الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين. أحبتي الكرام، السلام عليكم ورحمة الله.
قصة الرجال الثلاثة: الرجل الثاني
لا زلنا نسير مع قصة الرجال الثلاثة. انتهينا في الحلقة الماضية من الوقفة مع الرجل الأول. اليوم نحن مع الرجل الثاني. دعوني أذكركم بالذي فعله الثاني. عندما رأى بيته يحترق، قلنا إنه انشغل بإطفاء النار المتوجهة إلى خزانة ماله، وترك زوجته المختنقة وأولاده المحاصرين. ثم صلى ركعتي نافلة وأطال فيهما السجود، ودعا الله عز وجل أن يطفئ النار بخارقة من عنده.
المقصود بالرجل الثاني في واقعنا
ما المقصود بالرجل الثاني في واقعنا؟ المقصود ببساطة أنه لا يكفي إعلان تطبيق الشريعة. نعم، نحن نطالب أصحاب المشروع الإسلامي بإعلان سيادة الشريعة من اللحظة الأولى، لكن مما لا شك فيه أن هذا الإعلان وحده لا يكفي. تحت هذه الصورة الرمزية تندرج عدة أمثلة.
المثال الأول: إعلان الشريعة مع إهمال الأخذ بالأسباب
المثال الأول: إعلان تطبيق الشريعة مع إهمال الأخذ بالأسباب الدنيوية لرعاية مصالح الناس. لا ينبغي للدولة الإسلامية أن تظن أنها بالتزام الشريعة ستنجح وسيكون الله معها، وهي مهملة للأخذ بأسباب النجاح الدنيوية من حسن سياسة لأمور الناس، وهمة ونشاط وسعي دؤوب في بناء الدولة اقتصادياً وعسكرياً، وتبني أصحاب التخصصات في المجالات المختلفة، ومن يقيمون الفروض الكفائية، والتخطيط الدقيق، وتوظيف علوم الإدارة والاتصال والإعلان، والعمل المضني لتوفير احتياجات الناس من مسكن ومأكل ورعاية صحية وتوفير فرص عمل.
هذا كله من تطبيق الشريعة، وإن قصرت الدولة في استكماله حسب وسعها وطاقتها، فليس لها أن تتوقع نصر الله لها. أرأيت كيف أن الرجل الثاني ترك بيته يحترق وصلى ركعتين نافلة وأطال فيهما السجود، وسأل الله أن ينقذ زوجته وأولاده بخارقة من عنده؟ أليس بذلك آثماً مسيئاً؟
فأصحاب المشروع الإسلامي عليهم أن يستنفذوا الوسع والطاقة ويعدوا ما استطاعوا، ثم الله بعد ذلك يبارك في جهودهم بركة عظيمة. لذا فهذه تذكرة لمن يطالب بتحكيم الشريعة بينما تراه في كثير من أوقاته سبهللاً في أمر دنيا ولا في أمر آخرة، ولا يحسن صنعة ولا حرفة. فشلك في حياتك العملية أو العلمية يخذل الناس عن دعوتك. يخذل الناس عن دعوتك إلى الشريعة مهما جملت لهم المقال وحشدت لهم الأدلة. فالناس لن يتصوروا أن رجلاً عالة على مجتمعه سيقيم دولة قوية ترعى أبناءها، ولن يستطيع نؤوم الضحى أن يخرج الأمة من ليلها إلى فجر جديد. فمن يدعون إلى الشريعة لابد أن يكونوا أصحاب همة تحيي الأمة، جادين مخلصين في مجالهم أياً كان مجالهم: الدعوة أو العلوم أو الحرف أو غيرها.
المثال الثاني: إعلان الشريعة مع سوء التعامل أو ترتيب الأولويات
المثال الثاني: من يعلن تطبيق الشريعة ويكون صادقاً في تطبيقها آخذاً بالأسباب المادية، لكنه يسيء التعامل مع الناس ويستثير حفيظتهم، أو يسيء ترتيب الأولويات، ويتوقع لصدقه في تطبيق الشريعة أن يرقع كل خرق. وهذا يخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا". وإذ قال لمعاذ: "وإياك وكرائم أموالهم". وإذ رتب لمعاذ الأولويات في عرض الدين على الناس.
