كيف يلغي الإلحاد العقل والعلم؟ 2
الإلحاد وإنكار الضرورات العقلية
لذا نقول للملحد: إن كانت الضرورات العقلية لا وجود لها، فكيف تفسر اقتناع الناس كلهم بها؟! بما يدل أنها مكون عقلي راسخ لديهم، بل وعملك أنت والناس في الواقع بها.
يجيبك المنظور الإلحادي فيقول: بما أن الإنسان جاء بالتطور الدارويني، والمحرك في هذا التطور هو الانتخاب الطبيعي والطفرات العشوائية التي تحقق للكائن العيش والبقاء، فما الذي يضمن أن هذه الطفرات طورت لنا عقولًا قادرة على الوصول إلى حقائق الأشياء؟ بل هذه العقول يمكن أن تضللنا، وتجعل بعض الأمور مسلمات عقلية بالنسبة لنا مع أنها مجرد وهم في الحقيقة، وإنما تخدعنا عقولنا لتحقق لنا البقاء!
إذن، فالإلحاد يصل بصاحبه إلى أبعد من إنكار المسلمات العقلية، يصل به إلى التشكيك في مصداقية العقل البشري نفسه. نقول للملحد: إلحادك إذن يقر بأن عقلك يمكن أن يضللك وأن لا يكتشف الحقيقة، فكيف تثق بعقلك إذن؟! أنت في إلحادك كله تقول إنك تستند إلى العقل، وإلحادك نفسه يطعن في مصداقية العقل، ومع ذلك كأنك تقول: أنا أصدق عقلي لأن عقلي -المطعون في مصداقيته- يخبرني أن أصدقه!
هذه الإشكالية العميقة حول مصداقية العقل كانت حاضرة حتى عند داروين "Darwin" نفسه، والذي عبر عن حيرته وانزعاجه من هذه القضية حيث قال: "ينتابني دائمًا شك فظيع حول ما إذا كانت قناعات عقل الإنسان -والذي بدوره تطور من عقول كائنات أدنى- تتمتع بأي قيمة، أو تستحق أدنى ثقة".
لذا فمن الغريب جدًا أن يزعم الملحدون احترام العقل، ويتهموا المتدينين بامتهان العقل، بينما حقيقة الأمر أن الإلحاد يقود -في النهاية- إلى هدم موثوقية العقل نفسه! الملحد يعيب علينا إيماننا بالنبي صلى الله عليه وسلم -والذي عرف بالصدق- مع أننا لم نبن إيماننا على قوله عن نفسه أنه رسول الله فحسب، بل ببراهين خارجية على صدقه ونبوته. وفي الوقت نفسه؛ يصدق الملحد عقله المشكوك في مصداقيته وقدرته على الدلالة على الحقيقة لمجرد أن عقله قال له: صدقني!
الإلحاد وإنكار الحقائق المطلقة
كيف خرج الإلحاد من هذا المأزق؟ مأزق الاعتماد على عقل يمكن أن يضلل عن حقائق الأشياء. أجابك الإلحاد فقال: ومن قال أن للأشياء حقائق مطلقة أصلًا، حتى تضللنا عقولنا عنها؟! كيف إذن؟ قالوا: بل ليس هناك شيء اسمه حقائق الأشياء، وإنما هي قراءة حواس الإنسان لها، كأن الشيء بلا لون، ولا مانع من أن يراه كل إنسان بلونه الخاص، ولا سبيل لأحد أن يخطئ الآخر؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يدعي أن الآخر خالف (الحقيقة)، لأن كل ما يسمى (حقيقة)، إنما هو منتج عقلي بشري لا قيمة مطلقة له مستقلة عن أشخاصنا.
وحتى نفهم الفرق بين كون الحقيقة مطلقة ونسبية... مطلقة: يعني ليست نسبية، يعني هي كذلك في نفسها، يعني لا نحتاج أن نقول بعدها: هي كذلك بالنسبة لفلان. مثلًا: عندما نرسم خطًا كهذا الخط [يظهر الخط على الشاشة] فيأتي من يقول: هما خطان. فإنا نقول له: أنت مخطئ لأنك خالفت حقيقة مطلقة، وهي أنه خط واحد. بينما عندما نقول: هل هذا الخط مفهوم؟ [كتابة باللغة اليابانية] فالجواب: أن كونه مفهومًا أو غير مفهوم ليس مطلقًا؛ فهو مفهوم بالنسبة للياباني وليس مفهومًا لغيره.
التسلسل الذي أدى إليه إنكار وجود الله انتهى باعتبار كل شيء نسبيًا، وهو الذي أوجد البيئة المناسبة لمقولات مثل: أن الحقيقة لا يمتلكها أحد، وأنه ليس هناك حقيقة مطلقة، وأن الحقيقة نسبية... هي نسبية عندهم لأن القول بإطلاق الحقيقة، وبأن للأشياء حقيقة، يستلزم التسليم بوجود سنن هناك من سنها، وضرورات عقلية هناك من فطر الإنسان على ما يشبه البرمجة التي تقبلها، وهم لا يريدون أن يسلموا بهذا كله.
