→ عودة إلى مرئيات

مالي وشعلة الحرية

٢٦ يناير ٢٠١٣
النص الكامل للمقطع

السلام عليكم ورحمة الله.

نود في هذه الكلمة أن نستعرض دوافع الصراع في مالي والتوقعات المستقبلية لها وواجبنا تجاهها.

تاريخ مالي الإسلامي والاحتلال الغربي

بدايةً، مالي من حواضر الإسلام العريقة. أنشئت فيها جامعة تمبكتو الإسلامية قبل حوالي 900 عام، فتُعد بذلك من أقدم جامعات العالم. عاشت مالي في ظل دول مسلمة لقرون، منها مملكة السونغاي التي تحالف سلطان المغرب مع إليزابيث الأولى ملكة بريطانيا لغزوها عام 1591 ميلادي، فدمروا حضارتها واستعبدوا أهلها وعلمائها مثل أحمد بابا التنبكتي.

وما لا يعرفه الكثيرون أن عدداً ممن استعبدهم الغرب الصليبي قسراً في مالي ودول أفريقيا الأخرى كانوا خريجي جامعات وعلماء مسلمين، مثل عمر بن سعيد السنغالي المتوفى عام 1864 ميلادي، والذي لا تزال له صور في الأرشيف التاريخي الأمريكي.

بعد ذلك، احتلت فرنسا مالي في أواخر القرن التاسع عشر ومارست فيها جرائمها، ولم تدعها إلا بعد أن زرعت فيها نظاماً عميلاً تضمن به استمرار سيطرتها على مالي ونهب ثرواتها. وقد قامت الأنظمة المتعاقبة بقهر أبناء الشعب المسلم، خاصة الطوارق والعرب، المتوزعين.

الصحوة الإسلامية وظهور جماعات التحرر

استخدمت الأنظمة أسلوب الاحتواء والدعوة إلى المفاوضات مع الحكومة المركزية وتعليقها بوعود لا تلبث أن يظهر زيفها. ثم ظهرت صحوة إسلامية في أوساط الطوارق، وظهرت جماعات اتضحت رؤيتها وعلمت أن لا خلاص لها إلا بتطبيق الشريعة التي تجمع أبناء العرقيات على كلمة سواء، وتحرر البلاد من التبعية لفرنسا ومن فساد واضطهاد الحكومات المركزية العميلة، وتحقق للمسلمين خير الدنيا والآخرة.

من هذه الجماعات جماعة أنصار الدين بقيادة إياد غالي حفظه الله، والذي كان قد جرب الطرق الدبلوماسية وعمل من قبل قنصلاً لدولة مالي بالسعودية، ثم اعتزل هذه الطرق وأسس جماعة أنصار الدين، والتي تحالفت معها جماعات إسلامية أخرى بالرؤية التحررية ذاتها.

منهج جماعة أنصار الدين وأهدافها

أدبيات جماعة أنصار الدين تتسم إخواني بنقاء منهج وتوازن وحكمة ورحمة وثبات وواقعية، تنم كلها عن وجود علماء أكابر في هذه الجماعة، وعن وجود مشروع حضاري متكامل لديهم على الرغم من قلة الموارد. يظهر ذلك بجلاء في المقابلات مع سند ولد بو عمامة المتحدث الرسمي باسم الجماعة، حيث نص على أن من أهداف جماعة أنصار الدين:

  • بناء المشروع الإسلامي واستئناف الحياة الإسلامية في الأرض التي تحت أيدينا في شتى مجالات الحياة.
  • التركيز على الجوانب الملحة كمجال القضاء الشرعي والتعليم والدعوة والإرشاد.
  • تربية الأجيال على الخلق الإسلامي وتصحيح عقائد المسلمين وأعمالهم.
  • حمايتهم من دعاة الكفر والضلال.
  • بسط الأمن والأمان في الحواضر والبوادي.
  • سد الحد الأدنى من احتياجات الناس المعيشية.
  • إشراك الناس في صناعة هذا المشروع وإقناعهم بأن المساهمة فيه عبادة مفروضة لا مناص للمسلم من أداء ما يطيق منها.

رفض المجتمع الدولي للحوار

هنا إخواني نبدأ بفهم لماذا يتعامل المجتمع الدولي بهذا العنف والدموية ورفض الحوار مع جماعة أنصار الدين وحلفائها.

