→ عودة إلى نصرة للشريعة

الحلقة 5 - حديث معاذ ليس دليلا على التدرج

٢٥ مارس ٢٠١٢
النص الكامل للمقطع

حديث معاذ ليس دليلاً على التدرج

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إخوتي الكرام. نحن اليوم مع الحلقة الخامسة من سلسلة "نصرة للشريعة".

يحتج إخواننا المدافعون عن التدرج في تطبيق الشريعة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن:

"إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فإن هم أطاعوا لك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم. فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب."

الحديث صحيح رواه البخاري.

دلالة الحديث على التدرج المزعوم

لكن إخواني، أين الدلالة في هذا الحديث على التدرج المطروح في تطبيق الشريعة؟ هذا الحديث إنما يعلمنا مراعاة الأولويات في بيان الشريعة للناس. فالشهادتان هما مفتاح الدخول في الإسلام، والصلاة والزكاة هما من أركان الإسلام العملية الظاهرة التي لا بد للمسلم من تعلمها والعمل بها فورًا.

هل قال النبي لمعاذ: "يا معاذ، إذا لم يطيعوك ولم يصلوا، فدعهم على ما هم عليه من القوانين المخالفة للشريعة، واحكم بينهم بما تعارفوا عليه من هذه القوانين"؟

هل قال النبي لمعاذ: "إن لم يطيعوك ولم يصلوا، فتدرج معهم وفق جدول زمني مرسوم، وأكد لهم أنك لن تفرض عليهم الشريعة فرضًا، بل ستستشيرهم"؟

هل قال له: "يا معاذ، لك الصلاحية بتقدير الوقت المناسب لإلغاء القوانين المعمول بها في اليمن، وإحلال قوانين الشريعة بدلًا منها"؟

هل قال له: "بما أن القرآن لم يحرم الخمر دفعة واحدة، فأنت كذلك لا تمنعها عن أهل اليمن دفعة واحدة"؟

هل قال النبي لمعاذ: "إذا وجدت فقرًا وقلة أمن في اليمن، فوفر الطعام للمحتاجين وفرص العمل للعاطلين عن العمل، وأثبت جدارتك الاقتصادية قبل تطبيق الشريعة"؟

هل قال له: "ركز في البداية على الجانب العقدي والأخلاقي ولا تطبق الحدود، لأن أهل اليمن قد يستثقلونها. فإن سرق سارق أو زنا زان، فاحكم بينهم بالأحكام التي تعارفوا عليها"؟

هل قال النبي لمعاذ: "احرص على رضا أهل اليمن ولو على حساب الشريعة، وأكد لهم أنك تحترم رأي أغلبيتهم لئلا ينقضوا عليك أو يتعاونوا مع الفرس أو الروم ضدك"؟

هل قال له: "طمئن أهل اليمن بأن الرافضين منهم للشريعة سيكونون فئة محترمة مصونة، سيتم إشراكها في بناء المجتمع اليمني الجديد واتخاذ القرارات"؟

هل هناك رواية من روايات الحديث لا نعرفها، قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من ذلك؟ وهل يتصور أن يأمر النبي معاذًا بشيء من هذا؟

غياب بعض الشرائع في الحديث

ثم إخواني، إن الحديث لم يذكر الصيام. فلو أن النبي أرسل معاذًا في رمضان، فهل يعني كلامه لمعاذ ألا يطالب أهل اليمن بالصيام ذلك العام من قبيل التدرج؟ وهل لو طالبهم معاذ لأثم على اعتبار أنه خالف أمر النبي بالتدرج على حد تعبيرهم؟

هل لو أرسل معاذ قبيل شهر رمضان، فإنه متروك له الحرية في تقدير أن يفرض عليهم صيام رمضان من ذلك العام أو لا، لأنه المخول بتحديد سرعة التدرج الذي يتكلمون عنه؟

ثم إخواني، إن شرائع الإسلام كثيرة جدًا، والنبي لم يذكر منها إلا الشهادتين والصلاة والزكاة. فماذا عن باقي الأوامر والأحكام؟ هل يعقل أن النبي ترك لمعاذ تقدير الوقت المناسب لفرض الصيام والحج ونصرة المظلوم ومنع الربا والخمر والسرقة والتبرج والاحتكار والرشوة وغيرها؟

التركيز على الجانب العقدي

ثم إن المنادين بالتدرج يقولون إنه ينبغي التركيز على الجانب العقدي بداية قبل تطبيق الأحكام والجوانب التشريعية من الشريعة. والنبي لم يذكر من الجانب العقدي إلا الشهادتين. فلو كان ما ذكره النبي على سبيل الحصر، فإنه يعني أنه كان على معاذ أن يأمر أهل اليمن بالصلاة والزكاة قبل الإيمان باليوم الآخر والكتب والملائكة والقدر. فهل يعقل هذا؟

ثم هل في الحديث ما يدل على أن أهل اليمن لو لم يجيبوا معاذًا إلى الإقرار بالشهادتين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان سيقر على ذلك ويدعهم وشأنهم؟

إذا إخواني، الحديث لا علاقة له بالتدرج المطروح، والمسألة واضحة بشيء من التدبر.