ومع ذلك يردد بعض أبناء المسلمين عبارة: نسبية الحقيقة على سبيل الانفتاح والعقلانية وهم لا يعلمون بأساسها وتبعاتها. ونقول لمن يردد هذه العبارة: (لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة) هل عبارتك هذه حقيقة؟ إن قال: نعم، إذن، فقد أقررت بوجود حقائق مطلقة. وإن قال: لا، أنا أراها حقيقة بالنسبة لي. فنقول له: وأنا لا أراها كذلك، فلماذا تنكر على من يخالفك ويتمسك بالحقائق المطلقة وتعتبر ذلك جمودًا إذن؟!
تبعات الإلحاد على فهم الوحي والعلم
هذه الميوعة -إخواني- وهذه العدمية والعبثية أوجدت كذلك البيئة المناسبة لفكرة (النص المفتوح) أي: التعامل مع نصوص الوحي كنص ليس له حقيقة واحدة يجب على المسلم السعي في إدراكها والعمل بها، بل الفهم نسبي وليس لأحد أن يخطئ الآخر.
بهذا -إخواني- تظهر تبعات الإلحاد حين أنكر كلًا من العبارات المفتاحية التسعة في المقدمة الإيمانية القائلة: خلق الله السماوات والأرض بالحق، ووضع له بحكمته سننًا ثابتة، وفطر الإنسان على فطرة تنتج له مسلمات عقلية بديهية ضرورية، ينطلق منها عقل الإنسان لاكتشاف حقائق الأشياء.
فلدى الملحد: لا الله، فلا خلق، ولا حكمة، ولا سنن ثابتة، ولا فطرة، ولا مسلمات عقلية، ولا عقلًا إنسانيًا موثوقًا، ولا حق ولا حقائق مطلقة، ولا نتائج علمية موثوقة يمكن تعميمها واستنتاج قواعد منها، ولا لغة تخاطب عقلي مشترك، وينفرط عقد كل شيء. ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28].
وهذا كله نتائج الالتزام بإنكار الله تعالى، والذين توقفوا عند دركة من دركات هذا الهبوط فإنما هم تعاموا عن لوازم وتبعات إلحادهم، وتناقضوا مع معتقداتهم.
الإيمان بالله أساس العلم والمعرفة
مما سبق -إخواني- يتبين أنه لا تقوم حقيقة بغير الإيمان بوجود الله تعالى، الذي له الكمال المطلق، والذي أوجد في الإنسان حقائق مطلقة، لا يتوصل إليها بنفسه. ومن هنا نفهم العبارة العميقة لأهل العلم: (العلم بالله أصل للعلم بكل معلوم).
فمن لم يدرك وجود الله تعالى؛ فلن يتمكن برهانيًا أن يؤسس لنظرية معرفية متماسكة، وهذا معنى كلام ابن القيم الذي مختصره: فإنكار صانع الكون وجحده في العقول والفطر، بمنزلة إنكار العلم وجحده لا فرق بينهما، بل دلالة الخالق على المخلوق -عند العقول الزكية المشرقة والفطر الصحيحة- أظهر من العكس. يقصد أن الاستدلال بالخالق على الخلق، أوضح من الاستدلال بالخلق على الخالق.
ثم قال ابن القيم: وسمعت شيخ الإسلام -تقي الدين ابن تيمية- يقول: كيف تطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟ وكان كثيرًا ما يتمثل بهذا البيت: وليس يصح في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ
وتساعدنا حلقة اليوم أيضًا في الجواب عن تساؤل الحلقة الماضية... أثبتنا أن الإنسان لديه إقرار فطري بالخالق، لكن هل هذا الإقرار يعني بالضرورة وجود الخالق؟ فقد بينا -في حلقة اليوم- تبعات إنكار الضرورات الفطرية التي يجدها الإنسان من نفسه ضرورة، وبه أيضًا تدرك لماذا كانت القيمة المطلقة العليا في الإسلام هي الحق الذي بغيره لا تقوم السماوات ولا الأرض، وبه أيضًا تدرك بعمق معنى قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّـهِ أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ﴾ [غافر:69]. كأن الله عز وجل يقول: ألم تر إلى الذين يكابرون في آيات الله الكونية والشرعية إلى أي مصير ينتهون؟ وفي أي وديان الحيرة والضلال يتيهون؟
خاتمة
كانت هذه مناقشة لدلالة البرمجة الفطرية للمسلمات العقلية على وجود الله تعالى. وفي الحلقات القادمة سنناقش دلالات فطرية أخرى بإذن الله تعالى. والسلام عليكم ورحمة الله.