بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله.
إخوة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله. كتعليق مختصر على النقاش حول اقتراض مصر من صندوق النقد الدولي، فأود هنا أن ألفت النظر إلى نقطتين مهمتين ينبغي أن يعطيهما المتابعون حقاً أكثر في النقاش.
النقطة الأولى: نقد الأوضاع القائمة
أولاهما أن البعض يعارض نقد الأوضاع القائمة في مصر على اعتبار أن ذلك يضعف الأحزاب والرئاسة الجديدة أمام العلمانيين والفلول. فلابد هنا من التذكير بأن الآثام أخطر بكثير من هؤلاء الأعداء. فالله تعالى قال: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}، وقال: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}.
فالممارسات التي تحيد فيها الأحزاب عن الهدى والتقوى أخطر عليها بكثير من كيد أعدائها. ولو أن المسلمين حرصوا على تقوى الله، فحينئذٍ إن الله يدافع عن الذين آمنوا. فبدلاً من نهينا عن نقد المنكرات، فليوجه اللائمون جهدهم إلى أصحابها الذين يعرضون أنفسهم لفقدان الحماية الربانية التي تقيهم مكر أعدائهم.
وإلا فلو أننا اكتسبنا معية الله عز وجل، فلن نقيم للعلمانيين والفلول وزناً. فكيف ونحن نتكلم عن منكر يعرضنا لحرب من الله؟ ألسنا جميعاً نعلم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. وقد ذكر ابن جرير الطبري في تفسير الآية: فالحرب تشمل مقترض الربا ومقرضه.
فعجباً ممن يريدنا أن لا نحذر من فعل يعرض لحرب من الله خوفاً من أن يؤدي ذلك التحذير إلى حرب من العلمانيين والفلول. {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ}. فنحن نسعى إلى أن يكون الله معنا، لا أن نفعل ما يتسبب في حربه سبحانه لنا.
إن كنا نريد أن يبارك الله في أرزاقنا، فليس لنا إلا إقامة شرعه. {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}. و{لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}. كما أن قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وعد للمجتمعات والدول كما هو وعد للأفراد.
النقطة الثانية: أبعاد القرض تتجاوز الربا
النقطة الثانية: من السطحية نقاش مشكلة القرض من زاوية أنه ربوي فقط، على الرغم من خطورة ذلك كما تقدم. لكن هناك أمر مهم جداً أيضاً، وهو أن قروض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي - وقد بيّن الكاتب الأمريكي اليهودي نعوم تشومسكي ذلك جلياً في كتابه المهم "What Uncle Sam Really Wants" - ونحن لا نستدل بكتابه ثقة به كيهودي، وإنما لأنه يحشد أدلة ووقائع تبرهن على الاستراتيجيات الأمريكية التي يتحدث عنها.
ذكر الكاتب هذه السياسة الأمريكية في فصل "Devastation Abroad: Our Good Neighbor Policy"، حيث بيّن أن الولايات المتحدة تستخدم المؤسسة العسكرية في دولة من دول العالم الثالث لإحداث فوضى وبلبلة في البلاد تؤدي إلى كارثة اقتصادية. ومن ثم تورث المشكلة لسلطة مدنية، والتي يبدأ صندوق النقد الدولي بابتزازها مقابل القروض.
فيفرض سياسات تخضع البلاد اقتصادياً وتجعل خيراتها نهباً للولايات المتحدة، وتقلل من الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطن، وتعمق هذه السياسات حالة الاستقطاب في المجتمع، بحيث تزيد ثروة الطبقة المنتفعة ذات الولاء للولايات المتحدة على حساب الأغلبية المسحوقة التي لا تزداد إلا فقراً. فيسهل حينئذٍ التحكم بالطبقتين.
ويؤكد هذا المعنى أيضاً جون بيركنز في كتابه "Confessions of an Economic Hitman" (اعترافات قاتل اقتصادي)، حيث بيّن أن الإقراض هو سبيل الولايات المتحدة، وأن هذه القروض تأتي ضمن سياسة متكاملة لاستعباد الشعوب. وأظن أن الله عز وجل حين حرم الربا هذه الحرمة العظيمة، كان من حكمه تعالى علمه بآثارها في استعباد الشعوب.
والأحزاب تتفق معنا على أنه لا قيام ولا نهضة لهذه الأمة إلا إن تحررت من التبعية للغرب. فهل هذا القرض هو خطوة على طريق هذا التحرر؟ وهل إن وصلنا إلى مرحلة تبرير الاشتراك في الحرب على الإرهاب، وتبرير المحافظة على معاهدة كامب ديفيد، وتبرير السماح لسفينتين صينيتين محملتين بالأسلحة لقتل المسلمين بالمرور من قناة السويس، وتبرير الاقتراض من صندوق النقد، إن سمحنا لأنفسنا أن نبرر ذلك كله، فلماذا لا نبرره للأنظمة الأخرى في العالم الإسلامي؟
هل النوايا الطيبة والشعارات الرنانة هي فروقات معتبرة شرعاً تقلب الحرام حلالاً؟ هل هذه هي الخطوات على طريق تطبيق الشريعة؟ ثم ما هو الفارق بين العلمانيين وغير العلمانيين؟ هل هو الاسم فقط؟ أم ظاهر التدين الشخصي؟ أليست السياسات المؤثرة على مستوى الدولة هي الفارق الحقيقي الذي يجعلنا نصف نظاماً بأنه إسلامي أو علماني؟
اللهم إن البلاء طال والناس لجوا في تخبط وظلام، فأبرم لأمة حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم أمر رشد، واهد الضالين من المسلمين، إنك أنت اللطيف الحليم. والسلام عليكم ورحمة الله.