السلام عليكم.
الثوابت في الأنظمة الديمقراطية
عندما يصوّت الأمريكيون كل أربع سنوات حسب نظامهم الديمقراطي، فهل يصوّتون على سؤال مثل: "نعتمد النظام الرأسمالي أم الاشتراكي؟" أو سؤال مثل: "هل نعتبر دولة إسرائيل صديقًا أم عدوًا؟" طبعًا لا. لماذا؟ لأن هناك ثوابت في الدولة الأمريكية لا يُسمح بتجاوزها، ولا توضع موضع تساؤل ولا تصويت.
هذه اللفتة مستفادةٌ من بودكاست مع الأستاذ طارق خميس بعنوان "من غزة إلى دمشق: طريق الأمة الطويل"، فيه لفتاتٌ مهمةٌ كثيرة. إذن فحتى حسب النظام الديمقراطي عند من يؤمن به، هناك ثوابت حاكمة، إطار لا يتم التصويت إلا ضمنه. وذلك لكل الدول الديمقراطية بلا استثناء. بل ومحاولة الخروج على بعض الثوابت تُجرّم على اعتبار أنها محاولةٌ لزعزعة كيان الدولة.
الدعوة للديمقراطية في سوريا والاستهبال الغربي
تعالوا إلى سوريا الآن. هناك من ينادي بالديمقراطية، فترى عناوين مثل: "ترقب في سوريا للانتقال الديمقراطي المأمول"، "كيف تريد ألمانيا دعم التحول الديمقراطي في سوريا؟"، "سوريا تعول على المؤتمر الوطني لمستقبل ديمقراطي".
هذه الدعوات للديمقراطية توهم بأن هذا يجب أن يشمل اختيار مرجعية الحكم، هل هي الإسلام أم العلمانية؟ وهذا جهل أو استهبال، لأنه حتى في الديمقراطية، فأي شيء يتم التصويت عليه إنما يكون بعد تقرير الثوابت. فالديمقراطية لا تعني أن تأخذ رأي الأغلبية في ما هي هذه الثوابت، حتى الدول الديمقراطية لا تفعل ذلك. وإنما بعد وضع الثوابت، بعد رسم الإطار، يتم في الدول الديمقراطية التصويت على أمور تفصيلية.
الديمقراطية كذبة كبرى ومعارضة للإسلام
خذوا بالكم أن هنا لا أتكلم عن حقيقة أن الديمقراطية كذبة كبرى، بل بيّنا مراراً أن الديمقراطية معارضة للإسلام من حيث هي تجعل المرجعية في الحكم للبشر بدلاً من دين الله تعالى، وأن التصويب والتخطئة والسماح والمنع هو حق خالص لله تعالى القائل: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}. فكما أنه هو الذي خلق البشر، فهو سبحانه يأمر وينهى ويحرم ويحلل ويبيح ويمنع.
وبيّنا حقيقة أن الديمقراطية حتى وإن طُبقت بصدق، فهي ولا حتى تحكم الشعوب، بل هي أداة بيد الساسة وحيتان الرأسمالية والإعلام يستعبدون بها الشعوب، كما بينا في حلقة "وهم الحرية".
لكننا هنا نتكلم عن بعدٍ آخر، أنه حتى لو طُبقت الديمقراطية بحذافيرها عند من يؤمنون بها، فهي لا تعني التصويت على المبادئ الحاكمة، لا تعني التصويت على الثوابت.
ازدواجية المعايير الغربية تجاه سوريا
ومع ذلك، فالغرب الذي يتدخل في سوريا بوقاحة، بل بنفس استعماري استعلائي، وأذنابه رافعو شعارات علمانية علمانية في بعض ساحات سوريا، يتكلمون عن الديمقراطية وكأنها تصويت على شكل الدولة وثوابتها: "نعتمد الإسلام كمرجعية حاكمة عليا أم العلمانية؟".
الغرب يعلم أن الديمقراطية لا تشمل ذلك، وهم لا يسمحون بالتصويت على الثوابت في بلادهم، لكنهم يستهبلون مع سوريا ويريدون طرح الثوابت نفسها ومرجعية الحكم في سوريا للتصويت، بل ومع ثابت أوحد مقدماً أنه ممنوع أسلمة سوريا، كما ينص الساسة الغربيون بوقاحة.
