الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
إخوة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله.
مقدمة
هذه الكلمة رد على أسئلة وردتني من العديد من الإخوة المتابعين لسلسلة "نصرة للشريعة"، فحواها: هل نشارك في الانتخابات الرئاسية؟ لذا، فأرجو ممن لم يتابع السلسلة، خاصة الحلقات الأخيرة، ألا يشغل نفسه وإياي بمتابعة هذه الكلمة، ثم مناقشة جزئيات منها طرحت بالتفصيل في السلسلة.
موقف من الديمقراطية ومنصب الرئاسة
فأقول إخواني وبالله التوفيق: أنا في السلسلة أتأنى بالمتابعين لأن الحق ثقيل على نفوس الكثيرين، والهدف في المقام الأول هو تصحيح المفاهيم وتوضيح السبيل وحمل الناس على الحق، وليس الإدانة والاستعداء. لكن مع ذلك، الطرح المقدم في السلسلة واضح: أن الديمقراطية نظام شركي يقوم على إعطاء حق التشريع للبرلمان من دون الله تعالى، والدستور ينص على ذلك كما فصلنا.
ومنصب الرئاسة في هذا النظام الديمقراطي يمارس دوره في إقرار وتنفيذ هذه الطقوس الشركية التشريعية. فالمادة 79 من الدستور تلزم الرئيس أن يقسم بالله العظيم أن يحترم الدستور والقانون، والمادة 25 من الإعلان الدستوري تلزمه أن يحترم الدستور وسيادة الشعب وسيادة القانون. والمواد 108، 109، 113، 136، 137 من الدستور تبين أن دور الرئيس هو تنفيذه لتشريعات الدستور والبرلمان. وإذا أراد سن قانون، فإنما يقترحه على مجلس الشعب، وإذا سن مجلس الشعب قانوناً ورده الرئيس، عاد إلى المجلس الذي له أن يفرض القانون بأغلبية الثلثين، وليس للرئيس أن يحل البرلمان للسبب نفسه مرتين.
خلاصة هذا كله أن الرئيس رأس منظومة تجعل الحاكمية للبرلمان لا لله، والسيادة للشعب لا للشريعة، والمرجعية للدستور لا لدين الله. وقد بينا أنه حتى ولو نتج عن هذه المنظومة تطبيق أحكام من أحكام الشريعة بإذن البرلمان، فإن مجرد إخضاع الأحكام لتصويت البرلمان يعد شركاً بالله تعالى. ولا يستطيع الرئيس أبداً أن يتجاوز البرلمان ويقول: "سأطبق الشريعة لأنها دين الله، رضي من رضي وسخط من سخط".
فانتخاب شخص ما ليكون رئيساً هو انتخاب شخص ليقوم بجريمة الشرك في التشريع من دون الله. فالرئيس هذا دوره: المشاركة في تشريع وتنفيذ أحكام البشر. تصور لو قيل لك: اذهب وانتخب أحد شخصين ليشرب الخمر، هل تنتخب؟ هل تنتخب في هذه الحالة؟ أنت عندما تذهب تنتخب رئيساً في هذه المنظومة الديمقراطية، تنتخب شخصاً ليقوم بأكبر المعاصي ورأس المنكرات وأصل الموبقات، ألا وهو الشرك بالله تعالى في التشريع والإلزام بالطاعة.
رفض فقه المصلحة والمفسدة
لذا إخواني، فأنا أعتب على المتابعين للسلسلة الذين يسألونني بعد هذا كله: فما رأيك في الانتخابات؟ ما الذي علينا فعله تجاهها؟ لا يتوقع إخواني مني أن أقول لهم بعد هذه المقدمة كلها: صحيح أن النظام الديمقراطي نظام شركي، ومنصب الرئاسة مشاركة في هذا الشرك، وصحيح أن الله تعالى قال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقال: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72].
