السلام عليكم ورحمة الله.
الفرق بين تطبيق الحدود وتطبيق الشريعة
إخوة الكرام، نسمع كثيرًا أن الجماعة المجاهدة الفلانية لا تطبق الشريعة، بينما الجماعة الأخرى تطبقها. وعندما نسأل: ماذا تقصدون بتطبيق الشريعة؟ يتبين أن المقصود تطبيق الحدود كقطع يد السارق مثلاً. هنا نبين إخواني أن تطبيق الحدود ليس هو ذاته تطبيق الشريعة، بل أحيانًا تطبيق الشريعة يحرم تطبيق الحد، بحيث يكون تطبيقه عاملاً بخلاف الشريعة.
بينا سابقًا أن العبارة الأصح من "تطبيق الشريعة" هي "إقامة الشريعة"، ولذلك سنستخدمها في باقي الكلمة. وبينا حينها أن المسلمين جميعًا مكلفون بإقامة الشريعة ما استطاعوا، في وجود التمكين وفي غيابه، سواء تبوأوا منصب الحكم أو كانوا محكومين.
دور الإمام في إقامة الحدود
لكن المكلف تحديدًا بتطبيق الحدود ومن أنيط به تنفيذها هو الإمام المسلم الذي يحكم أرضًا للمسلمين عليها سلطان مستقر، وليس أفراد المسلمين. فإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة، كما قال ابن تيمية في الفتاوى. ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب". والحديث صححه الألباني وحسنه غيره.
أي أنه لو أتى رجل ما يستلزم حدًا كالسرقة أو الزنا أو شرب الخمر، فلجماعة المسلمين ألا ترفعه للإمام وأن تستر على الفاعل وتصلح شأنه. لكن إذا بلغ الأمر إلى الإمام أو من ينوب عنه، فقد وجب عليه إقامة الحد. وهذا يدل على أن جماعة المسلمين دون إمام ليست هي المخاطبة بإقامة الحد ولا يجب عليها، ولو وجب عليها لما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الحالتين، ولما جاز لجماعة المسلمين أن تعفي من أتى حدًا دون علم الإمام من إقامة الحد عليه.
ويدل على ذلك أيضًا حديث صفوان بن أمية أنه أتى بسارق سرق ثوبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي بقطع يده. فقال صفوان: "إني لم أرد هذا يا رسول الله"، وهو عليه صدقة. إذن إخوتي، فالمخاطب بإقامة الحد هو الإمام الذي اختاره المسلمون عن رضا وتشاور في أرض للمسلمين عليها سلطان مستقر، الإمام أو من ينوب عنه كالقضاة والولاة.
حالة الشام وإقامة الحدود
هل هذه هي الحالة في الشام، في الأرض التي تتواجد فيها جماعات مقاتلة متنوعة؟ هل للمسلمين سلطان مستقر ثابت وقد ارتضوا لهم إمامًا؟ أم أن الحالة حالة دفع عدو صائل ومحاولة لاسترداد سلطان المسلمين من الكافر، والأرض لا زالت أرض حرب وكر وفر؟
إن قلنا أنها أرض حرب، وهذا الظاهر، وسلطان المسلمين لا زال مسلوبًا فضلاً عن أن يمنحوه لإمام يتفقون عليه، فإقامة الحد في هذه الحالة ليست من الشريعة. وفي الحديث الذي صححه الألباني وحسنه غيره: "لا تقطع الأيدي في الغزو". أي أن إقامة الحد في هذه الحالة هو مخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وعمل بخلاف الشريعة، لأن الأرض أرض غزو والمخاطب بإقامة الحد وهو الإمام غير موجود في هذه الأرض. فأمراء الجماعات المقاتلة ليسوا الإمام الذي أنيطت به إقامة الحدود. فالحد في هذه الحالة لم يجب أصلاً على الجماعات المقاتلة حتى نقول أنها أقامت الحد أو عطلته.
الرد على الاعتراضات والمقارنة بالدعوات الديمقراطية
قد يقال حينئذ: فبماذا اختلف هذا القول عن أصحاب الدعوات الديمقراطية الذين يرفضون تطبيق الحدود ويجعلون النظام الجنائي من اختيار البشر؟ فالجواب هو أن هؤلاء لم يقروا بسيادة الشريعة ابتداءً، بل حكموا أهواء البشر وآراءهم بدلًا من الشريعة، فحكمهم حكم من خارج الشريعة بدعوى أن الوضع لا يناسب إقامة الشريعة. بينما ما نتكلم عنه هو حكم من داخل الشريعة ذاتها، وقصارى إعمال العقل في هذه الحالة هو طرح التساؤل.