ترتيب الأولويات في البيان لا التدرج في التطبيق

وردت أحاديث كثيرة يأمر فيها النبي أقوامًا أسلموا بأمور وينهاهم عن أمور، ونلاحظ أنه نوع في أوامره ونواهيه. فمثلًا عندما وفد عليه وفد عبد القيس أمرهم بأربع ونهاهم عن أربع. أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟" قالوا: "الله ورسوله أعلم." قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس." ونهاهم عن أربع: عن الحنتم والدباء والنقير والمزفت، وهي أوعية كان النبي يصنع فيها الخمر. والحديث متفق عليه.

فهنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الصيام وإعطاء الخمس من المغنم، ونهى عما يصنع فيه الخمر، ولم يذكر هذه الأشياء في حديث معاذ. فهل هذا يدل على أنه تدرج بالتشريع أو بالتطبيق لوفد عبد القيس تدرجًا مختلفًا عما تدرجه مع أهل اليمن؟

المسألة لا علاقة لها بالتدرج، وهذه الأوامر والنواهي ليست على سبيل الحصر. الحديث إنما يعلمنا أنك إذا أتيت أناسًا يجهلون شرائع الإسلام، فإنك ترتب الأولويات في عرض هذه الشرائع عليهم، حتى لا تزدحم عليهم هذه الشرائع فلا يستطيعوا تعلمها والعمل بها.

فالصلاة أمر آني فوري يحتاجه أهل اليمن الآن، فلا بد لهم من تعلمه بمجرد ما أسلموا يحتاجون الصلاة. أما الصيام فيمكن تأخير تعليمه وتعليم نواقضه إلى قبيل رمضان. وكذلك الحج فإنه واجب على التراخي مرة في العمر. ومن قواعد الأصوليين أنه يجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة إليه.

العبودية المطلقة لله

كذلك نفهم من الحديث مسألة مهمة جدًا، وهي أن أهل اليمن بمجرد أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإنهم قد أعلنوا العبودية المطلقة لله، وأقروا وخضعوا لسيادة الشريعة. فلا يؤمرون بأمر إلا يمتثلون له، لأنه أمر الله الذي أقروا بوحدانيته. ولا تستجد قضية بعد ذلك إلا ويحكم فيها معاذ بحكم الله الذي شهدوا بوحدانيته إلهًا وربًا ومشرعًا.

فأين هذا من التدرج الذي ينادي به البعض؟ إنما هو ترتيب أولويات في البيان والتعليم، لا تدرج في العبودية لله والخضوع لأحكامه. فمن لحظة إعلان العبودية والخضوع المطلق بالشهادتين، فقد طبقت الشريعة. فإن لم يحج أحد من أهل اليمن بعد ذلك الإعلان لأن موسم الحج لم يأت بعده، وإن لم يزنِ أحد منهم فتقام عليه العقوبة الشرعية، فهل نقول إن الشريعة لم تطبق بشكل كامل بعد؟ طبعًا أبدًا، بل هي مطبقة تطبيقًا كاملًا.

أين هذا من المناداة بإبقاء القوانين الوضعية على ما هي عليه والاحتكام إليها إلى حين أسلمتها من خلال العملية الديمقراطية؟

التاريخ الإسلامي والتدرج

ثم إخواني، عبر تاريخ الفتوحات الإسلامية في عهد النبي والخلفاء الراشدين ومن بعدهم، هل ورد أنه كان يتدرج في تطبيق الإسلام بحيث يسمح لمن دخل في الإسلام أن يشرب الخمر أو يزني سنة مثلًا ثم بعد ذلك يمنع؟ بل كانت الأحكام الإسلامية تطبق كلها، وهذا متواتر مستفيض في تطبيق الأحكام على البلاد المفتوحة. هل عند أحد مثال من التاريخ لا نعرفه؟ فليأتِنا به حينئذ.

بقيت فائدة عظيمة في الحديث أود أن أتكلم عنها، لكن حتى لا أطيل عليكم سنناقشها في الحلقة القادمة بإذن الله.

خلاصة الحلقة

خلاصة الحلقة: حديث معاذ دليل على ترتيب الأولويات في بيان شرائع الإسلام لأناس خضعوا لأحكام الله واستعدوا لتنفيذها، وليس دليلًا على التدرج في تطبيق الشريعة. اسمحوا لي أن أعيد: حديث معاذ دليل على ترتيب الأولويات في بيان شرائع الإسلام لأناس خضعوا لأحكام الله واستعدوا لتنفيذها، وليس دليلًا على التدرج في تطبيق الشريعة.

وإلى لقاء في الحلقة القادمة بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.