لكن مع ذلك، انسفوا كل أدلة القرآن والسنة وعطلوا معناها بعبارة "المصلحة والمفسدة"، أقدموا على مفسدة الشرك بالله من أجل دفع مفسدة عودة الفلول إلى الحكم، ضيعوا مصلحة التوحيد وإفراد الله بالتشريع والطاعة من أجل مصلحة أن يشغل هذا المنصب الشركي شخص إسلامي. لا تتوقعوا مني إخواني أن أقول هذا الكلام.
دين المصلحة والمفسدة هذا الذي يبطل كل دليل ويخضع النصوص لأهواء البشر تحت مسميات تبدو شرعية، وتطبيق أبعد ما يكون عن نهج السلف الصالح، هذا الدين نحن نرفضه جملة وتفصيلاً. والبيان والأدلة والتأصيل والتفصيل في السلسلة المنهجية التي أسير فيها. أما هنا فيكفي أن أقول أنه لا مفسدة أكبر من المشاركة في هذه العملية الديمقراطية.
إن سلمت لي يا أخي بأن الديمقراطية شرك، فانتخابك لرئيس يعني إنابتك لمن يمارس الشرك عنك. انتخابك لرئيس في هذه المنظومة الديمقراطية يعني إنابتك لمن يمارس الشركة التشريعية عنك. الانتخاب إنابة، أنت بانتخابك رئيساً تنيب عنك من يمارس شرك التشريع من دون الله تعالى.
دين المصلحة والمفسدة الهوائيين، بناءً على الهوى لا الشرع، وصل بالبعض أن يقول: إذا وصلت المسألة أن تنتخب بين النصراني واليهودي، فانتخب النصراني! أنا أسأل يا إخواني: ماذا ستفعلون يا أصحاب المصلحة والمفسدة الهوائيين؟ على قاعدتكم وفقهكم ستحشدون الشعب ليؤيد الخمر والزنا من قبيل ارتكاب أخف الضررين وتحمل أدنى المفسدتين، وهو ذاته الفقه الذي جعل حزباً من الأحزاب يؤيد لمنصب الرئاسة رجلاً كان أفراد الحزب أنفسهم يقولون إن تصريحاته مخرجة من الملة، إذ كان يؤكد على احترام رأي الشعب إن رفض مرجعية الشريعة، وأن للملحد الحق في نشر أدبياته على نفقته الخاصة، وأن للمسلم الحق في أن يتحول إلى النصرانية، وأنه لا مانع لديه إن أصبح رئيساً أن يكون هناك في مصر حزب شيوعي وحزب علماني وكل الأحزاب.
فقه المصلحة والمفسدة أوصل حزباً من الأحزاب الإسلامية أن يدعم هذا ليكون رئيساً. أم ستقولون يا ترى: بل يعتزل المسلمون هذه المهزلة، مهزلة الانتخاب بين الخمر والمخدرات والزنا والشذوذ؟ أقول لكم حينئذٍ: فمهزلة انتخاب شخص ليملأ الكرسي الأعلى في نظام شركي أعظم وأخطر من مفسدة الخمر والمخدرات والزنا والشذوذ، فلماذا لا تأمرون الناس باعتزال هذه الانتخابات الشركية؟ أليس ذلك أولى؟
أنا بريء من هذا الدين الجديد، دين المصلحة والمفسدة الهوائيين، الذي علم الناس عدم احترام النصوص وتجاهلها، هذا الدين الذي يجعل الإنسان بلا ثوابت. وإن كان رفضي له جموداً وتحجراً، فأحمد الله عليهما. وكما قال الإمام الذهبي: "لعن الله الذكاء بلا إيمان، ورضي الله عن البلادة مع التقوى".
