→ عودة إلى مرئيات

هل سينصر الله غزة؟

١٤ أكتوبر ٢٠٢٣
النص الكامل للمقطع

السلام عليكم ورحمة الله.

مقدمة: وهم النصر والتواكل

كنت إخواني قبل أيام قد أعدت نشر كلمة عمرها ثلاث سنوات بعنوان "هل ستنصرون؟" فإن توقع النصر وهم وتواكل، وأصحاب هذا الوهم هم أنفسهم الذين ممكن نسمعهم فيما بعد يعترضون على قدر الله. فتعالوا واسمعوا قبل أن تضيعوا إيمانكم، ولا عذر لكم يومئذ.

نصر أهل غزة الحقيقي

أهل غزة انتصروا يوم أدى مجاهدوهم ما عليهم، فأخذوا بالأسباب إلى أقصاها، وأعدوا ما استطاعوا من قوة، وأرهبوا عدو الله وعدوهم، وتكتموا حتى أبهروا العالم بما فعلوه، وضربوا مثالاً لا يُنسى للشعوب الإسلامية، وداسوا على هيبة عدوهم ثم رموها في مزبلة التاريخ.

ثم أهل غزة قد انتصروا يوم التف الأهالي حول المجاهدين ولم يلوموهم ولا تبرؤوا منهم، وما قالوا لهم: "أنتم جبتوا لنا البلا"، بل افتخروا بهم ونصروهم. ووقف أهل غزة مع مجاهديها صفاً واحداً على الرغم من البلاء الشديد الذي نزل بهم والذي يعانون منه الآن، بلاء لو نزل بالجبال لهدها. ومع ذلك فهم صابرون محتسبون، ولم يخونوا مجاهديهم ولا تآمروا مع أعدائهم عليهم.

والله هذا نصر عظيم لإيمانهم. مهما فعلت قوى الكفر والنفاق الجبانة في أهل غزة من قتل وحرق وتدمير، فهذا لا يلغي حقيقة أن أهل غزة انتصروا، قُضي الأمر. عز الإسلام في النفوس، وعلم المسلمون جميعاً أننا بعون الله قادرون. وارتقت أرواح المسلمين الذين نسأل الله أن يتقبلهم في الشهداء، وسطر درس عزة لأجيال المسلمين القادمة كلها، وذل الكفر، وشفى الله صدور قوم مؤمنين. هذا النصر لنا والخزي لهم، لن تمسحه طائرات ولا قنابل ولا دبابات، أمر علق في ذاكرة الناس وفي سجل التاريخ.

مفهوم الفوز في الإسلام

الفوز في الإسلام هو أن تموت ثابتاً على دينك. يعلمنا الله هذا المعنى بكل وضوح في سورة البروج حين يتكلم عن أناس آمنوا فحفر لهم الكفار الأخدود وحرقوهم أحياء حتى الموت، ومع ذلك قال الله تعالى في هؤلاء المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}. أراد عدوهم صدهم عن دينهم فما استطاع، فلم يملك إلا قتلهم، فقتلوا لكن بعد أن انتصروا على عدوهم بتفشي كيده، ليخلدوا بعدها في الجنة ويخلد عدوهم في العذاب الأليم، {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}.

الصحابي حرام بن ملحان قتله مشركون غدراً برمح في ظهره نفذ من بطنه، فمسح دمه بيده ووضعه على وجهه وهو يقول: "فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة".

فلا تسألني هل سينصر الله أهل غزة؟ فهم قد انتصروا بالفعل. هذا ليس أمراً محتملاً في المستقبل، بل أمر تم يوم سبت العزة 7/10/2023، يعني تم في الماضي ولا زال مستمراً. ونسأل الله لهم الثبات على دينهم والرضا بقضاء ربهم حتى يبقوا منتصرين مهما أصابهم.

النصر العسكري وسنن الله

لكن ماذا عن النصر العسكري؟ يعني التغلب في أرض المعركة. هل الآيات التي تتكلم عن النصر هي فقط عن الموت ثابتين؟ ألم يقل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}؟ وقال تعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}. بلى، لكن تعال نفهم ما معنى أن ينزل النصر بهذا المعنى على أهل غزة.

أهل غزة لا يحاربون الصهاينة فقط، بل هم يحاربون قوى الكفر والنفاق كلها في العالم. وهذا واضح جداً من دعم هذه القوى للصهاينة بالمال والسلاح والقذائف والتصريحات والإعلام. هزيمة هؤلاء جميعاً تعني انهيار النظام الدولي الفاجر، وزوال أذنابه في بلاد المسلمين، وتحرر المسلمين. يعني انتصار غزة بهذا المعنى هو انتصار لكل المسلمين.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل المسلمون أخذوا بالأسباب كما أخذ بها أهل غزة حتى يستحقوا هذا النصر؟ هل أعدوا العدة بطول نفس وبنوا علاقة قوية مع الله كما فعل أهل غزة فيما نحسبهم؟ فعلى ماذا ينزل الله النصر على المسلمين؟

حالنا يا إخواني وانتبهوا لهذا المثال، حالنا هو كحال جيش له مقدمة (طليعة)، هذه الطليعة هجمت على جيش ضخم للعدو، فأعملت فيه قتلاً وأثخنته بالجراح وخلخلته. انتصرت طبعاً، فقد أدت ما عليها. تصور لو نحن في باقي الجيش وقفنا في مكاننا ندعو لهذه الطليعة ولا نتحرك، والطليعة تقول لنا: "تعالوا استكملوا النصر، قد أثبتنا لكم أننا قادرون، اهجموا على العدو". فبقينا نحن في مكاننا وقلنا: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، فلعل هذه الطليعة تغلب هذا الجيش العرمرم، مش الله على كل شيء قدير؟" هل هذا يكون حسن ظن بالله ولا خيبة وسوء فهم لسنن الله؟

إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. فكيف نريد نصراً لكل الأمة وهي لا تستحقه كرمال أهل غزة الذين أدوا ما عليهم؟ هذا ليس من سنن الله تعالى في النصر والتمكين.