فنحن وإن كنا نطالب أصحاب المشروع الإسلامي أن يقيموا دين الله ولا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يتعذروا برد فعل الشعوب، إلا أن هذا كله لا يعني العنف في سياسة الناس. بل أصحاب المشروع الإسلامي هم أولى الناس بالرفق والتلطف بالرعية. والقوة في إقامة الدين لا تعارض حسن سياسة الناس وتألف قلوبهم ومداراتهم وسفيههم ضمن حدود الشريعة، ضمن حدود الشريعة. بل انظر كيف جعل الله عز وجل المؤلفة قلوبهم ممن تصرف إليهم الزكاة، على الرغم من قيام الحجة وقوة الدين في ذاته. إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه، كما أخرج الإمام مسلم.
المثال الثالث: إعلان الشريعة مع عدم الصدق في تطبيقها
وبما أننا ذكرنا أن إعلان سيادة الشريعة وحده لا يكفي، فقد بقي مثال ثالث أقل تعلقاً بقصة الرجال الثلاثة، لكن يحسن ذكره هنا تأكيداً على أنه ليس الإعلان وحده هو المطلوب. هذا المثال الثالث هو من يعلن تطبيق الشريعة لكنه في الواقع غير صادق في تطبيقها أبداً. وهذا من نواحٍ عدة لا يقل سوءاً عن الاستعلان بعدم تطبيق الشريعة أصلاً. فهذا طريق الهلاك. "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد".
لا يكفي إعلان تطبيق الشريعة، فما الفائدة من هذا الإعلان إن كانت ثروات الأمة تعطى لأعدائها تحت غطاء عقود استثمار أجنبية جائرة وصفقات أسلحة لا تجر إلا على أبناء المسلمين؟ ما فائدة إعلان تطبيق الشريعة في بلد إن كان يزود طائرات أعداء الشريعة بالوقود ويفتح لهم الأراضي ليقيموا فيها معسكراتهم ويعربدوا فيها وينطلقوا منها لقتل المسلمين وانتهاك أعراضهم والدوس على كرامتهم؟
ما الفائدة من هذا الإعلان إن كانت الدعاة الغيورون على دين الله وعلى رسول الله، الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر، يسجنون وينكل بهم، بينما يفتح المجال لكل أفاك ليتطاول على الشريعة ويبث سمومه؟ ما الفائدة من هذا الإعلان إن كانت مساجد الله تسلب دورها، بل ويمنع من الدعاء حتى الدعاء للمسلمين المستضعفين على منابرها، إلا من سمح أعداء الأمة بالدعاء له؟ ما الفائدة من هذا الإعلان إن كان معلنها يتخوض في مال الأمة بغير حق، والملايين من المسلمين يموتون جوعاً وعطشاً ومرضاً؟
أليس هذا كله تعطيلاً للشريعة بل حرباً على الشريعة؟ لا يرضى الله تعالى لإعلان تطبيق الشريعة أن يكون عباءة تمارس تحتها المعاصي. إنما يرضى عن هذا الشكل الممسوخ أعداء الله الصرحاء من الصليبيين وغيرهم. فما دامت مصالحهم محفوظة وثروات المسلمين نهباً لهم وشباب الإسلام مكبلين في السجون، فلا يضيرهم أبداً أن تطبق الدولة حد السرقة على الضعفاء باسم الشريعة. بل إن هذه النماذج الممسوخة تتخذ فزاعة للتنفير من تطبيق الشريعة، بحيث عندما ندعو إلى تطبيقها يعيرنا البعض بهذه النماذج وكأننا نعترف بها. ومن يطبق الشريعة بهذا الشكل يبرر القعود عن نصرة المسلمين بل والمساهمة في البطش بهم بعبارات شرعية متعلقة بحفظ الثروات والمصالح، كما فعل الثاني بإنقاذ خزانة المال عن إنقاذ زوجته وأولاده حتى احترقوا.
خلاصة الوقفة مع الرجل الثاني
كانت هذه الوقفة مع الرجل الثاني في قصة الرجال الثلاثة. وقفتنا الأهم بإذن الله ستكون مع الرجل الثالث، وهي مليئة بالدروس والعبر بغض النظر عما آلت وستؤول إليه الأحداث في البلاد التي أعطي فيها أصحاب المشاريع الإسلامية الفرصة، ولكن عدداً منهم فعل ما فعله الرجل الثالث. والله المستعان. فتابعوا معنا ففيها فوائد بإذن الله.
خلاصة الحلقة: لا يكفي إعلان تطبيق الشريعة، بل لابد من الصدق في تطبيقها وحسن سياسة الناس والأخذ بالأسباب المادية للنجاح. والسلام عليكم ورحمة الله.