المطلوب: اعتزال المهزلة الديمقراطية
ما المطلوب إذن؟ المطلوب اعتزال هذه المهزلة القائمة على اختيار شخص ليملأ الكرسي الأعلى في هذه المنظومة الشركية. سيقول قائل: لكن ماذا عن المادة الثانية في الدستور؟ ارجع يا أخي للحلقين الأخيرتين من سلسلة "نصرة للشريعة" لتتعرف على هزلية المادة الثانية. ستقول: الإسلاميون سيغيرون الدستور. يا حسرة! يا حسرة! أي تغيير للدستور وهم قد باعوا الهدف من أجل الوسيلة؟ أي تغيير للدستور وحضرة المرشح الإسلامي المحترم بعد أن طنطنت حملته بتطبيق الشريعة وبخلافة إسلامية عاصمتها القدس، يؤكد على استعداده لتقديم تنازلات للأحزاب الأخرى تتعلق بتشكيل الجمعية التأسيسية للدستور ومؤسسة الرئاسة وحكومة التوافق الوطني والأجندة التشريعية وإشراك الأقباط والأحزاب الليبرالية والعلمانية والناصرية في ذلك. يعني في سبيل الوصول إلى الرئاسة مستعد أن يشرك النصارى والعلمانيين في كتابة الدستور. الدستور دين الدولة، فانظر إلى المهزلة.
سلطات الرئيس حسب الدستور والإعلان الدستوري محدودة، ولا يملك أبداً بآلياتها تطبيق الشريعة. وفي سبيل الوصول إلى هذا المنصب يبيع الدستور الذي يدعي أنه يريد إصلاحه. يبيع الدستور الذي يدعي أنه يريد إصلاحه. حتى على الفكر المصلحي البحت، بعيداً عن التأصيل الشرعي، كان الأولى بهم أن يتمسكوا بالانفراد بكتابة الدستور وتشكيل المحكمة الدستورية، حتى ولو أدى ذلك إلى التضحية بمقاعد البرلمان ومنصب الرئيس، لأن الدستور دين الدولة الذي يفرض ويمنع ويثيب ويعاقب ويلزم الجميع باتباعه. ومع ذلك يبيعون الدستور من أجل مناصب رئاسية وبرلمانية محكومة بهذا الدستور.
وفي الواقع، في ظني حتى لو لم يشرك هذا الفصيل الإسلامي أحداً في كتابة الدستور ووكل إليه كتابة الدستور كاملاً، فلن يصلح من أمره شيئاً، لأنه جعل التوافقية هدفه الأسمى. جعل هدفه الأسمى التماس رضا الناس والأقباط والعلمانيين والليبراليين، حيث يؤكد المرشح الإسلامي في مؤتمره قبل أسبوع على توافقية الدولة وأن الأمة هي مصدر السلطات والسيادة للشعب. وهذه هي المفاهيم الديمقراطية بأقبح أشكالها.
ثم لا يجوز يا إخواني في مثل هذا المقام أن يموه على الناس ويلبس عليهم بتطبيق مشوه لمصطلحات شرعية، كأن يقال: ارتكاب أخف الضررين. هل هناك من يجرك من بيتك ويجبرك على أن تنتخب وإلا قتلك؟ الخيار ليس بين المرشح الإسلامي ومرشح الفلول ليملأ هذا المقعد الشركي، بل الخيار الأوحد هو اعتزال هذه المنظومة برمتها والعمل على إبطالها وإنكار هذا المنكر بقلبك ولسانك.
إخواني، المشاركة في الانتخابات الديمقراطية إقرار للمنظومة الديمقراطية التي قامت على أساسها، هذه المنظومة التي تعطي لكل زنديق وكافر أصلي حقاً أن يكون رئيساً ويحكم الشعب إذا اختاره الشعب. بعيداً عن كل المقدمات المذكورة، مجرد وجود شفيق المحارب لله ولدينه ولرسوله، هذا الذي يصرح مراراً وتكراراً بأنه يريد أن لا يطبق الشريعة وأن يلغي نصوص القرآن من المناهج، وأن نرضى بما تفرزه الصناديق بنتيجة أن هناك إله أو ليس هناك إله. هل تحتكم إلى الصندوق وتقول أنا سيكون صوتي أن هناك إله؟ حالتنا هذه شر وأخبث.
