السلام عليكم ورحمة الله.
مقدمة: العلم الزائف وتأثيره على الشباب المسلم
مجلة Scientific American هي مجلة أمريكية ترفع شعار تبسيط العلوم لعامة الناس. قبل أسابيع، نشرت هذه المجلة مقالاً لدكتورة أردنية هي الدكتورة رنا الدجاني، بعنوان "لا شيء بالصدفة: كتاب يكسر حاجز الصمت تجاه نظرية التطور". من المفيد أن نقف مع المجلة والكاتبة والمقال حتى نرى هل مثل هذه المجلات تنشر العلم بحيادية بالفعل؟ أم أن هناك انحيازاً لتمرير منظومة فكرية تحت ستار العلم؟
أيضاً يا كرام، تتشكل مؤخراً فئة من الذين يصدرون أنفسهم على أنهم علماء عرب مسلمون يرفعون لواء نظرية التطور ويدافعون عنها في كل محفل، ويطالبون المسلمين بما يسمونه إعادة تفسير القرآن بناءً عليها. ونزعم أن ذلك كله يتم بطريقة لا علمية ولا منهجية تزعزع ثوابت الدين، وتضيف إلى الحصاد المر الذي حصدناه مع غيرهم من أمثال شحرور وعدنان إبراهيم. وهؤلاء يحيل بعضهم على بعض ويدعم بعضهم بعضاً، وتتاح لهم المنابر الإعلامية بحيث قد يظهر أمام الشباب المسلم أنهم يمثلون رأي العلماء العرب، خاصة مع صمت الغالبية العظمى من العلماء الحقيقيين حتى المتدينين منهم للأسف، وعدم إسهامهم في الصراع الفكري الواقع أمام شباب المسلمين.
في الوقت ذاته، المناهج الدراسية في بلاد المسلمين تتعرض لتلويث مستمر لتشويه إدراك الأجيال، وتدس فيها نظريات العلم الزائف لتكون بديلاً عن وجود الله تعالى. بعض الذين يطبِّعون مع نظريات العلم الزائف مثل نظرية التطور لا يُنكرون الخالق، بل يقولون أنهم يحاولون الوصول إلى التوفيق بين الإيمان والعلم. لكن العبث الذي يتم تحت هذا العنوان في التعامل مع الوحي والعلم معاً يصب في تحقيق هذه الأجندة من حيث شعروا أم لم يشعروا. وعندما يتم التوسع في ضرب ثوابت العقيدة والعبث بمعاني القرآن بناءً على نظريات العلم الزائف، فسيقال: الدكتور المسلم الفلاني والدكتورة المحجبة الفلانية صادقوا على هذه التعديلات في المناهج.
تواصلت مع عدد من هؤلاء عارضاً المناقشة الهادئة، ومنهم الدكتورة صاحبة المقال الذي بين أيدينا. وكانت تتفادى النقاش وتؤجل. فلسنا هواة لانتقاد الناس على الملأ، لكن نرى من واجبنا أن نبين للشباب طبيعة وخطورة ما يحصل حتى لا نحصد المزيد من التشكيك والضيعة. تعالوا نرى اليوم نموذجاً من هذا التوجه. هل هم علميون بالفعل؟ وهل يدعمون من المجلات والمؤسسات الغربية لأنهم علميون؟ أم لمجرد أنهم يدعمون نظرية التطور؟ وهل هم منسجمون مع أنفسهم واستطاعوا أن يوفقوا بين العلوم الطبيعية والقرآن لإقناع أنفسهم فضلاً عن أن يعلموا الناس هذا التوفيق؟ وهل ثوابت العقيدة واضحة لديهم؟
مجلة Scientific American ومقال الدكتورة رنا الدجاني
لماذا اخترنا الدكتورة رنا الدجاني نموذجاً؟
الدكتورة حازت على عدة جوائز من الأمم المتحدة وغيرها، ونشرت لها مجلة نيتشر وسينتفك أمريكان مقالات أدبية بلا فحوى علمية، يعني بلا تجارب ولا ملاحظات علمية، وإنما في الإشادة بنظرية التطور. والدكتورة رنا من المروجين لكتاب أحمد خير العمري "لا شيء بالصدفة" الذي بيّنا حاله قبل أيام. فسيكون من السهل عليكم تقييم موضوعية كلامها عن الكتاب. وقد قالت في مقالها أن كتاب العمري يساعد الجمهور على عدم الوقوع فريسة للحجج غير الصحيحة التي يقدمها معارضو نظرية التطور، يعني من أمثالي. فمن حقنا أن نبين أي الفريقين يقدم حججاً غير صحيحة، مع التأكيد على أني لا أتعرض لكفاءة الدكتورة في مجالها العلمي بعيداً عن نظريات العلم الزائف، وأسأل الله لنا ولها الهداية لما يحب ويرضى.