كل من يتجاوب مع دعواتهم هذه من دعاة العلمانية هو إما عميل يساعدهم على الاستهبال، أو أحمق يجهل حتى حقيقة الديمقراطية.
من له حق الحديث عن الثوابت في سوريا؟
من له حق الحديث عن الثوابت في سوريا اليوم؟ الذين كانوا مخروسين ومتماهين مع حكم الفأر الهارب من الفنانين وأصحاب الخمّارات والمراقص والمتعرين على الشواطئ؟ ثم اليوم يجعَرون بأعلى أصواتهم: "علمانية علمانية"؟
من له حق الحديث عن الثوابت؟ شبيحة الأمس وحواضنهم الطائفية التي كانت تسكت عن جرائم أبنائها بحق أهل السنة، بل وترسخ في أبنائها الحقد على أهل السنة والتفنن في تعذيبهم وقتلهم؟
هل النظام الدولي هو الذي له حق الحديث عن الثوابت؟ النظام الدولي الذي كان متواطئاً مع الفأر الهارب ويعمل له إعادة تدوير لشرعنة حكمه قبل سقوطه، ويمده بالكيماوي من تحت الطاولة مع استنكار جرائمه في الإعلام، ثم يأتي سريعًا بعد سقوطه ليقول: "نحذّر من أية محاولة لأسلمة نظام التعليم والقضاء في سوريا"؟ هؤلاء لهم حق الحديث عن الثوابت؟
أم الحاضنة المسلمة السنية ومجاهدوها الذين فتحوا البلاد بسم الله ونظفوها من رجس الفأر الهارب وشبيحته بسم الله؟ فلا يتصوروا بعدها إلا أن يحكموا بشريعة الله الذي استعانوا به. أليس هؤلاء هم أصحاب الحق؟ هم ومن يساهم في هذا النصر عملاً وتعليماً ودعوةً ومؤازرة؟ أليس أصحاب الحق هم الذين هاجروا، وأخرجوا من ديارهم، وأوذوا في سبيل الله وليس في سبيل العلمانية، وقاتلوا وقتلوا؟
هَلِ الَّذِينَ كَانُوا يَدْعُونَ قَبْلَ المعارِكَ؟ لأنه دين أتى بتحرير الإنسان من العبودية للعباد إلى عبادة الله وحده، هو ذاته الإسلام الذي أمرهم أن يقيموا حكم الله على ما يفتحون من بلاد استكمالاً واستمراراً للتحرير من العبودية إلا لله.
المنظومة الإسلامية كل لا يقبل التجزئة
والمنظومة الإسلامية كلٌّ لا يقبل التجزئة، والمطالبة بأن يكون لمحرري البلاد ولحواضنهم مشاركةٌ متكافئة مع الأصناف المذكورة التي سكتت عن حكم الفأر الهارب أو ساعدت في ترسيخه بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، هذه المطالبة تافهة حتى لو كانت على تفاصيل فيما بعد الثوابت. أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ ما لكم كيف تحكمون؟ هذه مساواةٌ سخيفةٌ ظالمة بل وماكرة. فكيف عندما يتم الاستهبال وتكون المطالبة هي بإشراك هؤلاء في صياغة الثوابت نفسها؟
حق المسلمين في الحكم بدينهم
الغريب المضحك أنه عندما يتكلم عن الحكم بالإسلام في سوريا، فكأننا نتكلم عن أقلية مسلمة مستضافة في بلد غربي، كأننا نتكلم عن أربع مليون مسلم وسط 335 مليون أمريكي يطالبون بأن يكون حكم الشريعة الإسلامية هو المعمول به في أمريكا.
برمجونا بحيث المسلم لما يكون أقلية لازم يحس أنه أقلية ويتصرف أنه أقلية، ولما يكون أكثرية برضو لازم يحس زي الأقلية ويظل خائف ومتوجس ومستحي من إرادة أن يحكم بدينه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
والسلام عليكم ورحمة الله.