فالخيار ليس تحكيم الله أو تحكيم البشر، بل الخيار الأوحد للصناديق تحكيم البشر. وإنما النزاع عمن سيرأس منظومة تحكيم البشر. أنت لا يجوز لك أن تقبل بالاشتراك في اقتراع على تحكيم الله أو تحكيم البشر، لأن مشاركتك إخضاع لمسألة لا تقبل الاختيار، إخضاع لها لآراء البشر، ثم هي إقرار منك بالنتيجة لأنك جعلت الصندوق هو الحكم. فما بالك في اقتراع نتيجته محسومة: الحكم لغير الله، إنما الخلاف على من سيقوم بهذا الحكم.
الغريب أن الأحزاب الإسلامية الديمقراطية ومن انخدع بها يسوغون لأنفسهم أن يتهجم بعضهم على بعض لحجج وتحليلات سياسية: الحزب الفلاني يتلقى دعماً خارجياً من الدول الأخرى، يتحكم بكلمته، الجماعة الفلانية قدمت مرشحها بعدما تعاهدت ألا تفعل، ترشيح فلان يفتت الأصوات. هذا كله يبيح عندهم الطعن والتخطئة والإنكار والتشكيك في النوايا. أما نحن عندما نأتي بالحجج الشرعية فإننا لا نُعذر، بل نطالب بغض الصوت وأن نتقي الله فيما نقول في هذه الفترة العصيبة، وأن يتسع صدرنا للخلاف في هذه المسألة التي نراها شركاً. هذه الازدواجية من تأثير دين المصلحة والمفسدة. فنحن من بضاعتنا النصوص والحجة الربانية، علينا أن نسكت. أما من بضاعته المصلحة والمفسدة والتحليلات والآراء العقلية الهوائية، فله أن يصول ويجول ويخطئ ويصوب. سبحان الله العظيم.
الواقعية السياسية وأخطاء الإسلاميين
إذن، كان هذا من الناحية الشرعية. ولابد من التذكير بأن هذه الكلمة هي جواب عن أسئلة وردتني وليست تأصيلاً شرعياً للمسألة. الذي يريد التأصيل واستعراض الأدلة والرد على الشبهات فعليه بمتابعة سلسلة "نصرة للشريعة".
أما من الناحية الواقعية، فلا أدري ما الحد اللازم من استخفاف واحتقار المجلس العسكري للإسلاميين البرلمانيين حتى يستفيقوا. نحن للأسباب المذكورة آنفاً كنا نرى أن لا خير سيأتي من العملية الديمقراطية الانتخابية هذه. فعملية قائمة على الشرك لن يبارك الله فيها. فما بالك بعد أحداث شارع محمد محمود، ثم استبعاد من شاء من المرشحين، ثم ما بالك بعد أحداث العباسية، ثم دخول رموز النظام السابق مسرحية الانتخابات الهزلية، ثم تبرئة رموز النظام السابق والقتلة الذين تلطخت أيديهم بدماء الثوار. هل بقي أمل لديكم أيها البرلمانيون في هذه العملية؟
أيها الإسلاميون البرلمانيون، ماذا حصل لكم؟ ألم تعقلوا بعد أن هذه العملية الديمقراطية ما جرت عليكم إلا نقصان ثقة الشعب فيكم وبدعوتكم؟ ألا ترون أنكم أصبحتم جزءاً من النظام الجاهلي تعملون على توطيد أركانه؟ نزعتم فتيل الثورة بحجة الميل بالبلاد إلى الاستقرار، فضحك عليكم العسكري بمقاعد البرلمان الهزلي، ووطد في المقابل أركانه باستخدامكم، واستأسد عليكم وعلى الشعب وعلى الثورة من جديد. ثم أصبح يجهض بكم وباستخدامكم كل محاولة جديدة لإحياء الثورة.
