السلام عليكم ورحمة الله.
مقدمة: الميثاق الفرنسي للديانة الإسلامية
أيها الكرام، منذ أسبوع أصدر أفراد مما يعرف بالمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية ميثاقاً للأئمة المسلمين في فرنسا. قبل أن نقرأ نصوصاً منه، يجدر الذكر أن الرئاسة والإعلام الرسمية الفرنسي سارع إلى اعتبار هذا الميثاق ممثلاً للمسلمين في فرنسا. مع أنه من صياغة أفراد محدودين، ومع أن ثلاث هيئات ضمن مجلس الديانة الإسلامية رفضته واعتبرته يمس شرف المسلمين.
ومع ذلك تتناقل الأخبار عناوين مثل: "ماكرون يشيد بإصدار المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية ميثاق مبادئ ضد التطرف". وفرانس 24 تقول: "يبدو أن المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية طوى صفحة الخلافات الداخلية بعد أن أعلن السبت توصله إلى ميثاق مبادئ حول الإسلام في فرنسا". وتقول: "أشاد وزير الداخلية جيرالد دارمانان السبت خلال اجتماعه مع ثلاثة مسؤولين هم الأبرز في المنظمة بالتقدم الكبير المحرز".
إذن يتعاملون مع هذا الميثاق على أنه يمثل مجلس الديانة الإسلامية كله، ويفترضون أنه بالتالي يمثل عموم المسلمين. وهذا كله طبعاً غير صحيح. ولك أن تتصور ما هذا الميثاق الذي يرحبون به بهذا الشكل. اسمع نصوصاً منه، واستحضر قوله تعالى: {حتى تتبع ملتهم}. اسمع حتى تعرف ما الإسلام الذي تريده فرنسا.
تحليل بنود الميثاق
البند الأول: إعلاء قيم الجمهورية على الدين
من البنود: "نعلن رسمياً تبنينا هذا الميثاق الذي يهدف إلى تحديد أصول مهمتنا المتعلقة بالقيم الجمهورية. وفي مطلع هذا نؤكد أنه لا عقائدنا الدينية ولا أي شيء آخر يمكن أن يجعل مكان المبادئ التي هي أساس قانون ودستور الجمهورية".
قد يقول القائل: طيب ما له؟ لماذا تستنكر؟ يعني تريدهم أن يخالفوا القوانين الفرنسية غصباً عن الحكومة الفرنسية؟ يعني تريدهم أن يقولوا للقضاء الفرنسي: "مش هنسمع كلامكم لأن الله تعالى قال، ولأن نبيه صلى الله عليه وسلم قال، فمش هنتبع هذا القانون"؟
مهم جداً هنا إخواني أن تعلموا أن المسألة ليست مخالفة قوانين، بل يريدون من المسلمين إعلاء مبادئ الجمهورية على دين الله تعالى. يعني معروف أن المسلم يحرم عليه أن يخالف شريعة الله ولو التزاماً بالقانون. طيب لنفترض أن هناك حالة للاجئ سياسي مثلاً، ولا يستطيع فعلاً أن يهاجر لبلد آخر، وكان في مخالفته للقانون في مسألة ما تعريض نفسه للخطر، هنا تدرس المسألة فقهياً ونرى إن كان مضطراً حفاظاً على نفسه.
أن يتبنى المسلمون مبدأ أن شريعة الله محكومة لا حاكمة، دنيا لا عليا، وأن المرجعية هي لمبادئ الجمهورية، ويكرس ذلك في الأجيال على أن مبادئ الجمهورية هي الحق وهي العدل، وما يخالفها من الشريعة فهو مجرم وغير قانوني، وتصبح قيم الجمهورية بدل "قال الله وقال رسوله"، ويصبح الإسلام مسخاً مشوهاً لا علاقة له بحياة الناس. فالمسألة ليست حديثاً عن اضطرار، بل عن إبطال حق وإحقاق باطل.
