→ عودة إلى مرئيات

الغم والاكتئاب: ابتلاء أم اضطرابات فسيولوجية؟

٨ أغسطس ٢٠٢٠
النص الكامل للمقطع

السلام عليكم ورحمة الله أيها الكرام.

الغم والاكتئاب: ابتلاء أم اضطرابات فسيولوجية؟

نشرت اليوم مقالًا عن أن الغم قد يكون نتيجة لذنب قديم، فاعترض البعض وقال: "لا، الغم والاكتئاب وهذه الظواهر تكون نتيجة لتقلبات فسيولوجية، تقلبات في الطقس، أدوية، عوامل بيئية وما إلى ذلك". طبعًا إخواني، هذا التعليق والاعتراض يدل على مشكلة عميقة في التفكير والربط ما بين عالم الغيب وعالم الشهادة. لذلك أود هنا أن أبين بعض المسائل المهمة في هذه القضية وفي غيرها.

خبرة في الأمراض النفسية

بدايةً إخواني، الذين يقولون: "لا لا، الاكتئاب هو عبارة عن اضطرابات هرمونية وما إلى ذلك"، أخوكم يعني يدرس ويُدَرِّس مواضيع الاكتئاب والأمراض النفسية منذ 25 عامًا. درسنا عن الاكتئاب وندرس في مساقات علم الأدوية والعلاجات عن الـ "Major Depressive Disorder" (الاكتئاب الكلينيكي) وليس الغم العارض، ودرسنا عن السكيزوفرينيا وعن أنواع الاكتئاب المختلفة: "Seasonal Depression", "Premenstrual Dysphoric Disorder", ومثلًا عن "Dysthymia" الذي هو أخف من الاكتئاب.

ودرسنا الإرشادات العلاجية لعلاج الاكتئاب وأنواع الأدوية المختلفة: "SSRIs", "SNRIs", "Atypical Antidepressants", "TCAs" وغيرها وغيرها، وعلاقة ذلك بالسيروتونين والدوبامين والنوربينفرين، والعلاجات اللا دوائية والسايكوثيرابي في مقابلة السايكياتري. فالإخوة الذين يقولون: "لا لا، الاكتئاب له علاقة بالهرمونات"، يعني عدم المؤاخذة، هذه المواضيع نحن ندرسها ودرسناها من سنوات طويلة. وندرس أيضًا عن الـ "Bipolar" وندرس عن السكيزوفرينيا وعن الـ "Anxiety" (الأنواع المختلفة يعني من القلق) وما يسمى بالفصام أو الذهان ومرض ثنائي القطب.

وللذين لديهم شغف علمي، سنضع لكم بعض الروابط في التعليقات لمحاضرات سجلناها أيام الزوم لطلابنا أيام الكورونا، سجلناها على زوم للطلاب، فسترون فيها بعض التفاصيل. فيعني الحمد لله هذه المواضيع نفهمها جيدًا جدًا.

لا تعارض بين الأسباب الغيبية والمادية

وفي الوقت ذاته، لا تعارض أبدًا بين أن تنتج الأمراض النفسية عن اضطرابات في النواقل العصبية، أو عن تعاطي بعض الأدوية، أو تتأثر بالبيئة وبالتربية وبالشخصية، لا تعارض بين ذلك وبين أن يكون للغم الذي يصيب الإنسان أو بعض الأمراض النفسية أن يكون ذلك ناتجًا عن ابتلاء من الله سبحانه وتعالى.

الأدلة التي نستخدمها لسبر غور العلوم، يعني دعنا نتكلم عن الـ "Science" عن العلم الرصدي التجريبي، حتى ندرس هذا العلم نحتاج إلى العقل، إلى المسلمات أو المسلمات الفطرية، المقدمات الفطرية، نحتاج إلى الخبر الصادق الموثق، نحتاج إلى الحس. نحن في رحلة اليقين، خاصة في الحلقات الأخيرة، أثبتنا بالتفصيل أن مولدات المعرفة هذه نفسها تؤدي حتمًا إلى إثبات وجود عالم الغيب، وإثبات وجود أسباب غيبية للظواهر المادية. وبينا أيضًا أن هذه المولدات المعرفة نفسها تستخدم للفرز ما بين الغيب الباطل والتخاريف والخزعبلات، وفي المقابل الغيب الذي يدل عليه العقل والفطرة والخبر الثابت الصادق الدالة الأدلة على صحته والحس.