فأحداث محمد محمود أجهضت بأن الانتخابات النيابية قادمة وأنتم من روج لذلك. وأحداث العباسية أجهضت بأن انتخابات الرئاسة قادمة، وسيستخدمكم العسكري لإجهاض الغضب الشعبي بعد محاكمة مبارك على اعتبار أن جولة الإعادة لانتخابات الرئاسة قادمة. أصبحتم موطدين لأركان الجيش وأزلام النظام البائد مقابل أن تشتركوا في هذا الحكم الشركي. بئس الثمن وبئس ما تشترون. ثم تفاخرون بعد ذلك بأنكم أججتم الثورة في بدايتها. أية مفخرة في ذلك إن أحبطتموها بعد ذلك فأصبحت محرقة للشعب المسكين وتحطيماً لمعنوياته وبئداً لآماله.
في كل مرة يهينكم المجلس العسكري ويبلد أحاسيسكم ويذلكم بقتل المتظاهرين واستبعاد من يريد استبعاده وتبرئة مجرمي النظام السابق، وأنتم لازلتم في أوهامكم وأحلامكم وترويض العسكري لكم، وتتخيلون بعد هذا كله أنكم ستصلون من خلال هذه المهزلة إلى تنصيب رئيس مطاع ممكن يقول للجيش "لا". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"، وأنتم لدغتم ألف مرة. فالمشكلة فيكم.
ماذا علينا أن نفعل؟
فالخلاصة: ماذا علينا أن نفعل؟ ماذا علينا أن نفعل؟ ما على كل مسلم فعله: الانسحاب من وحل الديمقراطية ومن مجالسها وانتخاباتها فوراً، وإعلانها نقية صافية. كرسي الرئاسة في مصر كرسي شرك، لم يقم كرسي الإسلام حتى نشغله. نريد الإسلام أن يحكم لا أن نبحث عن حاكم ليشغل هذا الكرسي الديمقراطي.
يقول قائلهم: يعني ننسحب من هذه العملية ونترك البلاد والعباد للفلول العلمانيين والنصارى؟ أليست هذه سلبية؟ لكن اتركوا لهم باطلهم، اتركوا الانخراط في ديمقراطيتهم الشركية، اتركوا لهم سيادة البرلمان، اتركوا لهم القوانين الوضعية، اتركوا لهم التبعية الذليلة للغرب، اتركوا لهم هذه الأباطيل كلها ولا تزاحموهم فيها. لا تقولوا: اجعل لنا مقاعد كما لهم مقاعد، كما قال بنو إسرائيل من قبل: {اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]. قال: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}.
اتركوا لهم حثالتهم، وفي المقابل لا تتركوا لهم ساحات الدعوة إلى الله عز وجل. لا تتركوا الصدع بالحق، لا تتركوا تعليم الناس أن الحكم لله، لا تتركوا التحذير من شرك التشريع والطاعة، لا تتركوا فضح الباطل وتعريته، لا تتركوا قلع الأشواك ومعالجة تشوه المفاهيم الذي وقع في صدور الناس جراء فقه المصلحة والمفسدة غير المنضبط والانخراط في العملية الديمقراطية. لا تتركوا إحياء الولاء والبراء في القلوب، لا تتركوا تثوير الناس وتحريضهم على الباطل وأهله، لا تتركوا البسطاء من الناس يلعب العلمانيون والفلول بعقولهم وينفثون فيهم سمومهم ويلبس عليهم بعض الإسلاميين أنفسهم وللأسف.
لا تتركوا الأخذ بالأسباب، أسباب النجاح الدنيوية والتغلغل في طبقات المجتمع وإتقان أعمالكم ورسم قصص النجاح في مجالاتكم، ليعلم الناس أن دعوتكم دعوة إيجابية، بدلاً من استنزاف الطاقات وهدر الأوقات في هذه اللعبة الديمقراطية الهزلية ترشحاً وانتخاباً. حافظوا يا أصحاب المنهج النقي البعيد عن الديمقراطية، حافظوا على تمايزكم ونقائكم حتى إذا بان للناس سرابية طريق الديمقراطية وحمضليتها، رجعوا إليكم ووثقوا بكم إذ أنكم لم تغوصوا في أوحالها.
