السلام عليكم ورحمة الله.
إخوتي متابعي سلسلة "نصرة للشريعة"، دعونا نرتب أفكارنا في الحلقة الرابعة بعنوان "عن أي تدرج نتكلم؟" وهي حلقة مهمة أرجو متابعتها مرة أخرى. ذكرت أن مجمل ما يورده المدافعون عن التدرج في تطبيق الشريعة هو أحد اثنين:
إما أنه في الواقع دليل على ترتيب للأولويات في عرض الشريعة وبيانها للناس، لا على التدرج، وقد بينت ذلك في الحلقتين السابقتين. أو أنه دليل على وقف لحكم شرعي معين عملاً بالشريعة، لأن شروط هذا الحكم الشرعية لم تتحقق، فوجب العمل بحكم شرعي آخر. هذا ما سنبدأ بنقاشه في هذه الحلقة.
شبهة تعطيل حد السرقة عام المجاعة
إخواني، أكثر اعتراض وردني إلى الآن على هذه السلسلة هو أن عمر رضي الله عنه أوقف حد السرقة عام المجاعة. كيف يفهم الإخوة هذه المسألة؟ أن عمر عندما رأى الناس قد أصابهم الفقر والجوع، فسرقوا لينقذوا حياتهم، حكم عقله ونحى جزءًا من الشريعة جانبًا، لأنه رأى أن الظرف لا يسمح بتطبيق هذه الجزئية من الشريعة.
طبعًا هذا الفهم خطأ كبير. بداية أود أن أنبه إلى أن هذا الأثر في أن عمر أوقف حد السرقة عام المجاعة لم يثبت عنه أصلاً، فقد رواه ابن أبي شيبة في مصنفه بإسناد فيه مجهولان، كما بين الألباني في "إرواء الغليل".
وعلى كلٍ، فهذا لا يؤثر في مسألتنا هنا، لأنه لو حصل فعلاً أن الناس سرقوا عام المجاعة مضطرين، فإن عمر ولا بد لم يكن لينفذ فيهم حد السرقة. لماذا؟ لأن الشريعة تأمره بأن لا ينفذ حد السرقة في هذه الحالة.
شروط إقامة حد السرقة
لا بد من توفر شروط دلت عليها الأدلة الصحيحة لتطبيق حد السرقة. هذه شروط:
- أن يكون أخذ الشيء على وجه الخفية.
- وأن يكون المسروق مالاً محترمًا لا عينًا محرمة.
- وأن يبلغ المسروق النصاب.
- وأن يأخذ السارق ما سرقه من حرزه الذي يحفظ فيه عادة.
- وثبوت السرقة بشهادة عدلين أو بإقرار السارق على نفسه مرتين.
- وأن يطالب المسروق منه بماله.
- وأن لا يكون للسارق شبهة في هذا المال.
إذا لم تتوفر هذه الشروط، فلا يجوز للحاكم شرعًا أن يقطع يد السارق.
إذا قلنا من الشروط أن يبلغ الشيء المسروق النصاب، وهو ربع دينار ذهب. دينار الذهب 4 غرام وربع من الذهب، فربع الدينار حوالي غرام ذهب، يعني أكثر من 300 جنيه مصري وأكثر من 50 دولار أمريكي هذه الأيام. فالذي يسرق ليأكل لن يحتاج أن يسرق هذا المبلغ أو طعامًا بهذه القيمة. والشريعة لا تأمر بالقطع على سرقة ربطة خبز أو دجاجة أو ما يسد به الجوع.
دعونا نفترض أنه في عام المجاعة غلت الأطعمة جدًا، وسرق الفقير مضطرًا ما يبلغ النصاب، سرق طعامًا أو ثمن طعام يبلغ غرام الذهب. هنا الشريعة تمنع من إقامة الحد على هذا السارق، لأن من شروط إقامة الحد ألا يكون للسارق شبهة في المال. والسارق مضطر، فهذه شبهة تمنع إقامة الحد عليه بأمر الشريعة، لأنه سرق مضطرًا كونه جائعًا فقيرًا لا يجد ما يسد به جوعه.