الرد على كتاب "لا شيء بالصدفة"
الرد على حلقات رحلة اليقين للعبد الفقير، وكنا قد بينا كيف أن ردود العمري في كتابه هي عبارة عن كذب وتحريف ترجمة وجهل بأبسط أبجديات الأحياء، وضحك على القراء بصياغات مضللة. بيّناه بما فيه الكفاية بحيث ينبغي على كل من له علاقة بالأحياء أن ينجو بنفسه من الإشارة لمثل هذا الكتاب إلا على سبيل التندر والفكاهة، واللي مش مقتنع يروح يحضر الحلقة قبل ما يستغرب من الثقة العالية في كلامنا هذا.
تقييم مقال الدكتورة رنا الدجاني
بداية ماذا تقول الدكتورة عن كتاب العمري؟ مع هذا كله تقول أنه يحاول تكريس المنهجية العلمية وتقول: "جدير بالذكر أن العمري كان قد وثق جميع ما كتبه من مراجع علمية محكمة"، وتقول: "كما أنه سخر آخر فصل في الكتاب لمناقشة الأفراد الذين يرفضون نظرية التطور بالرد عليهم بطريقة نقدية منطقية يُبَيِّن فيها عدم صحة الحجج التي يستخدمونها، وهي طريقة مهمة تساعد الجمهور على عدم الوقوع فريسة للحجج غير الصحيحة". الذي تابع حلقتنا أظنه سيفتح فمه مندهشاً وهو يسمع هذا كله.
مقال الدكتورة رنا لم يقدم أية معلومة علمية من أي نوع. فأول ملاحظة هي أن السينتفك أمريكان تنشر هكذا مقالاً لمجرد أنه أشاد بكتاب العمري وأكد على صحة نظرية التطور، ولا تدقق السينتفك أمريكان كتاب العمري لترى إن كان وصف الدجاني له صحيحاً. المهم أن المقال يمدح كتاباً يدافع عن خرافة التطور وخلاص، حتى وإن احتوى هذا الكتاب على مغالطات مضحكة في الأحياء.
الدكتورة رنا الدجاني تقول في مقالها هذا أن حذف نظرية التطور يؤدي إلى انهيار علم الأحياء كاملاً، وهو ما بينا بطلانه تماماً في حلقة "هل بالفعل نظرية التطور مفيدة للبشر؟" وبينا أنها بلا أي فائدة من أي نوع يذكر أبداً في علم الأحياء. فبلاش يا سينتفك أمريكان تدعي أنك تنشرين العلم، بل لديك أجندة فكرية تنشرين ما يدعمها حتى وإن كان خالياً من أي علم، وحتى وإن كان يقلب الحقائق ويصف الجهل والتضليل بالعلم والتنوير، وهو ما بيناه مراراً وتكراراً في حلقات رحلة اليقين عن كثير من المجلات والكتب الغربية التي ينظر إليها الشباب المفتون على أنها علمية وحيادية، وليمش مقتنع يحضر حلقة واحدة فقط مثل حلقة "صح النوم".
وللعلم، مجلة نيتشر التطورية المعروفة كانت قد نشرت مقالاً للدكتورة رنا الدجاني بعنوان "لماذا أدرس نظرية التطور للطلاب المسلمين؟" وأذكركم بأن نيتشر هذه هي التي تعتبر الإشارة إلى خلق الله للكائنات علماً زائفاً (سودو ساينس)، وهي التي فتحت تحقيقاً لمجلة بطريقة إرهابية عندما نشرت المجلة بحثاً عن روعة تصميم اليد يذكر كلمة الخالق. بيّن ذلك في حلقة "هل سيمنحونني جائزة نوبل؟" ومع ذلك تنشر مجلة نيتشر مقالة دكتورة رنا الأدبي الخالي من أي فحوى علمية، وإنما التأكيد على أن نظرية التطور لا تعارض الإسلام.
