السلام عليكم إخواني.
تساؤلات حول انتكاسة الشيوخ
يتساءل كثير منّا في هذه الأيام فيقول: شيوخ وعلماء أجلاء كنا نسمع لهم ونثق فيهم، بل وتعلمنا الدين على أيديهم، إذ فجأة ينقلبون على أعقابهم ويغيرون مبادئهم بهذه السرعة المرعبة، وصرنا نرى منهم مواقف مخزية. إذا كانت الفتنة أثرت على هؤلاء، فكيف حالنا نحن البشر العاديين؟ هذا السؤال لعله يخطر ببالك أنت أيضاً.
ولو أردت التعبير بصراحة أكثر، فلعلك تقول: إذا كان الله لم ينجِ هؤلاء الشيوخ من السقوط في الفتنة، مع أنهم دعوا إليه وأمضوا حياتهم في سبيله، فلماذا ينجينا نحن وليس لنا مثل حسناتهم؟
سوء الظن بالله
إخواني، هذا التساؤل يخشى أن يكون فيه سوء ظن بالله. ونبينا صلى الله عليه وسلم قال: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل". وهذا هو هدف كلمتي إليكم: أن نحسن الظن بالله.
أصناف الدعاة والعلماء المنتكسين
هؤلاء الدعاة والعلماء المذكورون هم أحد صنفين: إما أنهم ساقطون أصلاً، صنعوا ولمّعوا لمهمة ترويج الباطل والتلبيس على الناس. وصنف آخر ليس كذلك، لكن عندهم معاصٍ وذنوب كبيرة خذلتهم في مواقف الامتحان.
هل للعلماء معاصٍ كبيرة؟
معقول علماء عندهم معاصٍ كبيرة؟ نعم. مثل ماذا؟ رياء، حسد، عدم استعداد للتضحية في سبيل الله، حرص على رضى المتابعين لئلا يفقدوا شعبيتهم، استشهاد بأحاديث موضوعة في زمن يستطيع طالب في الإعدادي أن يستخرج صحة الحديث من ضعفه على النت بسهولة. ومع ذلك، فمن هؤلاء الدعاة من يستهين بنسبة كلام إلى الله ورسوله دون توثق، ليأتي بجديد على الفضائيات ولو على حساب الحق، وغيرها كثير.
وهو في ذلك كله يعلم أمراض قلبه، لكنه يهملها، معجب بنفسه أن اهتدى على يديه كثيرون، كأنه يمنّ على الدين. فاستفحلت أمراض القلب، حتى إذا وُضع على المحك وقف مواقف خزي تهدم أكثر مما بنى، وتسبب في فتنة الناس، وكان كالتي نقضت غزلها من بعد قوة.
لا ينكس الله قلب عبد دون ذنب
فإياك أخي أن تظن أن الله ينكس قلب عبد دون ذنب ولا سبب. هؤلاء لهم فتنة قد تكون أكبر من فتاواهم الضالة ومواقفهم المخزية، إنها الشبهة التي تقع في نفوس من ظنوهم صالحين، ثم هم يرون الآن انتكاسهم. فيقع في نفوسهم أن الله لم يحفظ الود لأوليائه، فنكس قلوبهم ولم يعبأ بكثرة ما جرى على أيديهم من الخير.
حاشا لله! إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار". أم هلهم الله كثيراً ثم لا يتوبون ولا يتذكرون، واستجلبوا مقته إذ يقولون للناس ما لا يفعلون.
وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم
"وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون". تأمل هذه الآية: "وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون". وما كان، يعني: لا ينبغي له ذلك ولا يليق به سبحانه. "حتى يبين لهم ما يتقون"، ما يتجنبونه من أسباب الهلاك، بياناً شرعياً عاماً في جملة الناس. وكثيراً ما يكون أيضاً بلا فتاة نظر لهم وتذكيرات وإشارات وعبر وعظات حين ابتعدوا. فمن سقط بعد ذلك كله فالعلة فيه.
