→ عودة إلى رحلة اليقين

الحلقة 14 - الله غيب. هل معناه أن وجوده غير يقيني ؟

٩ سبتمبر ٢٠١٧
النص الكامل للمقطع

السلام عليكم.

مقدمة: مفهوم الغيب الخاطئ

من المفاهيم الخاطئة والخطيرة، أنَّ كون الإيمان غيبياً يعني أنه شيء غير يقيني، ليس أكيد، احتمال كبير جداً لكن لا تستطيع أن تقول مائة بالمائة. يقولون لك: لا أحد يستطيع أن يجزم بصحة ما لديه وخطأ الطرف الآخر لأنه غيب في النهاية.

وترى من يطبق ذلك حتى على المسألة الكبرى، على وجود الله تعالى، ويقول: الإيمان هو أن تؤمن بشيء دون وجود كل الأدلة الحاسمة والقاطعة عليه. الإيمان يحتاج إلى "leap of faith" يعني قفزة إيمان إلى شيء لا يمكن البرهنة عليه بشكل قطعي. الإيمان يحتاج هذه القفزة الشجاعة في الفراغ.

ومثل هذه العبارات التي تجعل الإيمان بوجود الله وبالغيب عموماً أمراً حَدَسيًّا، تخمينيًّا، لا قطعيًّا يقينيًّا. تجعله أمراً بغلبة الظن، احتماله كبير لكنه دون المائة بالمائة. فهل الإيمان بوجود الله هو كذلك فعلاً في المنظومة الإسلامية؟

الإيمان بوجود الله: يقين لا شك فيه

يقيناً لا، بل الإيمان بوجود الله هو إيمان بما تدل الأدلة عليه بشكل قطعيٍّ حاسم لا يقبل الشك ولا التردد. وكونه غيباً لا يعني أبداً أنه لا يمكن الجزم به. غيب لا يساوي مبهم أو غامض، ولا يعني أن الإيمان بالله هو موقفٌ عاطفيٌّ تسليميٌّ محض، بل هو موقفٌ برهانيٌّ، استدلاليٌّ، فطريٌّ، عقلي.

الإيمان بوجود الله هو إيمانٌ يدلك عليه العقل والفطرة دون أن يمنعك مرض القلب أو اتباع الهوى. والغريب أن هذه المسألة التي هي أولى بديهيات الإسلام ليست واضحة عند بعض من يتصدى لمحاربة الإلحاد.

إن كان الإيمان بالله عند بعض أتباع الأديان الأخرى قد اختلط بصورة مشوَّهة عن الله تعالى وصفاته، ممَّا جعل أتباع هذه الأديان يحتاجون القفز في الفراغ والتسليم غير المستند إلى العقل، فنحن لا نحتاجه في الإسلام والحمد لله.

هذه الحلقة للمسلمين وهي أيضاً للمتشككين الذين قد يظنون أننا ندعوهم إلى الإيمان الحَدَسي العاطفي التسليمي، بل نحن ندعوهم إلى إيمانٍ فطريٍّ عقليٍّ مبرهن. كما أن التسليم الذي ندعو الناس إليه ليس في مسألة وجود الله، التسليم ليس هنا، بل التسليم هو في أمور في تفاصيل الإسلام المبنية على إيمانٍ فطريٍّ عقليٍّ مبرهن.

الأدلة القرآنية على بداهة وجود الله

آية الحجرات: الإيمان بلا ريب

القرآن الذي ندعو إليه يقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) [الحجرات:15]. يعني آمنوا إيماناً يشمل التصديق الجازم الذي لا يخالطه شك، وليس غلبة ظن، ولا إيماناً احتياطيًّا، ولا إيماناً اعتباطيًّا نؤمن هكذا مع أنَّنا نرى أن الأدلة على وجود الله غير قطعية.

الله هو الحق

بل المنظومة الإسلامية تنص على أن وجود الله عز وجل هو الحقيقة الكبرى، بل الله نفسه هو الحق (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) [لقمان:30].

ولشدة بداهة وجود الله تعالى، فإن القرآن لا يجعل هذه القضية محور أدلته ومناقشاته، بل يدلِّل على شيءٍ زائدٍ عن مجرد الوجود كالتوحيد وصفات الله تعالى. أما الوجود نفسه فقضية محسومة.

آية إبراهيم: أفي الله شك؟

(قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم:10]. آيةٌ تتضمن الدليل الفطري والدليل العقلي. أفي الله شك؟ يعني هل في وجوده شك؟ أو هل في وحدانيته شك؟ فوجوده ووحدانيته أمرٌ فطريٌّ مغروس في النفس لا يشكُّ فيه. والبرهان العقلي أنه فاطر السماوات والأرض، فكل ما في الكون يدل صحيح العقل سليم القلب على وجود الخالق.

حوار موسى وفرعون

في محاججة موسى لفرعون: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء:23]. (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ) [الشعراء:24]. يعني بالنظر إلى هذه الكائنات فإن ربّ العالمين أعرف من أن يُنكر وأظهر من أن يُشك فيه. إن كنتم موقنين يعني إن كنتم من أهل اليقين بأي شيء، فإن اليقين بهذا الرب أولى من كل يقين. وإن قلتم لا يقين لنا بشيء فأنتم كاذبون، فكل إنسان لابدَّ له من يقين بأمور بَدَهيَّة ضرورية.

إلى أن قال فرعون: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء:27]. فرد عليه موسى: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) [الشعراء:28]. يعني إن أنكرتم الله فأنتم أولى بوصف الجنون لأنكم سُلبتم العقل النافع. فالعقل ما هو؟ هو في الأساس علوم ضرورية مثل مبدأ السببية، وهي تدل على الخالق سبحانه. فإن كان لكم يقين عرفتم الله، وإن كان لكم عقلٌ عرفتم الله.

آيات الجاثية: اليقين والعقل

بنفس المعنى أيضاً تأمل معي مطلع سورة الجاثية: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [الجاثية:3] (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [الجاثية:4] (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الجاثية:5] (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) [الجاثية:6]

نفس المفاهيم التي في حوار موسى لفرعون: "يوقنون" فالذي عنده يقين فأولى اليقين اليقين بالله وبآياته الكونية. "يعقلون" فمن عنده عقل فلن ينكر ربه ولن تكون عنده مشكلة في أن يؤمن بالغيب. وحينئذٍ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ) [الجاثية:6]. فالذي لا يؤمن بالله وآياته الكونية مع شدة ظهورها فأولى به ألا يؤمن بشيء، لأن الله وآياته أظهر ما يمكن أن يؤمن به إنسان.

(وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21] (لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [يونس:67]

فالذي لا يؤمن بالله كأنه ما أبصر ولا سمع ولا أحس ولا عقل.

خاتمة: الحجة البالغة

وقال تعالى: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ۖ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام:149]. لله الحجة الدالة على صدق كلامه البالغة، يعني الواصلة إلى ما قصدت لأجله وهو أن يغلب الخصم وتبطل حجته. هذا كله في إثبات صفات الله تعالى ووحدانيته وتفاصيل من دينه، فكيف بثبوت وجود الله تعالى نفسه؟ أليس أوَّل اليقين؟ وأولى اليقين؟

في الحلقات القادمة بإذن الله سنزيد في التبيان لماذا وجود الله تعالى أولى بداهية عقلية.

والسلام عليكم ورحمة الله.