→ عودة إلى مرئيات

السودان والمصباح والسجان

٢٢ مايو ٢٠١٩
النص الكامل للمقطع

السلام عليكم ورحمة الله

قصة السجناء والمصباح والسجان

حُبست مجموعة، وبيد كلٍّ منهم مصباح. أرادوا الخروج فنظروا بمصابيحهم فوجدوا طريقًا طويلاً في نهايته نور الشمس، لكن يعترضه الحرس، رجال السجان. وقبل الحرس، على طرفي الطريق، ستائر مزدلة على طرقٍ فرعيَّة لا يعرفون أين تنتهي. أحسوا بصعوبة مهمة الخروج فجلسوا في السجن.

ضيَّق عليهم مُستجَّان يوماً بعد يوم حتى ثارت ثائرتهم. دسَّ عليهم مُستجَّان حملة مصابيح من جلدته، حتى اختلطوا بالسُّجناء، ثمَّ اختلف السُّجناء في السَّبيل إلى الخروج.

أصناف السجناء في التعامل مع المصباح

  • المتاجرون بالمصباح: فمنهم من لوَّح بالمصباح وقال: "أنا لها، أنا لها، هاتوا أتقوَّى بطعامكم وشرابكم، وسأقود مسيرتكم، فاتَّبِعوني حتى أخرجكم". أعطوه، فأكل وشرب وقادهم إلى أن وصل إلى الحرس. فإذا به يُطفئ مصباحه، ثم يرفع الستار عن طريقٍ فرعيَّةٍ ويقول: "اتَّبِعوني". تبعوه فإذا بالطريق يعود بهم إلى السجن.

  • المتغزلون بالمصباح: ومنهم من قال: "لا حل لكم إلا بالضوء"، يعني المصباح. قالوا: "قد علمنا فكيف؟" قال: "بالضوء ننجو، بغير الضوء لا تثقوا، عودوا إلى الضوء إن الضوء منجاتكم". وراح ينظم لهم القصائد، قصائد الغزل بالضوء، وما ازدادوا إلا جوعاً وحبساً.

  • المعتدون بالمصباح: ومنهم من استخدم المصباح في العدوان على بعض السجناء معه، يضرب به رؤوسهم زاعماً أن هذا سبيل الخروج لهم جميعاً.

  • المستأذنون من السجان: ومنهم من وقف عند أول الطريق ينادي على الحرس: "اسمحوا لنا باستخدام المصابيح لنخرج، اسمحوا لنا". والسجان وحرسه يستمعون مبتسمين، والسجناء ينتظرون الإذن.

  • الرافضون للمصباح والمطالبون بالقرعة: فريق خامس من السجناء قال: "إذن فالخلل في المصباح". فألقوا المصابيح من أيديهم ونادوا على الحرس قائلين: "يا حرس تعالوا معنا لنعمل قرعة، أينا يكون في السجن إن أُدين بتهمة، وأينا يصبح السجان، أينا يأكل الطعام وأينا يجوع". فقال الحرس لهؤلاء: "تعالوا". ورفعوا لهم الستار عن باب يقود إلى دهاليز مظلمة تلف وتدور، ثم نهايتها السجن الذي هم فيه. والسجناء لا يعلمون إذ قد ألقوا المصابيح.

    فقال لهم بعض حملة المصابيح السابقون: "أتتركون مصابيحكم؟" فرد المقبلون على الدهليز: "ما عدنا نثق بكم ولا بمصابيحكم، جرَّبناكم ومصباحكم فما استفدنا شيئاً، ولئن خرجنا من السجن لنضيقن عليكم ولنحبسنكم. أيها السجان تعال وانصرنا عليهم". وظهر السجان بمظهر البطل المنقذ للفريقين، المانع بغي كل منهما على الآخر. وبقي السجناء جميعاً خلف القضبان وما ازدادوا إلا جوعاً وقهراً.

تحليل القصة ورموزها

السجن نظام الاستعباد الدولي، والسجناء المسلمون، والمصباح الإسلام والشريعة.

  • المتاجرون بالدين: والملوحون بالمصباح الآكلون طعام السجناء بلا جدوى، هم من يتاجرون بالدين ويستمدون منه شرعية زائفة، ويرفعون شعاراته تكسباً وكذباً، أحزاباً كانوا أو جماعات أو أفراداً أو علماء سوء.