قد تتشابه الصورة في الحالتين فلا يقام الحد، لكن الفرق الكبير جدًا هو أن دعاة الديمقراطية لم يقيموه تعطيلاً للشريعة وتحكيمًا للبشر. بينما من يعمل بما شرحنا إنما لا يقيم الحد التزامًا منه بأمر الشريعة التي قاده اجتهاده إلى أنها تمنع من إقامة الحد في هذه الحالة. فهو فرق ما بين الاحتكام إلى البشر والاحتكام إلى رب البشر سبحانه وتعالى.
المسائل الفقهية والخلاف فيها
هل المسألة خلافية؟ هل يجوز لجماعات مقاتلة إقامة الحدود؟ وما حد التمكين واستقرار السلطان الذي يبيح ذلك أو يوجبه؟ وإن لم نقم الحد فكيف نمنع السرقة والزنا وشرب الخمر؟ هل بالتعزير؟ وأي تعزير نستخدم؟ هذه كلها أسئلة فقهية يقبل فيها الخلاف.
لكن المهم أن نفهم أنها مسائل فقهية، لا أن الذي لم يقم الحد بناءً على ما تقدم يكون معطلاً للشريعة وبالتالي نتهمه في عقيدته ودينه. لا، الذي اجتهد بناءً على ما تقدم فلم يطبق الحدود فلا يقال عنه إنه لم يطبق الشريعة بشكل كامل من هذه الناحية، بل هو لا يطبق الحدود وهو بهذا مقيم للشريعة من هذه الناحية وإن قاده اجتهاده إلى عدم إقامة الحدود. ومع ذلك أقامها، فإنه لا يقال عنه أنه أصبح يطبق الشريعة بشكل كامل، بل إنه قد عطل الشريعة من هذه الناحية لأنه عمل بخلاف ما تأمر به لمثل هذه الحالة.
نقد موقف "الدولة الإسلامية" (داعش)
قد يقول قائل: طيب أليست الدولة الإسلامية في العراق والشام أحسن حالاً إذ أنها تطبق الشريعة بشكل كامل؟ نعود فنقول: تطبق الحدود، وليس تطبيق الحدود وإقامة الشريعة الشيء ذاته. لكن للسارق فيه شبهة، حينئذ لن نعيب عليكم إقامة الحد بحد ذاته، بل سيكون نقاشنا معكم: هل أنتم دولة إسلامية ممكنة وإمامكم هو الإمام الشرعي الذي أنيط به إقامة الحد أم لا؟ فإن ثبت أن هذه الشروط متوافرة فيكم لم نعِب عليكم إقامة الحد، وإن ثبت خلافه كانت إقامة الحد فرعًا عن أصل فاسد.
لذا فليس من الإنصاف أن نقول من عيوب جماعة الدولة أنهم يدعون دولة وإمامًا، ومن عيوبهم أيضًا أنهم يقيمون الحد. لأننا بذلك نقول قد جعلنا إقامة الحد خطأً إضافيًا، مع أنه إن صحت لهم دولة وإمام لم تكن إقامته خطأً بل واجبًا. لذلك فإنما نناقش الأصل الذي عليه بنوا إقامة الحد.
دعوة للإنصاف بين الفصائل
ونحن كذلك نطالب جماعة الدولة أن تنصف بقية الفصائل التي تلتزم بسيادة الشريعة ولم تقم الحدود بناءً على الاجتهاد الذي فصلناه، فلا تجعل عدم إقامتها للحد تعطيلاً للشريعة، فإنما هو فرع عن أصل ألا وهو أن هذه الجماعات لا تدعي إمارة ممكنة صاحبة سلطان مستقر وإمام اختاره المسلمون. فإن شئتم فناقشوها في هذا الأصل لا فيما تفرع عنه من عدم إقامة الحدود.
ولا يقال إن إقامة هذه الفصائل للشريعة أنقص من إقامتكم، وليس من العدل أن يدعى الناس إلى تركها بحجة أنها لا تطبق الحدود بينما أنتم تطبقون. إنما يدور النقاش على أي الفصائل أقوم بالشريعة، والتي تشمل أول ما تشمل في حالة الشام دفع الصائل الكافر وقبول الاحتكام في الأمر كله إلى شريعة الله تعالى، سواء في الخصومات بينها وبين الناس أو بينها وبين الفصائل الأخرى برها وفاجرها، وقيامها بذلك على نفسها وقادتها قبل قيامها به على الناس.
والله تعالى أعلم والسلام عليكم ورحمة الله.