وزير الداخلية البريطاني السابق تشارلز كلارك في كلمته حول الإرهاب في هيرتج فاونديشن في واشنطن في 25/10/2005 قال: "إنما يحرك هؤلاء الإرهابيين هو الأفكار. إن الحركات التحررية التي نشأت في كثير من أنحاء العالم بعد الحرب العالمية الثانية قامت على أفكار سياسية مثل الاستقلال والمساواة وحرية التعبير. إن مثل هذه الطموحات قابلة للتفاوض وقد تم التفاوض على كثير منها بالفعل. لكن ما لا يتحمل ولا يقبل التفاوض بتعبيره وبتعبيرنا هو إعادة الخلافة. ما لا يقبل التفاوض هو فرض الشريعة. ما لا يقبل التفاوض هو عدم المساواة بين الجنسين".

طبعاً هذه مبررات كاذبة يزجون بها في كل مقام. "ما لا يقبل التفاوض هو منع حرية التعبير. إن هذه القيم هي من أسس حضارتنا وهي ببساطة غير قابلة للتفاوض". مثله تماماً قال رئيس الوزراء الفرنسي بعد الحملة الحالية: "نتفاوض مع من؟ مع إرهابيين استقروا في شمال مالي يفرضون قانون الشريعة، يقطعون الأيادي، ويدمرون مباني معتبرة من التراث الإنساني" يقصد الأضرحة التي تُعبد من دون الله.

طبعاً إخواني، ما عاد عاقل يغتر بحرص المجتمع الدولي على حقوق المرأة وهي يُنتهك عرضها في سوريا لسنتين، وحرصه على حرية التعبير بينما يُذبح السوري بالسكاكين لهتافات هتف بها، ويُشوى مسلمو بورما ويُقطعون.

نجاح النموذج الإسلامي في مالي

فالمسألة الإعلامية التي عملت طويلاً على تشويه مفهوم الشريعة. إخواننا في أنصار الدين كانوا إذا ما دخلوا منطقة نشروا فيها الأمن ورحموا الناس وأوقفوا الضرائب والاستغلال ووزعوا الموارد بالتساوي وحفظوا لأهل الأديان الأخرى حقوقهم وآثروا الضعفاء على أنفسهم.

نجاح هذا النموذج بأرض مالي يتيح للشعوب المجال أن تقارن بالأنظمة الوضعية التي أفلست إنسانياً وجرّعتها الويلات، ويحرم الغرب من سرقة ثروات البلاد. كذلك الأنظمة العربية لا تتحمل نجاح هذا النموذج الذي سيصبح نبراساً ومثالاً يُحتذى للشعوب الباحثة عن الكرامة، وسيكشف زيف فتاوى ولاية الأمر ومرحلة الاستضعاف والمصلحة والمفسدة، و"ليس بالإمكان أفضل مما كان".

لذا فقد أوغلت هذه الأنظمة في الخيانة والتواطؤ مع فرنسا ضد أنصار الدين. فالمسؤولون في دول المسلمين الثرية الذين كانوا يهدرون الأموال بترف بينما يموت مسلمو مالي وغيرها جوعاً، انتبهوا أخيراً إلى وجود هؤلاء الجوعى على الخارطة، فقدموا أموالاً لا لدعمهم بل لإعانة فرنسا على قتلهم وإراحتهم من الجوع.

الحرب والتمحيص

المجتمع الدولي الذي أشرف على نزع فتيل الثورات في مصر وتونس وليبيا وأشرف على انتخاباتها الديمقراطية، لأنه يعلم أنها ستفني أعمار الشعوب في دهاليزها ولن تحررهم من العبودية للغرب، هو ذاته الذي تحرك بعنف ودموية ورفض للتفاوض في مالي، كما فعل من قبل في أفغانستان والصومال، إذ هذه البقاع جميعاً تريد تطبيق الشريعة.

المتحدث باسم أنصار الدين سند بو عمامة قال: "جماعة أنصار الدين في مرحلة تفرض عليها قبول التفاوض والبحث عن حل مع أي طرف له تأثير في هذه الأرض، ولكن بشرط واحد لا تنازل عنه وهو أن لا يكون حجر عثرة في طريق تحكيم دين الله الذي لأجله حملنا السلاح وخضنا الحرب، وما دون ذلك فإننا نقبل النقاش فيه رحمة بالناس، وإعذاراً إلى الله، ورفقاً بإخواننا المجاهدين حديثي العهد بالالتحاق". بل كانت الجماعة قد أثنت على وساطة الجزائر في المفاوضات من قبل، مع أنها تعي جيداً أن الجزائر في النهاية جزء من المنظومة الدولية ومنفذة لسياساتها، إلا أن أنصار الدين كانوا يبدون كل بادرة لتجنب استعداء الأنظمة المجاورة. لكن بالنسبة للمجتمع الدولي، فتحكيم دين الله ببساطة لا يقبل التفاوض.