  • المحبون للشريعة بلا علم وعمل: والمتغزلون بالمصباح ناظمو القصائد له، هم المحبون للشريعة بالفعل وداعون إلى إقامتها، لكن بلا علم ولا عمل حقيقيين، ولا أخذ بالأسباب، ولا تفهيم للناس ما هي الشريعة أصلاً. فهم يتغزلون بالشريعة لكن لا ينيرون بها الطريق ولا يقودون بها الناس إلى المخرج، بل هم في حاجة لمن يقودهم.

  • الذين يقتلون باسم الشريعة: والضاربون بالمصباح إخوانهم السجناء، هم من يقتلون المسلمين باسم الشريعة، زاعمين أن لا بد من هذا لخلاص الأمة وقيام دولتها.

  • المطالبون بتطبيق الشريعة بإذن السجان: والذين ينادون على الحرس طالبين الإذن باستخدام المصباح للخروج، هم المطالبون بتطبيق الشريعة كأنهم يقولون: "يا حرس ننتظر إذنكم لنا أن ننهي تسلطكم أنتم وسيدكم".

  • المنادون بالانتخابات والديمقراطية: ومهملو المصباح طالبو القرعة مع الحرس المقبلون على الدهليز، هم المنادون بالانتخابات وتسليم السلطة للمدنيين، أن يسلم الحرس بأنفسهم السلطة للسجناء. والدهليز المؤدي للسجن في النهاية هو الديمقراطية.

نصيحة للذين يصرخون

كلمتي هذه يا كرام ليست لبيان السبيل التفصيلي للخروج من السجن، ولا للتغزل بالمصباح، ولا لطرح توقعاتي عن نهايات الثورات الجديدة. فقد كنت فصلت فيما أراه عوامل لا تنجح بدونها الثورات في كلمة بعنوان "دور العلماء في الثورات"، وقناعتي أن الشعوب المسلمة كلها لا زالت في السجن.

الهدف الرئيس من كلمتي هذه توجيه نصيحة إلى الذين يصرخون: "لقد فقدنا الثقة بحاملي المصباح وبالمصباح نفسه"، يعني برافعي شعار الشريعة وبالشريعة ذاتها. أقول لهم: علينا ضيق الدنيا، فمصيبة مضاعفة أن نخسر معها ديننا وآخرتنا.

لا عجب أن يفقد المسلمون الثقة بمن لوحوا بالشريعة ورفعوا شعارها كذباً وتكسباً بذلك، كمن يتغزل بالمصباح ولا يستنير به. ولا عجب أن يفقد المسلمون الثقة بمن قاتلهم وقتلهم باسم الشريعة فما زادهم إلا رهقاً.

لكن العجيب هنا أيها المسلمون هو أن تفقد الثقة في مصباح الشريعة ذاته لسوء حمل غيركم له. العجيب أن تتكلموا عن المصباح كأنه بضاعة غيركم لا بضاعتكم أنتم. ألستم أنتم أيضاً من حملة المصباح؟ ألستم في الأصل مسلمين أيضاً؟

الشريعة ليست وكالة حصرية

فكرة اعتبار الشريعة وكالة حصرية على الإسلاميين هي أسوأ وأفسد ما دخل على فكر الإنسان المسلم في العصر الحاضر، بل فكرة التقسيم إلى مسلمين وإسلاميين هي أصلاً بداية هذا الشرخ الهائل بين المسلمين ودينهم.

ما الذي يحصل؟ يُترك دين الله لأفراد وجماعات يُمثِّلونه، فيُسيئون تمثيله، فيقع في حسِّ الناس أن الخيار الإسلامي فشل، ولابدَّ من خياراتٍ أخرى من خارج المنظومة الإسلامية. إن كنا مسلمين، فالإسلام مسؤولية كل واحدٍ منا فرداً فرداً. والفرد لا يمثل إلا نفسه، والحزب لا يمثل إلا نفسه، ورافع الشعارات الإسلامية لا يمثل إلا نفسه. لا أحد يمثل الإسلام ولا يدعي وكالته الحصرية. وانحراف أيٍّ منهم يسيء إليه، ولا يسيء إلى الإسلام ولا يشكك في صلاحيته.