مسؤولية الأمة وتقصيرها

قوى الكفر والنفاق وإن تفرقت واختلفت إلا أنها اجتمعت على حرب المسلمين. وهكذا حرب لا تنوب فيها غزة ولا غير غزة عن الأمة المسلمة. ولم تتأهل الأمة للنصر ولم تأخذ بأسبابه حتى تجازى به. وإن كان المسلمون يتعذرون بأن الأمر ليس بيدهم وبأن المتسلطين عليهم المتحكمين ببلادهم لا يخافون الله، فإن هؤلاء ما سلطوا إلا بذنوب العباد. وأسوأ ذنب يمكن أن تقوم به هذه الأيام هو أن تكون شريكاً في التآمر على أهل غزة بشكل مباشر أو غير مباشر.

كل من يمنع من نصرة أهل غزة فهو شريك في قتلهم. وكل من يداهن هؤلاء الشركاء، كل من يداهن أو ينافق لهم أو يسكت عن جرمهم وهو قادر على أن ينكر، فهو آثم ظالم، ووجوده ووجود أشكاله يؤخر النصر عن الأمة.

بين الله تعالى في سورة الأنفال وجوب مناصرة المسلمين بعضهم لبعض ثم قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}. إذا لم تتولوا إخوانكم وتنصروهم في مقابل الكفار الذين يوالي بعضهم بعضاً، فماذا تتوقعون؟ نصراً لجميع المسلمين؟ بل فتنة في الأرض وفساد كبير.

تصور لما المسلم يسمع: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}، فيقول: "لا لا، أنا سأدعو لأهل غزة الـ 2 مليون أن ينصرهم الله على المشركين كافة من غير ما نكون معهم احنا كافة". هذه خيبة وخذلان مش حسن ظن بالله. بتنتظر أن ينصر الله أهل غزة بالخوارق وبملائكة، بينما أنت تتفرج وما في عمل ولا أخذ بالأسباب لعامة الأمة؟

شروط النصر الشامل

طيب، يعني لازم كل المسلمين يكونوا من المتقين الصالحين الأبرار وإلا لن ينصرهم الله؟ لا، ليس هذا معنى الكلام. ولكن المطلوب أن تكون هناك حالة جهادية عامة في الأمة، وتكاتف وإعانة من المجتمع لمجاهديه جهاداً رشيداً صحيحاً. أن تكون هذه هي الحالة الطاغية والسمت العام للمجتمع، أن يكون هذا هو الصوت العالي في المجتمع، حتى وإن كان هناك معاص وأفراد سيئون ومنافقون، لكنهم مستترون منبوذون. بينما إذا كان المصلحون قلة مخذولين من عامة المجتمعات المسلمة، فعلى ماذا ينزل الله النصر على هذه المجتمعات؟

طبعاً إخواني كلامي هذا كله ليس لجلد الذات وتحميل الجميع مسؤولية ما يفعله الخونة والظالمون في بلاد المسلمين، بل أنا أمس نشرت كلمة بعنوان "ماذا أفعل لأجل غزة" بينت فيها أن كلاً منا عليه مسؤولية بقدر استطاعته، وأنه لا مكان للإحباط ولا للسلبية. لكن نقول هذا الكلام حتى نفهم سنن ربنا عز وجل، وحتى لا نسمح لأنفسنا أن نقصر في جنب الله وفي حق إخواننا، ثم بعد ذلك نضيف إثم سوء الظن بالله والعتب على أقداره إذا لم ينزل النصر علينا جميعاً مع أننا غير مستحقين له.

قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ}. يعني أهل غزة بيدفعوا ثمن تقصير المسلمين؟ لا، أهل غزة يصطفيهم الله. وماذا تريد مظهراً من مظاهر رحمة الله تعالى أكثر من تثبيتهم أمام هذا البلاء الذي يفتت الجبال؟ أنت اقلق على حالك أخي، اقلق على حالك إذا خذلتهم، وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.

خاتمة: فرصة تاريخية عظيمة

ختاماً، هل فات الأوان؟ لا، هذه فرصة تاريخية عظيمة أثبتت لنا الطليعة أننا بعون الله قادرون. فإذا أخذنا بأسباب النصر واستدمنا هذه الروح الطيبة التي سرت في الأمة من السبت الماضي، فإن نصر الله قريب. وحينئذ لا تخيفنا قوى الكفر والنفاق كلها. والله من ورائهم محيط، وهو الفوق عباده. {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.

نسأل الله أن يفرج عن إخواننا في غزة وأن يعيننا على نصرتهم. والسلام عليكم ورحمة الله.