هذا البند يعني ببساطة: نعلن أن كلمة الإسلام بالنسبة لنا هي السفلى، وقيم الجمهورية هي العليا. وتذكروا إخواني أن من قيم الجمهورية حرية السخرية من الإسلام وعرض كاريكاتيرات مستهزئة بنبيك في المدارس، وممنوع تبدي استياءك ولا تفتح فمك ولا تطالب المدرس بعدم عرض ذلك لأطفالك، كما قال وزير الداخلية المعجب بالميثاق.
من قيم الجمهورية السماح بالخيانة الزوجية وتعدد العشيقات والعلاقات المحرمة وتجريم تعدد الزوجات، كما قالت وزيرة المواطنة. وكما قال الدكتور محمد يسري إبراهيم: "إن في هذا التوقيع معارضة للرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً".
البند الثاني: المساواة أمام القانون وتقديم القواعد العامة
أيضاً إخواني جاء في البند الثاني: "مبدأ المساواة أمام القانون يوجب علينا احترام القواعد العامة وتقديمها على جميع الضوابط والقواعد حتى وإن كانت مأخوذة من عقائدنا وتأويلاتنا الدينية، حتى وإن كانت مأخوذة من عقائدنا وتأويلاتنا الدينية".
قد يقول القائل: طيب ما له؟ تريدهم كأقلية أن يقولوا للدولة الفرنسية: "سنفرض عليكم ديننا ونجعل فرنسا إسلامية"؟ فنقول: هل المسلمون أصلاً كانوا قد فرضوا شيئاً على الشعب الفرنسي؟ طبعاً لا. وإنما كان لديهم بعض المساحة في ممارسة شعائر دينهم في شؤونهم الشخصية. وهذه المساحة يراد أن تسحب منهم تحت شعار قيم الجمهورية.
بكرة لو قالت الدولة الفرنسية للمسلمين المتمسكين ببقايا دينهم: "أنتم تشوهون قيم الجمهورية في قلوب أبنائكم"، ثم أرادوا سحب الأبناء حتى يربوا تحت أعين الدولة على قيم الجمهورية، ما يطلعش للمسلم يعترض، لأن قيم الجمهورية هي العليا. ويحصل لأبناء المسلمين كما يحصل في معسكرات الشيوعية في الصين.
البند الثالث: الدعوة المفرطة للدين وترك الإسلام
أيضاً في البند الثالث: "الدعوة المفرطة إلى الدين التي تؤذي الضمائر تضاد حرية العقل والقلب التي يتميز بها شرف الإنسان". أيضاً في البند الثالث: "الموقعون على هذا الميثاق يعاهدون على عدم تجريم ترك الإسلام وعدم وصفه بالردة، فضلاً عن الكلام الإنكاري عن الذين يختارون ترك دين من الأديان".
إذن في المحصلة: ممنوع تدعو إلى دينك بإفراط، وإذا استهزأنا بدينك وشوهناه وافترينا عليه ونفرنا أولادك عنه ممنوع تعترض. وإذا واحد من المسلمين بما فيهم ابنك ولا بنتك ترك الإسلام فممنوع تنكر عليه، وعليك أن تعترف بأن قيم الجمهورية فوق الإسلام.
التعامل الإعلامي مع الميثاق وتداعياته
هذه هي بنود من الميثاق الذي أشاد به ماكرون ووزير داخليته، ويراد أن يصبح الآن المسطرة التي يقاس بها المسلمون في فرنسا. اللي موافق فهو معتدل، والذي يعارضه فهو متطرف. {لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا}. والآن الميثاق مكتوب عليه أسماء التجمعات الإسلامية لمطالبتها ومطالبة أئمة المساجد بالتوقيع عليه.
كيف تعرض قناة الحرة مثلاً الخبر؟ تقول: "أشاد الرئيس إيمانويل ماكرون الاثنين بقادة المسلمين الفرنسيين" - أصبحوا دول الثلاثة اللي كتبوا الميثاق قادة المسلمين - "بقادة المسلمين الفرنسيين بعد أن وافقوا على شرعة مبادئ، شرعة مبادئ تهدف إلى محاربة التعاليم المتطرفة التي ينسب إليها تصاعد الهجمات الجهادية في فرنسا خلال السنوات الأخيرة. ويأتي صدور شرعة المبادئ مع مناقشة البرلمان الاثنين مشروع قانون لمحاربة التطرف الإسلامي الخبيث".