الشريعة هي التي منعت إقامة الحد
إذاً إخواني، المسألة ببساطة أن الشريعة هي التي منعت عمر رضي الله عنه من إقامة الحد على السارق المضطر، فليس له إلا أن يذعن للشريعة فلا يقطع في هذه الحالة. هذا حكم من داخل الشريعة، لا أن عمر عطل الشريعة وعمل برأيه. فالحد لم يجب أصلاً، الحد لم يجب أصلاً ليسقطه عمر أو ليعطله.
فعمر رضي الله عنه لم يقل: "سنوقف هذا القانون البشري من خارج الشريعة هذه السنة لأن الوضع لا يسمح بتطبيق الشريعة"، بل هو طبق الشريعة لا شيء غير الشريعة. فإن الله تعالى لم يجعل حد السرقة لمن سرق حتى ينقذ نفسه من الهلاك أو مشقة الجوع الشديدة. ومعلوم أن الضرورة الملجئة تبيح للإنسان ما لا يباح لغير المضطر. فالذي لا يجد ما يأكله له أن يأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وإن لم يعطه الغني طواعية، جاز لهذا الجائع الفقير أن يسرق ما ينقذ به نفسه.
بمعنى آخر، لو أقام عمر الحد في هذه الحالة لأثم. لاحظ لو أقام عمر الحد في عام المجاعة على السارق المضطر لأثم، لأنه لو أقام الحد فإنه عمل بخلاف الشريعة، بخلاف الشريعة.
مثال القتل الخطأ
الآن لو قتل مسلم مسلمًا آخر خطأ، فما حكمه في الشريعة؟ عليه الكفارة وعلى عاقلته الدية. هل يقتل؟ طبعًا لا يقتل لأنه قتل خطأ. إذا جاء الحاكم وقتله، هل يكون مصيبًا؟ لا طبعًا، بل يأثم ويكون قد ارتكب جريمة قتل تعاقب عليها الشريعة. فهل نقول على الحاكم أن يعطل حكم الشريعة في الاقتصاص من القاتل؟ لا طبعًا، هو لا يعطل حكم الشريعة في هذه الحالة، بل نقول إن شرط تعمد القتل لم يتحقق حتى يسمح الحاكم بالقصاص. فهذا القاتل له حكم آخر من الشريعة ذاتها، من الشريعة ذاتها، حكمه الكفارة والدية على عاقلته. وهكذا مسألة هذا السارق المضطر، ليس حكمه القطع في الشريعة، بل الشريعة تمنع من إقامة الحد عليه. فالمسألة مسألة فقهية بحتة، لا إعمال للعقل بدلاً من الشريعة.
رأي علماء الأمة في المسألة
سؤال يطرح نفسه: بيننا وبين عمر رضي الله عنه أكثر من 14 قرنًا، هل قال عالم واحد من علماء الأمة عبر هذه القرون، هل قال عالم واحد من سلفنا الصالح أن رواية عمر هذه دليل على جواز التدرج في تطبيق الشريعة؟ هل فهم عالم واحد هذا الفهم الذي أصبحنا نسمعه في هذه الأيام؟ هل قال عالم من سلفنا الصالح أن عمر أوقف العمل بشيء من الشريعة؟ هل قال بذلك أبو حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد أو ابن تيمية أو الغزالي أو ابن القيم؟ هل قال به أي واحد من علماء الأمة؟
بل انظروا كيف يعرض علماء الأمة هذه المسألة. قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": "فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة، غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه. ويجب على صاحب المال بذل ذلك له، إما بالثمن أو مجانًا على الخلاف في ذلك. والصحيح وجوب بذله مجانًا لوجوب المواساة وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج".
يعني في هذه الحالة، في حالة عام المجاعة والفقر، يجب أصلاً على الغني أن يبذل ماله طواعية للفقير، هذا حق للفقير في ماله. قال: "وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج، لا سيما وهو مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه". يعني إخواني في عام المجاعة الفقير المضطر له أن يأخذ المال عنوة عن الغني بالمقدار الذي يسد به رمقه.
