الروح والفطرة. فبنوا على هذا البديل قصورًا ومزاعم وقصصًا وألفوا كتبًا وأقاموا محاضرات على لا شيء، على وهم كبير. فهل هناك إيمان أعمى أكثر من هذا؟ هل هناك تأجير عقل أكثر من هذا؟ هل هناك تحيز علمي وأحكام مسبقة أكثر من هذا؟
المصادمة مع الواقع والعلم التجريبي
هذه التهم التي يرمون بها المسلمين، هل هناك من هو أولى من هؤلاء الملحدين والداروينيين بها؟ يدعون خصومة بين الإسلام والواقع، وخصومة بين الإسلام والعلم التجريبي، مع أنهم في قولهم مثلاً: "لا إرادة حرة لدى إنسان بل تحركه الجينات"، تتجلى قمة المصادمة للواقع الذي يفرض أن الإنسان لديه إرادة حرة مهما أنكروا، ويتجلى عدم احترام العلم التجريبي في دعاوى الجينات بلا دليل. وهذا كله ضريبة معاندة الأدلة الفطرية على وجود الله تعالى.
خاتمة: تضليل باسم العلم (تمهيد للحلقة القادمة)
اقتربنا بهذا من نهاية الحديث عن الأدلة الفطرية، ولا نريد أن نستطرد كثيرًا ونبتعد عن الموضوع. لكن نود أن نذكر مثالاً للتضليل الذي يمارسه الملحدون والداروينيون باسم العلم، وهو تبرير الشذوذ الجنسي بادعاء وجود أساس جيني له. لنرى مثالاً أخيرًا من ضرائب التنكر لفطرية الغرائز البشرية ومحاولة تفسيرها تفسيرًا ماديًا بحتًا، وهو ما سنناقشه في الحلقة القادمة بإذن الله. والسلام عليكم ورحمة الله.
خاتمة: تضليل باسم العلم (تمهيد للحلقة القادمة)
اقتربنا بهذا من نهاية الحديث عن الأدلة الفطرية، ولا نريد أن نستطرد كثيرًا ونبتعد عن الموضوع. لكن نود أن نذكر مثالاً للتضليل الذي يمارسه الملحدون والداروينيون باسم العلم، وهو تبرير الشذوذ الجنسي بادعاء وجود أساس جيني له. لنرى مثالاً أخيرًا من ضرائب التنكر لفطرية الغرائز البشرية ومحاولة تفسيرها تفسيرًا ماديًا بحتًا، وهو ما سنناقشه في الحلقة القادمة بإذن الله. والسلام عليكم ورحمة الله.
The transcript is complete. There is no more content to add.