التوفيق بين الإيمان والعلم: قضية آدم عليه السلام
ثانياً، هل الدكتورة رنا الدجاني استطاعت بالفعل الوصول إلى رؤية منسجمة في التوفيق بين العلوم الطبيعية والإسلام حتى تصدر للمسلمين بهذا الدور؟ هل الرؤية لديها متضحة؟ الدكتورة تقول في مقالها في السينتفك أمريكان: "سيدنا آدم"، بينما هي نفسها في مقابلة لها في الجامعة الأمريكية بالشارقة تقول: "آدم رمز للبشرية بشكل عام وليس كائناً حقيقياً مستقلاً محدداً". سئلت مجدداً فأكدت وقالت. إذن الدكتورة رنا ترى أن آدم مجاز، مجموعة من البشر، وليس كائناً حقيقياً مستقلاً محدداً، ومع ذلك تسميه في هذا المقال "سيدنا آدم". فهل هو سيدنا المجاز أو سيدنا الكناية أو سيدنا المجموعة من البشر؟
طبعاً كنا بينا بالتفصيل أن الادعاء أن آدم رمز أو مجموعة من البشر يتعارض بشكل صارخ مع عشرات الآيات، عدا أننا بيّنا بالتفصيل العلمي بطلان الأدلة المزعومة على نشوء الإنسان من كائنات أخرى. فعندما تسمع من الدكتورة رنا والذين يتوجهون توجهها "إعادة تفسير القرآن بناءً على ما يسمونه العلم"، فهذا ما تعنيه إعادة التفسير: أن تنكر عشرات الآيات التي تتكلم عن أبي البشر آدم وما حدث معه تحت عنوان التوفيق مع العلم. ومع ذلك فيبدو أنها هي نفسها لم تحسم بعد إن كان آدم رمزاً أو مجموعة أو سيدنا آدم.
التناقضات في مواقف الدكتورة رنا الدجاني
هل الدكتورة هي بالفعل نموذج للتوفيق بين العلوم الطبيعية والإسلام؟ وهي التي تجدها تستشهد مرة بآيات وأحاديث، ومرة تنشر على صفحتها مقالاً لكاتبة أخرى بعنوان "أدعوهم لأمهاتهم". والمقال هو في المحصلة كما يظهر من عنوانه اعتراض على قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]، واعتبار أن الأديان بما فيها الإسلام هي من صنع الرجل للتسلط على المرأة. مش معقول أكيد ليس هذا هو المقصود. فالكاتبة محجبة والتي تنشر مقالها محجبة، نعم وأنا مستغرب مثلك ولا أجد تفسيراً لهذا التناقض.
المقال يمثل اللوثة النسوية عندما تبلغ حد الطعن في الدين والطعن في قصة الخلق لآدم وحواء، حتى تقول الكاتبة في نهاياته: "نستطيع القول أن ما حصل أسطورياً باختصار". ثم تقترح سيناريوهات نشأة الأديان ونظرتها للمرأة إلى أن تقول: "بينما في الإصحاح الثاني يكون خلق الرب لحواء من ضلع آدم وينتهي بها المطاف معيناً لآدم الرجل الذي لا يفتأ يحاول إثبات دونية حواء التي انتقلت آلياً إلى كل النساء من بعدها لتعمل كمبرر لممارسات التراتبية الجنسية في اليهودية والمسيحية والإسلام". يعني أن خلق حواء من ضلع آدم أسطورة من الكتاب المقدس، ولاحظ أنها لا تذكر القرآن والسنة هنا مع أنهما يذكران خلق حواء من آدم. وتقول أن هذه الأسطورة أدت إلى نظرة دونية للمرأة وممارسات جائرة في اليهودية والمسيحية والإسلام. ثم تختم الكاتبة مقالها بقولها: "وهنا يمكن أن نعود فنطرح بتساؤل ما قاله فرويد سابقاً".