قال: "وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون، ولا يتميز المستغني منهم والسارق لغير حاجة من غيره، فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه فدرئ". أي أنه على فرض أن عمر رضي الله عنه أوقف حد السرقة بشكل عام ذلك العام، فإن سبب ذلك هو أنه لا يستطيع أن يميز بين المضطر وغير المضطر إلى هذه السرقة.
ثم قال ابن القيم: "نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغن عن السرقة قطع". لاحظ قال: "نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغن عن السرقة قطع". إذا المسألة على فرض أن عمر بالفعل أوقف حد السرقة ذلك العام، لم يكن ذلك إيقافًا عامًا حكمًا عامًا لجميع السراق، وإنما لو ثبت أن شخصًا معينًا سرق وهو غير محتاج إلى هذه السرقة وتكاملت فيه الشروط الأخرى المعتبرة شرعًا التي ذكرناها، فإن الحد سوف يقام على هذا السارق في هذه الحالة.
الشريعة تراعي أحوال الناس
إخواني، لقد جعل الله تعالى شريعته سمحة تراعي أحوال الناس، تراعي الاضطرار والإكراه والجهل الذي يعذر الإنسان به. فالرفق بالإنسان إنما هو بإعمال الشريعة على ما هي عليه، الرفق بالإنسان إنما هو بإعمال الشريعة على ما هي عليه. فالذي يريد أن يعطل الشريعة إشفاقًا على الناس من شدتها، إما أنه يجهل أحكام الشريعة ومراعاتها للاضطرار والإكراه والعذر بالجهل، وهذا سوء ظن بالشريعة. وإما أنه يظن نفسه أرفق بعباد الله من ربهم سبحانه وتعالى، وهذا أيضًا سوء ظن بالشريعة. شريعة الله أرحم من ذلك.
هناك بيئات لا تصلها الأحكام الشرعية. رأينا مثلاً كيف أن هناك مناطق في صعيد مصر لا يعرف الواحد أن يقرأ الفاتحة ولا يعرف اسم النبي صلى الله عليه وسلم، نتيجة للتجهيل الذي مارسه النظام العفن لعقود طويلة. الآن لو قام حكم إسلامي وأتى إلى هذه المناطق فرأى الناس يشربون الخمر ويتعاطون الحشيش ويتعاملون بالربا وهم يجهلون حرمة هذه الأشياء، هل يقيم عليهم النظام الإسلامي حد الخمر ويعزرهم ويعاقبهم على تعاطي الحشيش والربا؟ طبعًا لن يعاقبهم ولن يعزرهم ولن يقيم عليهم حد الخمر. لماذا؟ لأن الناس جهلوا حرمة هذه الأشياء جهلاً لعل الكثيرين منهم معذورون به، لأنهم نشأوا في بيئات مجهلة فقيرة نائية عن العلم، نتيجة لهذا النظام المجرم الذي حكمهم لهذه الفترة الطويلة.
ومن شروط العقوبة على العمل المحرم أن يعلم فاعله أنه محرم. فإنما يجب على الدولة حينئذ أن تعلم الناس في هذه المناطق حرمة هذه المنكرات. فإن شرب أحد الخمر بعد ذلك جلد، لأن شروط الحد مستكملة. فلو تصورنا أن نظامًا أتى وقطع يد السارق المضطر وجلد شارب الخمر الجاهل المعذور بجهله، فإننا سنكون حينئذ أول من يقف في وجهه ونؤلف فيه سلسلة بعنوان "نصرة للشريعة" أيضًا.
فإعمال حكم لم تتحقق شروطه وترك الحكم المناسب للحالة هو أيضًا تعطيل للشريعة. عدم أخذ الاضطرار والإكراه والجهل بعين الاعتبار هو مخالفة للشريعة. جلد من لا ينبغي جلده وعقاب من لا يستحق العقاب حسب الشريعة هو من تعطيل الشريعة. فنحن لن نكون موافقين على نظام يفعل مثل هذه الأشياء.
خلاصة الحلقة
لم يقم عمر حد السرقة عام المجاعة عاملاً بالشريعة، لأن شروط الحد الشرعية لم تتوفر. ولم يعطل عمر شيئًا من الشريعة أو يعمل برأيه بدلاً منها.
والسلام عليكم ورحمة الله.