دور مراكز التخطيط الاستراتيجي

مراكز التخطيط الاستراتيجي إخواني، مراكز التخطيط الاستراتيجي الغربية التي تُصدر دراسات لإبقاء المسلمين في حالة الاستعباد، تعمل جاهدة على حصر مسئولية الإسلام في فئة وإبعاد عامة المسلمين عن دينهم. مثلاً، مركز راند الأمريكي للتخطيط الاستراتيجي يقول في دراسته المنشورة عام 2007 بعنوان "بناء شبكات إسلامية معتدلة" صفحة 67، يقول بالنص طبعاً ما ترجمته: "إن الحد الفاصل بين المسلمين المعتدلين والإسلاميين المتطرفين في الدول ذات الأنظمة الشرعية المستندة إلى الأنظمة الغربية، وهي معظم دول العالم الإسلامي كما يقولون، هو فيما إذا كانت الشريعة يجب أن تطبق".

وتنص هذه المراكز ذاتها في دراساتها على كيفية التخلص من هؤلاء الإسلاميين أو احتوائهم وحرف مسارهم، كما في دراسة "كيف تتلاشى الجماعات الإرهابية". طيب إذن الشريعة جُعلت وكالة حصرية على الإسلاميين، وهؤلاء يتم القضاء عليهم أو حرف مسارهم، والمحصلة ضياع الشريعة، المصباح، وبقاء الشعوب المسلمة في سجن النظام الدولي. فحسب لا نظام حياة متكاملاً يحررنا من الاستعباد للبشر.

ثم نقبل بجعل الشريعة وكالة حصرية على الإسلاميين، ثم إذا أساء هؤلاء قلنا لا نريد الشريعة. نحن بهذا إخواني لا نتبرأ من الإسلاميين بل نتبرأ من الإسلام نفسه.

شروط الإيمان والتمسك بالشريعة

قال الله تعالى: {لا يؤمنون}، ما فيش إيمان، لا أنت مسلم ولا إسلامي ولا علاقة لك بالإسلام حتى تحقق هذه الشروط. إن حققتها فنعم، ستقع في معاصي بعد ذلك، لكنك معترف بأنها معاصٍ، لا تراها أبداً الأصلح ولا تدافع عنها، وستكون بذلك على خيرٍ يُرجى لك الرحمةُ عند الله تعالى القائل: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفورٌ رحيم}.

ستكون على خيرٍ ما دمت معظماً للشريعة، مؤمناً بكمالها، ساعياً لإقامتها. وستكون حينئذ أقرب إلى الله ممن يسمي نفسه إسلامياً ويرفع شعارات إسلامية لكنه في ذلك مخادع يطلب بها الدنيا ويطفئ مصباح الشريعة وقت شاء بعد أن استمد منه شرعية قيادة الناس، أو تراه بلا ثوابت يقفز بين المبادئ وكل يوم يعقد تحالفات جديدة.

نحن كمسلمين لم نستنر بمصباح الشريعة أصلاً حتى نتهمه بالفشل في إخراجنا من السجن، بل وسأبين في كلمة قادمة قريبة بإذن الله أننا لم نفهم الشريعة أصلاً حتى نستنر بها. والجاهل بالشيء يزهد فيه.

الشريعة باقية وخاذلوها هم الخاسرون

بعد هذا كله إخواني، فليعرض عن الشريعة من يعرض، وستبقى الشريعة في عليائها وخاذلوها هم الخاسرون. فالخروج بنور الشريعة من سجن العبودية للبشر ليس بضاعة كاسدة، ليس بضاعة كاسدة تعرض فيرفضها من يرفض، بل هو شرف وتكريم لم يخترنا الله له لأننا لا نستحقه بعد. وإنما يستحقه من استقام على الشريعة في حياته وشعاره: {قل إن صلاتي ونسكي ومحيايا ومماتي لله رب العالمين}.

وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم. فشريعة الله لا تحتاجك ولا تحتاجني: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز}.

نسأل الله أن يوفقنا للقيام بشريعته في حياتنا حتى نستحق أن يخرجنا بها من سجننا.

والسلام عليكم ورحمة الله.

There is no continuation needed. The previous response completed the entire transcript.