إذن لا تعارض. الآن عندما نقول مثلًا أن الله عز وجل شفى فلانًا من المرض، وكان فلان هذا قد تعاطى دواء، تصور الواحد يجي يحكي: "لا لا، مش إنه الله شفاه، وإنما ارتبط هذا الدواء بالمستقبلات الموجودة على خلاياه وبالتالي أدى إلى إنتاج الـ "Second Messenger" أو بعض المكونات داخل الخلية وهذا أدى إلى تلاشي المرض". هذا يعني جهل مدقع وعدم إدراك للتوفيق ما بين عالم الغيب وعالم الشهادة. الله سبحانه وتعالى أوجد هذه الأسباب وأوجد خاصية الشفاء في هذه الأدوية، فلا تعارض بين أن نقول الله شفى هذا الإنسان وقدر لشفائه أن يعمل الدواء وعمله.

الفرق بين الغم والاكتئاب الكلينيكي

كذلك عندما يقال إنسان أصيب بالغم، طبعًا نفرق بين الغم وبين الاكتئاب الكلينيكي. والبعض يعني لما كتبت أني سأعمل بث مباشر قالوا: "لا لا يا شيخ فرق ما بين الغم والاكتئاب". يا جماعة عدم المؤاخذة، أخوكم أعيد وأقول من 25 عام في العمل الأكاديمي والأمراض النفسية من أحب المواضيع إلي وأدرسها وأتقنها، وبالتالي نعلم جيدًا أن الغم والحزن العارض والكآبة العارضة تختلف تمامًا عن الاكتئاب الكلينيكي الذي نحتاج حتى نحكم على شخص بأن عنده هذا المرض أن تكون عنده أعراض معينة بشدة معينة لمدة معينة، وليس كآبة عارضة ليوم ويومين وثلاثة.

على كل الآن يا إخواني، الله سبحانه وتعالى قد يقدر على شخص ما أن يصاب بالكآبة، وقد يكون ذلك لذنب أحدثه هذا العبد. من قال أن الله لا يقدر هذه الأمراض إلا بخوارق للعادات؟ هذه إنما هي تبخر للماء وتجمع على الأنوية في السماء وبالتالي يتكاثف الماء وتحت ضغط الجاذبية الأرضية تنزل. عالم يعني يا حبيبي ما التعارض بين هذا كله، بين الأسباب المادية الظاهرة التي نعرفها وبين أن الله عز وجل أوجد هذه الخواص وأوجد هذه القوانين وأنه يسوق هذا المطر رحمة بعباده؟ هذا حق وذلك حق.

النظريات العلمية الثابتة أو دعونا نقول الحقائق العلمية الثابتة حق، وفي المقابل أن الله عز وجل ينزل الغيث رحمة بالعباد حق، دلت عليه الأدلة ذاتها التي نستخدمها لإنتاج الـ "Science" (العلم الرصدي التجريبي). بالتفصيل في رحلة اليقين في حلقات الرد على من يقول: "لا تخلطوا الإيمان بالعلوم المادية"، وفي حلقة "الدليل العلمي على وجود الملائكة" (طبعًا عنوان مستغرب لدى كثيرين لكن روحوا شوفوها)، وفي حلقة "هل يمكن إثبات وجود الله علميًا؟" وسنضع لكم الروابط إن شاء الله في التعليقات.

الأمراض النفسية: ابتلاء أم اضطرابات فسيولوجية؟

إذن إخواني، نعم قد يقدر الله غمًا وكآبة على عبد تطهيرًا له من ذنب أحدثه، ويكون هذا الغم والكآبة بأسباب معتادة يعرفها البشر. الآن بالنسبة للأمراض النفسية، يعني من قبيل الشيء بالشيء يذكر، الأمراض النفسية كالاكتئاب والسكيزوفرينيا وثنائي القطب والقلق وما إلى ذلك، هل هي عقوبات أو ابتلاءات أو تطهيرات ربانية أم أنها اضطرابات فسيولوجية ناتجة عن نقص السيروتونين أو زيادة الدوبامين في الـ "Mesolimbic Area" إلى آخره من التصنيفات التي نتكلم بها عادة؟