ثم أيها الإسلاميون البرلمانيون، لا زال لديكم بقية احترام من الشعب. مليون أسقطوا النظام، فكيف بالعشرة ملايين التي انتخبت مرشحين على اعتبار أنهما إسلاميان؟ وكيف إذا انضم إليهم ملايين من الناخبين الذين اعتزلوا الانتخابات يأساً وفقدان ثقة في الإسلاميين بعد أن رأوا تتابع فشلهم وتخاذلهم؟ ولا زال الأمل قائماً في أن يناصر هؤلاء من يرفع الراية نقية. ثم كيف إذا انضم إلى كل من سبق من يكفر بالعملية الديمقراطية برمتها وسينضم إلى من يرفع لواء نقياً؟ فمن حيث الواقع، الناس فيهم كرامة وحب للحرية والتضحية، ولكن يريدون قدوات. مارستم في الشهور الماضية دور التخذيل والتنازل والتميع، فكفروا عما سلف وكونوا قدوات في إباء الظلم والدعوة إلى شريعة الله نقية، قبل أن يكتمل سقوطكم من عين الله ثم من عيون الشعوب.
ثمن الحرية والكرامة
قد يقال: لكن الاضطراب في الشارع من جديد سيؤدي إلى مأساة. مأساة الآلام واقعة على كل حال، والدم سيهدر على كل حال. ووعيد ما نقلته عن سيد قطب في الكلمة السابقة عن العباسية حيث قال رحمه الله: "بل شاهدت شعوباً بأسرها تشفق من تكاليف الحرية مرة، فتظل تؤدي ضريبة العبودية مرات، ضرائب لا تقاس إليها تكاليف الحرية ولا تبلغ عشر معشارها. وقديماً قالت اليهود لنبيها: {يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلْ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. فأدت ثمن هذا النكول عن تكاليف العزة أربعين سنة تتيه في الصحراء، تأكلها الرمال وتذلها الغربة وتشردها المخاوف، وما كانت لتؤدي معشار هذا كله ثمناً للعزة والنصر في عالم الرجال. إنه لابد من ضريبة يؤديها الأفراد وتؤديها الجماعات وتؤديها الشعوب، فإما أن تؤدى هذه الضريبة للعزة والكرامة والحرية، وإما أن تؤدى للذلة والمهانة والعبودية". انتهى كلامه رحمه الله.
طيب، هل سيأتي هذا برئيس إسلامي؟ لو لم يأت بهذه الطريقة، لو لم يأت الرئيس بهذه الطريقة، ولو لم يكن لهذه الثورة فضل إلا أن تمنع الكفر من أن يربض على الصدور وأن لا يقر له قراراً في بلاد مصر، فهذا تحقيق لواجب عظيم إلى أن يمن الله بالنصر على المسلمين، بغض النظر أين يبدأ الفرج والنصر من مصر أم من غيرها. المهم أن لا يسمح أهل مصر بعد ثورتهم وتضحياتهم لحكم جاهلي جديد أن يجثم على صدورهم.
خاتمة
ختاماً، أعيد التذكير أن هذا رد استدعته الحاجة والوقت، أما التأصيل والتفصيل ففي السلسلة التي أسير فيها. فأرجو ممن لديه ملاحظة أن يناقش الطرح المفصل في السلسلة، وإلا فالأخذ والرد دون العودة إلى هذا التفصيل ودون وجود قاعدة مشتركة للنقاش قليل الثمرة. وما كان فيما تقدم من صواب فمن الله، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والله منه براء. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهدينا والعاملين للإسلام لما يحبه ويرضاه، وأن يجنبنا والعاملين للإسلام الزلل والخطأ والآثام، إنه سميع قريب مجيب الدعاء. والسلام عليكم ورحمة الله.