والكمال المطلق في أسماء الله وصفاته، ومنها الودود. من أسماء الله الودود، فالله أحفظ للود من أن ينكس قلباً صادقاً مخلصاً، وهو الغفور الودود، "إن ربي رحيم ودود". والله هو الشكور.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه". تصور قد تقول كلمة من رضوان الله، مثلاً مررت بمجموعة شبان يفعلون محرماً فغرت على دين الله. فما بالكم بداعية له مئات الدروس والمقالات والخطب والمحاضرات التي انتشرت في الناس؟ أيمكن أن يكون في هذا كله مخلصاً صادقاً تقياً لله ثم ينكس الله قلبه هكذا بلا سبب؟ لا والله. فما ظنكم برب العالمين؟
تجارب شخصية في الانتكسات
إخواني، عشت ورأيت ما أعلم أحداً انتكس وسقط في الاختبارات إلا وكان له في أيام الرخاء تصرفات وسوابق سوء تنذر بخطر في المستقبل. وإلا فوالله لو كانوا صادقين لثبتهم الله عند الشدائد. "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين". تصدق الله أم تصدق هؤلاء؟ يا مسكين يا من تقول نكسهم الله بعد أن دعوا إليه، أحسنت الظن بالمنتكسين وأسأت الظن برب العالمين.
والله لقد رأيت بنفسي من ربي لطفاً وكرماً ورحمة وحلماً وإمهالاً على تقصيري الشديد، فكيف بقلب مخبت إليه مقبل عليه بصدق مخلص له أينكسه الله بلا سبب؟ لا والله لا أصدق ذلك يوماً ما. "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليماً".
وهأنذا أقولها لكل من يسمع: إن بدرت مني انتكاسة في قادم الأيام لا قدر الله، فوالله إني لأعلم من نفسي وأمراض قلبي وتقصيري ما يستوجبها، يستوجب هذه النكسة. ولا يحول دون الانتكاسة إلا رحمة ربي. فاللهم عافنا واختم لنا بأحسن الخواتيم، ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أعمالنا يا أرحم الراحمين.
قصة ابن الجوزي وخطورة سوء الظن بالله
ابن الجوزي شيخ الواعظين وعى خطورة أن تكون سبباً في سوء ظن الناس بربهم، بأن تجعلهم يظنون أن الله نكس قلبك وأنت تدعو إليه بصدق. فقال في صيد الخاطر كلمة عظيمة بليغة، فلا تعجبوا أن يقبل الناس عليه ويتأثروا بكلامه. إذن قال: "ولقد جلست يوماً فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف ما فيهم إلا من قد رق قلبه أو دمعت عينه. فقلت لنفسي: كيف بك إن نجوا وهلكت؟ إيش حالك يا ابن الجوزي إن انتفع هؤلاء بكلامك فدخلوا الجنة ثم هويت في النار لما يعلمه الله من ذنوب سترها عن هؤلاء؟"
قال: "فصحت بلسان وجدي: إلهي وسيدي، إن قضيت علي بالعذاب غداً فلا تعلمهم بعذابي". يعني: يا رب إن كنت ستعذبني لذنوب وأمراض قلب أستحق عليها العذاب، فلدي طلب واحد: لا تجعلهم يعلمون أنك ستعذبني بأن تختم لي بسوء مثلاً. لماذا يا ابن الجوزي؟ قال: "فلا تعلمهم بعذابي صيانة لكرمك لا لأجلي، لئلا يقولوا: عذب من دل عليه". يعني ابن الجوزي دلنا على الله ثم الله يعذبه. خاف ابن الجوزي أن يكون سبباً في سوء ظن الناس بربهم، وقد ستر الله عنهم ذنوباً وعيوباً يعلمها سبحانه ولا يعلمونها.
رسائل ختامية
في الختام ثلاث رسائل:
- أخي، إياك أن تسيء الظن بربك، بل أحسن الظن بالله وأسئ الظن بالمنتكسين.
- وخذ من انتكاستهم عبرة ألا تهمل ذنوبك وأمراض قلبك حتى تستفحل فتسقط في الاختبارات. ولا تبرر لنفسك معصية بحجة أنه حتى الشيوخ فتنوا، بل تذكر قول الله: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم". تذكر قول الله: "بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره".
- محكمات الإسلام واضحة، الحلال بيّن والحرام بيّن. واعلم أن في الأمة علماء ودعاة خيرين كثر، لكن لا يلمعون. دورك ودوري أن نبحث عنهم ونستفيد منهم.
نسأل الله أن يهدي من ضل وأن يثبتنا على الحق إلى أن نلقاه. والسلام عليكم.