أقول إخواني مرة أخرى لا تعارض حقيقة. من طول نفس في دراسة هذا الموضوع ومن استقراء طويل للأدلة وسؤال واستشارة في الموضوع، ما خلصت إليه والله تعالى أعلم أن هناك استعدادية وراثية للأمراض النفسية أو ما نسميه بالـ "Predisposition". هناك استعدادية وراثية للأمراض النفسية، هذه الاستعدادية لا تعني أن هناك جينًا معينًا إن وجد لديك فسوف تصاب بالاكتئاب أو بالسكيزوفرينيا أو الذهان أو غيره، وإنما تكون أكثر عرضةً للإصابة بهذا المرض إن اجتمعت عوامل أخرى، لأن هذه الأمراض "Multifactorial" يعني عديدة العوامل، عديدة المسببات. هناك استعدادية وراثية لا يتعزى إلى جين معين، صعب جدًا عزوها إلى جين معين على كروموسوم معين.

وفي الوقت ذاته هناك عوامل أخرى "Physical Disorders". وإذا أصاب المؤمن اكتئاب فإنه يكون أقدر على التعامل معه والصبر عليه، ويكون أبعد عن الوقوع في أشياء مثل الانتحار التي يقع فيها كثير من مرضى الاكتئاب غير المؤمنين أو نسبة منهم. كذلك مثل مرضى الـ "Bipolar" نسبة منهم تنتحر. الإنسان المؤمن لا يكون أقدر على الصبر، أقدر على التعامل، أبعد عن الوقوع في مشاكل مثل الانتحار وغيره إذا أصيب بهذه الأمراض النفسية.

الإيمان والعلاج النفسي

ولذلك أنا لم يجيني واحد ويقول أن عندي الأعراض التالية، لا أقول له لأن عندك اكتئاب، وإنما أقول له: "راجع طبيبًا نفسيًا، راجع معالجًا نفسيًا". وعادة أقدم المعالج النفسي في عامة الحالات. أقول له في الوقت ذاته: "عليك بأذكار الصباح والمساء، ارقِ نفسك، اقرأ كتاب الله عز وجل، واقرأ كتاب حسن الظن بالله الذي كتبته". وفي الوقت ذاته نحيله إلى طبيب نفسي أو إلى معالج نفسي. لا يتعارض هذا مع ذاك مطلقًا يا كرام.

وليس كل من يصاب بمرض نفسي فهو عاص مذنب، لا. هناك مؤمنون قد يصابون بالأمراض النفسية، لكن مرة أخرى الإيمان والصلاح أدعى لحسن التعامل مع هذه الأمراض ويجنب المرء الإصابة بها إلى حد ما. يعني نسبة الإصابة في المؤمنين الذين يفهمون إيمانهم ويفهمون إسلامهم ومطمئنون سعداء بإسلامهم لأنهم يفهمونه جيدًا، هؤلاء أبعد عن الإصابة بهذه الأمراض والله تعالى أعلى وأعلم.

الخلاصة

إذن في الخلاصة يا كرام، لما نقول أنك قد تغتم بذنب قديم لم تحدث منه توبة ونسيته ولكن الله لم ينسه، قد تغتم لأنك قائم على معصية تبلد إحساسك تجاهها، قد تغتم لأنك تركت واجبًا ورأيت أن الله عز وجل لم يعاجلك بعقوبة دنيوية فاطمأننت ونسيت هذا الواجب أو فتر إحساسك بالذنب تجاه تركه. فما دام نقول "قد"، فنحن لم نجانب الصواب، لأننا لم نحصر سبب الغم في المعصية والذنب القديم ولا الحديث، وإنما نقول المؤمن حساس ونفسه لوامة يراجع نفسه إذا ما أصيب بالغم والحزن والكآبة فيصلح وضعه. ولا يمنعه ذلك من الأخذ بأسباب إزالة الغم الدنيوية، وإذا كان مريضًا أن يأخذ العلاجات. والله تعالى أعلى وأعلم.

والسلام عليكم ورحمة الله.