بدأت الحرب وانسحب المجاهدون من المدن رفقاً بالناس، لأن الصليبيين وأعوانهم يقصفون المدن بعشوائية طالما أن المجاهدين فيها. وتكررت المشاهد ذاتها التي رأيناها من قبل في أفغانستان والصومال ونيجيريا والشيشان. كلما دخلت القوات النظامية مدينة كانت قد احتضنت المجاهدين نكلت بالناس وأعدمت في الشوارع وانتهكت الأعراض عقوبة لهم على تأييدهم المجاهدين.

استمرارية المشروع الإسلامي

لكن إخواني، باستعراض التاريخ الاستعبادي الأسود للغرب في مالي، ثم اضطهاد الحكومة العميلة للطوارق والعرب وفسادها في التعامل مع شعبها عموماً، وبعدما ذاق مسلمو مالي حلاوة العيش في ظلال الشريعة لبضعة أشهر، فإنه لا يتوقع أن تنجح الحملة في اجتثاث المشروع الإسلامي في مالي، حتى لو قضت على عامة عناصر أنصار الدين والجماعات الإسلامية الأخرى، فـ "أرحام نساء مالي اللواتي اخترن الكرامة ستبقى تنجب الأبطال بإذن الله".

هذه منطقة جديدة للصراع بين الحق والباطل، فسيبقيان يتصارعان إلى أن يُزهق الله الباطل ويتفجر بركان الإسلام بإذن الله من جديد. وفي الوقت ذاته نتوقع أن يتعرض إخواننا في مالي لبلاء شديد يمحصهم، فإن الذهب يصفو إذا أُدخل الكير.

دروس من أفغانستان

قبل 11 عاماً عندما غزا العالم أفغانستان، ظننا كما ظن كثير من المسلمين أن الله تعالى سيحسم الأمر سريعاً بخارقة من عنده وينصر عباده في الطالبان. ثم إذا بالمدن تسقط والمجاهدين يؤسرون ويُقتلون بالآلاف، وتُنشر صور مؤلمة كصورة مجاهد أخرجه العملاء من التحالف الشمالي من خندقه الذي تحصن به على حدود كابل بعدما أطلقوا النار عليه أسفل بطنه، ثم سحبوه على الأرض ونزعوا سرواله وأجهزوا عليه بنيران. كانت هذه الصور صاعقة لنا، إذ أننا لم نكن ندرك عملياً سنن الله تعالى في تمحيص عباده وتربيتهم واتخاذ الشهداء منهم. وبدا الأمر للكثيرين وكأنه لن تقوم لدين الله قائمة في تلك الأرض لعقود.

ثم ها نحن اليوم نرى العالم يستجدي مجاهدي أفغانستان للجلوس على مائدة المفاوضات، وتجتمع 139 دولة في مؤتمر بون قبل عام تناقش ورطتها مع المجاهدين ما بعد انسحاب القوات الدولية المخطط له أن يكون العام القادم. ونسأل الله العظيم أن يثبت المجاهدين على رفض أي تفاوض يكون على حساب إقامة الدين.

قد يكون أكثر عناصر الطالبان قد قُتل خلال هذه الأعوام، لكنهم أوقدوا بدمائهم شعلة التحرر وحب الشريعة في نفوس كثير من أبناء الشعب الأفغاني. كذلك إخواننا في مالي سيبقون بإذن الله ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم ولا من خانهم. قد أوقدوا شعلة الشريعة والتحرر من رق العبودية للبشر، فحتى لو اختار الله عامة عباده المجاهدين لجواره، فإن الشعلة التي أوقدوها لن تنطفئ بإذن الله حتى تلامس زيت الفطرة في نفوس المسلمين وينفجر بركان العزة ليحرق الأرض من تحت الطغم الحاكمة وأعداء الإنسانية ومسترقيها، ويقود المسلمين إلى مجد جديد.

دعوة للعمل

فليختر كل منا لنفسه مكانه من هذه الشعلة، فمن أسهم فيها بسهم خير فهنيئاً، ومن نفخ عليها ليطفئ فالله متم نوره ولو كره الكافرون، ومن وقف متفرجاً فليعد لموقفه أمام الله جواباً.

فلنعمل إخواني لتوضيح حقيقة هذه الحرب الصليبية وخيانة المشاركين فيها من بني جلدتنا، ومناصرة إخواننا الذين لهم علينا حق، لهم حق علينا كل بما يستطيع من نصرة.

والسلام عليكم ورحمة الله.