شوف التعبير: "مشروع قانون لمحاربة التطرف الإسلامي الخبيث". ألا لعنة الله على الخبثاء. شوف كيف يعرضون الخبر حتى يرهبوا مسلمي فرنسا ويجبروهم على التوقيع، وإلا فالتهم المعلبة جاهزة لوصفك بكل سوء وبأنك متصل بالخارج وتروج للإسلام السياسي وتدعم التطرف الخبيث. مع أن الكلام كله هو الآن عن محافظة المسلمين على ممارسة شعائرهم الخاصة. محدش قال يؤذوا الشعب الفرنسي ولا يرهبوه، بل مطلوب دعوتهم لدين الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة وحسن الخلق والصدق في التعامل معهم. لكن حتى هذا مش عاجب، ويراد تجريد المسلمين منه.
وطبعاً إذا نجحت التجربة الفرنسية في سلخ المسلمين عن دينهم فقد تكون قدوة لدول كثيرة، ولذلك يحتفي إعلام الحرة وغيره بها.
الموقف الشرعي المطلوب من المسلمين
طيب ما الموقف المطلوب من المسلمين؟ واضح تماماً: رفض هذا الميثاق والإعلان بأنه لا يمثلنا. وقد بدأت بذلك عدة هيئات، ولينبذوا الخلافات بينهم فالأمر الآن أكبر من كل الخلافات الفرعية.
التعامل مع خيار الطرد من فرنسا
طيب ماذا إذا تم طردنا من فرنسا بعد ذلك؟ نقول لإخواننا في فرنسا: نحن نحضكم على استثمار المساحات المتاحة إلى أبعد مدى، وجمع الكلمة والاستعانة بالله وعدم الاستسلام. فإذا لم يبق خيار إلا التنازل عن دينكم أو ترك الأراضي الفرنسية، فوالله يا إخواني هذه الأراضي غير مأسوف عليها أبداً. لأن البقاء فيها مع القبول بهذه الشروط يعني الانسلاخ من الدين لكم وللأجيال القادمة بشكل أوضح وأشد.
تذكروا قول الله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا}.
حكم الإقامة في بلاد غير المسلمين
الإقامة في بلاد غير المسلمين اختلف فيها الفقهاء على قولين: فقال بعضهم بالحرمة مطلقاً، وقال آخرون: يجوز للمسلم أن يقيم حيث شاء بشرطين: الاستقامة على أمر الله وإظهار الدين، الاستقامة على أمر الله وإظهار الدين. هذا الميثاق معناه الحرفي الميل عن أمر الله وعدم إظهار الدين، بل إظهار مسخ مشوه لا علاقة له بالإسلام. فيجب على المسلم ألا يبقى في مكان يعلم أنه لا يستطيع فيه الاستقامة وإظهار الدين.
نحن هنا إخواني نتكلم عن حكم شرعي لا عن خيار. {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً}.
الرد على شبهة "رجال الدين"
طيب مش هؤلاء الذين صاغوا الميثاق رجال دين؟ لماذا لا نضعها في رقابهم وخلاص؟ لا، أنت مسلم لا تسلم دينك لأحد، وإلا كنت كـ {الذين قال الله فيهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم}. لماذا يخبرنا الله بأحوال أهل الكتاب حتى لا نفعل مثلهم؟
طيب هو يعني هل هناك الآن بلد يحكم شريعة الله حتى نذهب إليها؟ لا، لكن هناك بلاد تستطيع فيها أن تمارس دينك دون أن تسلِّم نفسك وأولادك لمحاكم التفتيش هذه، ولهذه الشروط المذلة المهينة. وتذكَّر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوْ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةَ}.
الخلاصة والتذكير بالآخرة
وتذكَّروا في النهاية يا إخوة أنه {ومن يتَّق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب}. وتذكَّروا أن الدنيا دار عبور والآخرة خير وأبقى. نسأل الله أن يوفق إخواننا وأخواتنا في فرنسا لما يحب ويرضى، وأن يدفع عنهم الكيد ويثبتهم على دينهم. والسلام عليكم ورحمة الله.