إذاً فهذا المقال يرفض الإسلام مع سائر الأديان ويعتبر أنه ليس من عند الله بل أساطير من صنع الرجل للتسلط على المرأة. مقال تكتبه امرأة محجبة وتنشره الدكتورة رنا الدجاني المحجبة. علق بعض المعلقين للدكتورة رنا بالاستنكار ولم تتجاوب. وحرصت شخصياً على لفت نظر الدكتورة لهذا المقال. فهل هذا هو التوفيق بين العلوم الطبيعية والدين؟ أن يعتبر الدين من صناعة الرجل وتعتبر قصة خلق آدم وحواء أسطورة للتسلط على المرأة فيكون البديل في نظرية التطور؟
ولنا أن نسأل: لماذا تستشهد الدكتورة بآيات من القرآن وبالأحاديث إن كان الدين كله من صنع الرجل أصلاً؟ هل لدى الدكتورة ما تقود متابعيها إليه شيئاً فشيئاً؟ أم أنها هي نفسها لم تحسم؟ فليست متأكدة إن كان آدم رمزاً أو مجموعة من البشر؟ أم أنه سيدنا آدم كما في مقال السينتفك أمريكان؟ أم أن قصته كلها من أصلها أسطورة؟ وليست متأكدة إن كان القرآن والسنة حقاً أم أنهما من صنع الرجل ليتسلط على المرأة؟ وإذا كانت الدكتورة غير متأكدة وتعيش حيرة وتردد، فهل هي مؤهلة لتثقيف الناس في هذه المجالات؟
الاستشهاد بريتشارد دوكنز
ثالثاً، تقول الدكتورة عن كتاب العمري: "وقد استخدم لغة عالمي السلوك الحيواني والأحياء التطورية، كلينتون ريتشارد دوكنز، وأدلته للبرهنة على حقيقة نظرية التطور". طبعاً ريتشارد دوكنز هو كبير عرابي العلم الزائف وأشهر من يستخدم العلم الزائف لتكفير الناس ونشر الإلحاد، وهو صاحب كتاب "وهم الإله"، وقد بيّن نماذج من دجاله في حلقات رحلة اليقين. فالدكتورة معجبة بكون العمري يستخدم لغة دوكنز وأدلته للبرهنة على حقيقة نظرية التطور.
منطق التوفيق بين القرآن والعلم
رابعاً، أفترض أنني كمسلم أؤمن بأن القرآن من عند الله والخلق خلق الله، فآيات الله المسطورة في القرآن تنسجم تمام الانسجام مع آياته المنظورة في الكون وفي النفس، وليس هناك تعارض حتى أحاول إيجاد حلول وسط بين العلم الطبيعي والقرآن. هل هذا هو منطق الدكتورة؟
في مقال السينتفك أمريكان تقول الدكتورة وهي تحتفي بكلام العمري عن خلق آدم: "ولكن لحساسية موضوع سيدنا آدم حاول أن يجد حلاً وسطاً عندما تحدث عن آدم، وعلى الرغم من أن نظرية التطور نظرية شاملة ولا يمكن أن نأخذ بعضاً منها دون الآخر، ولكن من الجائز القول بأن الكاتب استخدم هذا الأسلوب لكي لا يخسر القارئ تماماً". يعني كأنها تقول أن هذا الروائي وجد قصة جميلة تفتق عنها ذهنه لشرح معضلة خلق سيدنا آدم، جاء من عالم القصص والروايات وطبخ لنا طبخة حلوة بلاش يخسر القراء، وعلشان ينقذ ديننا من التهاوي أمام حقيقة التطور، مع أن الأصل أن نأخذ بنظرية التطور بشكل شامل لا أن نأخذ بعضاً منها دون الآخر. وهذا شبيه بكلام الدكتورة في المقابلة التي تتكلم فيها عن آدم عليه السلام على أنه مجرد رمز.
إذاً علينا كمسلمين حسب كلامها أن نعيد تفسير الآيات والأحاديث بحسب حقيقة التطور إذا كان هذا يجعلنا نشعر بشكل أفضل علشان ما نخسرش ديننا يعني. بينما بيّنا في حلقات رحلة اليقين أن المسألة ليست تجميل الباطل، بل نؤمن بالغيبيات المذكورة في القرآن وصحيح السنة، لأننا آمنا بديننا بناءً على الدليل الفطري العقلي العلمي المحكم، فلسنا بحاجة لتحريفها من أجل خرافات العلم الزائف المهترئة.
خاتمة
هذا نموذج من طريقة هذه الدكتورة التي تُثني على العمري وكتاباته، ويُثني عليها العمري، وينشر كلٌ منهما للآخر. ولكم أن تتصوروا بعد هذا كله كيف سيكون الحال إذا تم اعتماد طريقة تعامل أصحاب هذا التوجه مع نصوص القرآن والسنة في المناهج الدراسية وتصديرهم كقدوات للشباب المسلم. والله المستعان، والسلام عليكم ورحمة الله.